اللعـب مع الكبــار

 


 

عمر العمر
14 May, 2020

 

 

ما كنت أحسب أن جهدي في إطفاء خلاف بين المهدي وغرنغ يتحول إلى زيت يصب على نار الغيرة بين "السيدين". الشقة بين حزب الأمة والحركة الشعبية بلغت عمقاً أحدث صدعاً في بنية تجمع المعارضة. الهوّة إتسعت على عتبة القرن بعد تصاعد ما بات يعرف بـ"حرب الخطابات " بين زعيمي الحزب والحركة. لكن أياً من الطرفين لم يكن راغباً في المضي أبعد مما ذهب.

لمّا أدرك صديقي محمد عبد الباقي - القادم من أبوظبي زائراً- وجود دكتور جون معي على الهاتف تمهّل حتى نهاية المخابرة. سألني وهو يهم بالمغادرة عمّا إذا في وسعي بذل جهد من أجل رأب الصدع بين الدكتور والسيّد. قلت له - مداعباً - ليس في الإمكان التحدث باسم الأمة دون الحصول على "مانديشن" من الإمام. ذلك كان حديثاً أقرب إلى الهزل من الجد جرى عند حدبة مارس من 2003 .
لكن عبد الباقي وهو أنصاريٌ قح وحزبي بالغ التفاني في البذل فاجأني في اليوم التالي بـ "مانديشن" من الإمام. الحديث مع ياسر عرمان لم يكلفني الإفاضة في تقديم مرافعة سياسية من أجل وحدة ومنعة التجمع العليل. هو الآخر فاجأني بإستعداد للتحرك في الإتجاه نفسه من منطلق قناعة بضرورة تجاوز الأزمة واعداً بعرض المسألة على "الرفاق" في القيادة. ذروة المفاجآت تمثّلت في الإستجابة العاجلة في اليوم نفسه على لسان عرمان. تلك البشارة لم تهز فقط الصديق عبد الباقي بل نقل لي دهشة وسرور الإمام.
كأنما أراد الجميع مواكبة إيقاع مسلسل المفاجآت، بدأ الإنهماك في تشكيل وفد الأمة والإعداد لسفره إلى كمبالا. ياسر عرمان وعد بتذليل لمهمة بالتنسيق مع السفارة الأوغندية في الخرطوم وفعل. عندما اقترحت على عبد الباقي تضمين الوفد أحد أفراد أسرة الإمام تعزيزاً لحسن النوايا وعدني بتسمية صديق الصادق لكن الإمام ذهب أبعد من ذلك فسمى حرمه سارة الفاضل- عطّر الله ثرى قبرها - لشيء في رأس الإمام.
قائمة الوفد المرسلة اشتملت إلى جانب سارة على كلٍ من آدم مادبو وصلاح إبراهيم أحمد - تغمده الله بالرحمة والمغفرة -، الأمير الحاج نقد الله - - طيّب الله ذكره وعفا عنه وعافاه - - والدكتور إبراهيم الأمين. وحدهما سارة وصلاح تمكنا من بلوغ كمبالا. الأمير قال لاحقاً لم يتم إبلاغه بالمهمة، مادبو تخلّف لشيء في نفسه بينما تأخر إبراهيم بفعل شييء في نفس الحزب.
الصديق إدريس القاضي وهو قيادي نشط للأمة هناك كان في استقبال الموفدين. عرمان تولى تنسيق نقلهما إلى خارج كمبالا حيث جرت المحادثات مع وفد من الحركة ضم إلى جانب عرمان لعله دينغ ألو وباغان أموم . إبان جلسات معدودة ذاب الجليد ونزل الجانبان من على جبليهما إلى سهل التلاقي والتصالح. اللقاء الثنائي إنتهى ببيان مقتضب ووعد بمخاطبة زعيم الحركة مؤتمر حزب الأمة العام المرتقب منتصف إبريل نفسه.
ذلك وعد لم يتم الوفاء به إذ تعذر على حزب الأمة إرسال موفد إلى كمبالا لإستلام شريط فيديو يتضمن خطاب غرنغ نظراً لضيق الوقت. عوضاً عن الخطاب المسجّل وجّه الزعيم الجنوبي رسالة مكتوبة جرى تلاوتها على المؤتمرين في السقاي. تلك الرسالة كللت جهد لم يمض عليه نحو أسبوعين. تكليل الجهد بلغ ذروته بعد نحو شهر حيث جرى إصدار إعلان ثلاثي بين غرنغ، المهدي والميرغني في القاهرة.
أحد الزملاء ابلغني عن تصريحات للميرغني ينسب فيها إلى نفسه فضل التقارب بين غرنغ والمهدي. ذلك بلاغ عبأ صدري بشحنة من القلق. من يدرك عميقاً بجوانب من شخصيتي السيدين يتوقع حتماً رد فعل غاضب عاجل من قبل الإمام. ليس من طبع أي منه الرجلين التسليم بما من شأنه إمتنان للآخر.
الإمام لم يصطبر على ذلك إذ حملت صحيفة الشرق الأوسط حواراً معه في عددها الصادر يوم الفاتح من يونيو 2003 عن الإتفاق الثلاثي والتقارب الثنائي. في الحوار أشار المهدي إلى جهود سابقة بذلها كل من الميرغني والرئيس النيجيري أوباسانغو للتقريب بينه وزعيم الحركة الشعبية دون حدوث "إجراء عملي".
المهدي ذهب أبعد من ذلك مشدداً على أن "إعلان القاهرة تم نتيجة لوساطة بذلها الصحافي السوداني عمر العمر الذي كان يتابع باستمرار أخبار حزب الأمة والحركة الشعبية وقام بالوساطة بيننا لأنه يرى أن أسباب الخلاف زالت". كما حرص الإمام على القول إ أنه قرر مع غرنغ أن يكون لقاءهما اول عقب جريان المياه عبر قنوات الحزب والحركة في أبوجا أبوجا، لكن إنشغال نيجيريا بتشكيل حكومة جديدة في ضوء إنتخابات أخيرة حملهما على اللقاء في العاصمة المصرية وهكذا "تم اللقاء الثنائي في القاهرة ثم انضم الينا الميرغني".أي أن وجود الميرغني في المناسبة أملته ضرورة نقل اللقاء من أبوجا.
من يقرأ كلام الإمام لا يحتاج إلى إعمال الذهن ليستبين حرصه على توضيح بعد الميرغني عن مسار التقارب الثنائي. ذلك مصدر قلقي رغم قناعتي بأنه ليس غير إضافة عارضة في ركام إرث الغيرة بين السيدين.
أحد الزملاء المصريين من المهتمين بالشأن السوداني قال هازلاً ساخراً وقد أدرك أبعاد التداعيات السلبية لحديث الإمام: يالك من مغامر إذ تتجرأ على اللعب مع الكبار. ثم أضاف سائلاً: لو افترضنا عدم إطلاع الميرغني على تفاصيل التقارب ،أفما من أحد من مساعديه يبلغه بمثل هذا الإختراق؟
يا صديقي – قلت مجاوباً - كما لم لم يكن أحد ممّن هم داخل البلاط الفارسي يجرؤ على إبلاغ محمد رضا بهلوي الحقيقة فما من مساعدي الميرغني من يجرؤ على قول ما لا يحب مولانا سماعه. ألا ترى أن في اللعب مع الكبار بعضاً مما يعبئ الغرور ، فلولا تلك الغيرة المستعرة بين السيدين لما ورد اسم الوسيط. كثير من الصحافيين ينطبق عليهم في بعض الأحداث والمناسبات قول الشاعر في المعلًم" يُذكر العابرون عليه ولا يُذكر المعبر"

aloomar@gmail.com

 

آراء