اللغة الدبلوماسية بين الواقعية والمثالية
محمود عثمان رزق
2 June, 2024
2 June, 2024
محمود عثمان رزق
1 يونيو 2024
عندما جاء عروة بن مسعود الثقفي مبعوثاً من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وأخذ يستنكر ما فعله النبي }ص} بحق قريش وأمنها، قام يهدده قائلاً: "والله ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس - يحقر من شأنهم- أو قال: ما أرى حولك إلا أشواباً -أخلاطاً - من الناس سيفرون منك عما قريب"، فرد عليه أبو بكر قائلاً: "امصص بظر اللاتَ، أنفر عنه نحن؟!"
قال الحافظ في الفتح: "وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يُعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدأ منه ما يستحق به ذلك".
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: " وفي هذا دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمتى ظَلمَ المُخاطَبُ لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن".
وعليه، فإن كان الموقف والوقت يستدعي التصريح بغير اللائق من اللفظ إيثاراً للمصلحة ودفعاً للمفسدة لأن الطرف الآخر لا يفهم لغة أخرى غير هذه اللغة فلا حرج شرعي في ذلك، ولا تعارض بينه وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ليس المؤمن بطعانٍ ولا بلعانٍ ولا الفاحشٍ البذئ." إستناداً على قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا }.
من الواضح لو كان في قول الصِدِّيق العنيف هذا مخالفة شرعية لنهاه النبي {ص} وزجره كما فعل مع غيره ولكنه لم يفعل وهو الذي لا يقر أحداً على باطل. فقد روى ابن هشام في سيرته أن النبي {ص} قد زجر الصحابي سلمة بن سلامة {رض} "حين صادف المسلمون وهم في طريقهم إلى الحرب، رجلاً بدوياً حاولوا أن يستعلموا منه أخبار قريش، فقال له بعض الصحابة: سلّم على رسول الله، فقال: أوَفيكم رسول الله؟ قالوا نعم، فتوجه بحديثه إلى النبي محمد {ص}، وسأله: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ وهنا تدخّل الصحابي سلمة بن سلامة، وقال: أنا أُخبرك؛ نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة. أي أنك ضاجعت الناقة، فحبلت منك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْ، أَفْحَشْتَ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ أَعَرَضَ عَنْ سَلَمَة" {منقول}. وهنا نرى سبب زجره للصحابي هو اعتداء الصحابي على الإعرابي، أما في الحالة الأولى فقد كان هناك إعتداء من عروة على النبي {ص} وصحابته وهو ظالم لهم، ولذلك لم يستحق أبابكر الزجر.
إنَّ خلاصة هذا الكلام إنَّ الدين الإسلامي ليس دين مثالية رومانسية وإنّما هو دين يكابد الواقع الإنساني بكل مشاكله وتعقيداته وقصوره حيث لا مكان في هذا الواقع للمثالية والرومانسية المطلقة، فلذلك جاء الإسلام بشعارات واقعية جداً تناسب الإنسان ومقدراته وواقعه فقال: "فاتقوا الله ما استطعتم" "ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" "ولاتغلوا في دينكم" "وقاتلوهم" "ولا تعتدوا" "ولا تهنوا" "ولا تقنطوا" "واتبع السيئة الحسنة تمحوها" "ولا يحب الله الجهر بالسؤ من القول إلا من ظلم".......الخ من التوجيهات الواقعية.
ومن هنا نعلم أن لكل مقامٍ مقال كما قالت العرب، وفي الحقيقة واقع الناس الطبيعي يقول إنَّ اللغة اللينة الطرية المهذبة ليست مطلوبة ومحبّذة في كل الأوقات والمواقف، خاصة إذا عرف عن المخاطب بها قلة الأدب والعنتظة والكبرياء والصلف والبطش إذا تمكن. ولهذا يجب على أهل السياسة فينا حين يتعاملون خارجياً مع الكل - وخاصة مع الغرب- أن يجيدوا استخدام اللغتين وأن يضعوا اللفظ المناسب في المكان في الوقت المناسب لا يلوون على أحد، ولا يخافون لومة لائمٍ من الناس أو الميديا ولا يتصنعون الأدب والمثالية في مكان غير مكانها.
وفي أمريكا حيث معبد "اللآت المعاصرة" التي تحكم العالم المعاصر، نجد حكامها هم الأكثر بذاءة في العالم، وهم يستخدمون البذاءة للإرهاب والتخويف والإهانة كوسيلة سايكلوجية تكتيكية للوصول لأهدافهم. وقد كتبت كتابات كثيرة عن هذه الظاهرة نذكر بعضها للمثال وليس للحصر:
B. Grace: “Which President was most foul mouthed?”
CNN: “Top 16 foul-mouthed politicians”
The Week: “The cursing president”
New York Time: “The Profanity President: Trump’s Four-letter Vocabulary”
Wahsington Post: “A history of White House profanity”
Rolling Stone: “A Brief History of Presidential Profanity”
وإذا بحثنا في تاريخ أي أمة من الأمم فلن نجد مصادر كهذه تثبت وتؤرخ لبذاءة حكامها وملوكها كما فعلت الصحافة الأمريكية! وهذه المقالات لم تترك رئيساً من الرؤساء الأمريكان إلا ووثقت له بذاءة من البذاءات حتى جون كنيدي وجيمي كارتر وباراك أوباما وبايدين، وقد كان أفحش الرؤساء الأمريكان في نظرهم هم ليندن جونسون ونيكسون وبوش الإبن وترمب. وبذاءة هؤلاء الرؤساء هي جهر بالسؤ من مقام التعدي والتكبر والعنجهية وليست جهراً بالسؤ من مقام المظلومية.
وتجدني أتفق مع الصحفية الأستاذة سهير عبد الرحيم في قولها: "حان وقت التغيير..جاء أوان تبديل سياساتنا، حل زمان التكشير عن أنيابنا، إنه عصر الأستراتيجيات الحديثة والتفكير خارج الصندوق ورد الصفعات وان اقتضى الأمر تغيير جلنا كليا" فقد " مللنا من تلقى الصفعات على خدودنا، ضجرنا من الصمت، ضقنا من المؤمرات الخارجية، ونحن مكتوفي اليدين، نشاهد كل من هبّ ودبّ يمارس صفعاً على وجوهنا وتنكيلاً بأجسادنا"
نعم يا سهير، آن الأوان ليحكم "الشفوت" إن كانوا مدنيين أو عسكريين أو خليط بين ذلك في معادلة سياسية جديدة. لا نريد مثاليين ولا دراويش ولا زهاد ولا جهلاء ولا أكاديميين ولا حمقى ولا عنصريين ولا أممين ولا جبناء. نريد "شفوتاً" دستوريين أولاد "هرمة" وأولاد بلد من المدنيين والعساكر يفهمون كيف يحكم ويدار العالم، يهبّون ليأخذوا حقهم من بين فكي هذا العالم "البلطجي" عنوة واقتداراً، يعطونه شبراً ويأخذون مقابله فداناُ من باب رد البلطجة بمثلها.
نعم، قد حان وقت التغيير والشفتنة بالحق والعدل والإباء!
morizig@hotmail.com
1 يونيو 2024
عندما جاء عروة بن مسعود الثقفي مبعوثاً من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وأخذ يستنكر ما فعله النبي }ص} بحق قريش وأمنها، قام يهدده قائلاً: "والله ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس - يحقر من شأنهم- أو قال: ما أرى حولك إلا أشواباً -أخلاطاً - من الناس سيفرون منك عما قريب"، فرد عليه أبو بكر قائلاً: "امصص بظر اللاتَ، أنفر عنه نحن؟!"
قال الحافظ في الفتح: "وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يُعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدأ منه ما يستحق به ذلك".
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: " وفي هذا دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمتى ظَلمَ المُخاطَبُ لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن".
وعليه، فإن كان الموقف والوقت يستدعي التصريح بغير اللائق من اللفظ إيثاراً للمصلحة ودفعاً للمفسدة لأن الطرف الآخر لا يفهم لغة أخرى غير هذه اللغة فلا حرج شرعي في ذلك، ولا تعارض بينه وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ليس المؤمن بطعانٍ ولا بلعانٍ ولا الفاحشٍ البذئ." إستناداً على قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا }.
من الواضح لو كان في قول الصِدِّيق العنيف هذا مخالفة شرعية لنهاه النبي {ص} وزجره كما فعل مع غيره ولكنه لم يفعل وهو الذي لا يقر أحداً على باطل. فقد روى ابن هشام في سيرته أن النبي {ص} قد زجر الصحابي سلمة بن سلامة {رض} "حين صادف المسلمون وهم في طريقهم إلى الحرب، رجلاً بدوياً حاولوا أن يستعلموا منه أخبار قريش، فقال له بعض الصحابة: سلّم على رسول الله، فقال: أوَفيكم رسول الله؟ قالوا نعم، فتوجه بحديثه إلى النبي محمد {ص}، وسأله: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ وهنا تدخّل الصحابي سلمة بن سلامة، وقال: أنا أُخبرك؛ نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة. أي أنك ضاجعت الناقة، فحبلت منك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْ، أَفْحَشْتَ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ أَعَرَضَ عَنْ سَلَمَة" {منقول}. وهنا نرى سبب زجره للصحابي هو اعتداء الصحابي على الإعرابي، أما في الحالة الأولى فقد كان هناك إعتداء من عروة على النبي {ص} وصحابته وهو ظالم لهم، ولذلك لم يستحق أبابكر الزجر.
إنَّ خلاصة هذا الكلام إنَّ الدين الإسلامي ليس دين مثالية رومانسية وإنّما هو دين يكابد الواقع الإنساني بكل مشاكله وتعقيداته وقصوره حيث لا مكان في هذا الواقع للمثالية والرومانسية المطلقة، فلذلك جاء الإسلام بشعارات واقعية جداً تناسب الإنسان ومقدراته وواقعه فقال: "فاتقوا الله ما استطعتم" "ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" "ولاتغلوا في دينكم" "وقاتلوهم" "ولا تعتدوا" "ولا تهنوا" "ولا تقنطوا" "واتبع السيئة الحسنة تمحوها" "ولا يحب الله الجهر بالسؤ من القول إلا من ظلم".......الخ من التوجيهات الواقعية.
ومن هنا نعلم أن لكل مقامٍ مقال كما قالت العرب، وفي الحقيقة واقع الناس الطبيعي يقول إنَّ اللغة اللينة الطرية المهذبة ليست مطلوبة ومحبّذة في كل الأوقات والمواقف، خاصة إذا عرف عن المخاطب بها قلة الأدب والعنتظة والكبرياء والصلف والبطش إذا تمكن. ولهذا يجب على أهل السياسة فينا حين يتعاملون خارجياً مع الكل - وخاصة مع الغرب- أن يجيدوا استخدام اللغتين وأن يضعوا اللفظ المناسب في المكان في الوقت المناسب لا يلوون على أحد، ولا يخافون لومة لائمٍ من الناس أو الميديا ولا يتصنعون الأدب والمثالية في مكان غير مكانها.
وفي أمريكا حيث معبد "اللآت المعاصرة" التي تحكم العالم المعاصر، نجد حكامها هم الأكثر بذاءة في العالم، وهم يستخدمون البذاءة للإرهاب والتخويف والإهانة كوسيلة سايكلوجية تكتيكية للوصول لأهدافهم. وقد كتبت كتابات كثيرة عن هذه الظاهرة نذكر بعضها للمثال وليس للحصر:
B. Grace: “Which President was most foul mouthed?”
CNN: “Top 16 foul-mouthed politicians”
The Week: “The cursing president”
New York Time: “The Profanity President: Trump’s Four-letter Vocabulary”
Wahsington Post: “A history of White House profanity”
Rolling Stone: “A Brief History of Presidential Profanity”
وإذا بحثنا في تاريخ أي أمة من الأمم فلن نجد مصادر كهذه تثبت وتؤرخ لبذاءة حكامها وملوكها كما فعلت الصحافة الأمريكية! وهذه المقالات لم تترك رئيساً من الرؤساء الأمريكان إلا ووثقت له بذاءة من البذاءات حتى جون كنيدي وجيمي كارتر وباراك أوباما وبايدين، وقد كان أفحش الرؤساء الأمريكان في نظرهم هم ليندن جونسون ونيكسون وبوش الإبن وترمب. وبذاءة هؤلاء الرؤساء هي جهر بالسؤ من مقام التعدي والتكبر والعنجهية وليست جهراً بالسؤ من مقام المظلومية.
وتجدني أتفق مع الصحفية الأستاذة سهير عبد الرحيم في قولها: "حان وقت التغيير..جاء أوان تبديل سياساتنا، حل زمان التكشير عن أنيابنا، إنه عصر الأستراتيجيات الحديثة والتفكير خارج الصندوق ورد الصفعات وان اقتضى الأمر تغيير جلنا كليا" فقد " مللنا من تلقى الصفعات على خدودنا، ضجرنا من الصمت، ضقنا من المؤمرات الخارجية، ونحن مكتوفي اليدين، نشاهد كل من هبّ ودبّ يمارس صفعاً على وجوهنا وتنكيلاً بأجسادنا"
نعم يا سهير، آن الأوان ليحكم "الشفوت" إن كانوا مدنيين أو عسكريين أو خليط بين ذلك في معادلة سياسية جديدة. لا نريد مثاليين ولا دراويش ولا زهاد ولا جهلاء ولا أكاديميين ولا حمقى ولا عنصريين ولا أممين ولا جبناء. نريد "شفوتاً" دستوريين أولاد "هرمة" وأولاد بلد من المدنيين والعساكر يفهمون كيف يحكم ويدار العالم، يهبّون ليأخذوا حقهم من بين فكي هذا العالم "البلطجي" عنوة واقتداراً، يعطونه شبراً ويأخذون مقابله فداناُ من باب رد البلطجة بمثلها.
نعم، قد حان وقت التغيير والشفتنة بالحق والعدل والإباء!
morizig@hotmail.com