اللّا-مبالاة .. وموت المثقّف !
أشكر للدكتورة فاطمة الشيخ أن أعادت لذاكرتي الأبيات الشهيرة للقس ورجل الدين الألماني مارتن نيمولر Martin Niemöller (1892- 1984) ، إذ رفعت ترجمة للأبيات على صفحتها صباح اليوم في موقع فيس بوك. هذه الأبيات من أروع ما قرأت من إدانة لصمت المثقف في أي مكان وزمان إذ يحيق الخطر بشعبه ووطنه. وعلى الرغم من الكتب التي قام بتأليفها هذا القس اللوثري الشهير بمواقفه ضد النازية، ومنها : "المنفى في الوطن الأصل" و "عن الشعور بالذنب والأمل" و "من سجن موبيت" وكتابات أخرى - نقول رغماً عن هذا الكم من الكتابة بقيت أبياته القليلة تلك ، بسيطة النظم ، عميقة المعنى والتي حملت عنوان: (جاءوا أولاً) ضمن أشهر ما قيل في رفض لامبالاة الإنسان إذ يحيق الخطر بأخيه الإنسان!
تقول ترجمة الأبيات القليلة التي نقلت إلى معظم لغات العالم الحية- أدناه ترجمة كاتب المقال من النص الإنجليزي:
لقد جاءوا أولاً للشيوعيين
ولم أعترض ، لأني لم أكن شيوعياً
وجاءوا للإشتراكيين ، ولم أعترض
لأني لم أكن اشتراكياً!
ثم جاءوا لقادة العمال، ولم أعترض
لأني ما كنت قائداً عمالياً !
وجاءوا لليهود، لكني لم أعترض
لأني لست يهودياً !
ثم جاءوا لاعتقالي
فلم يبق أحد هناك ليعترض من أجلي !
منذ أن وقعت أكبر كارثة في تاريخنا السياسي الحديث بحلول الإنقلاب العسكري المشئوم للإسلامويين فجر30 يونيو 1989م ، الموسوم بالإنقاذ ، حتى ساعة كتابة هذه السطور، والمتابع لشأن بلادنا يعرف أن "الإنقاذ" كشفت عورة المثقف السوداني إلى جانب ما كشفت من عورات في واقعنا السياسي والفكري عموماً. أحاول هنا الإشارة إلى موت بعض النخب السودانية - أقول "بعض" ، ففي التعميم ظلم مبين. وأعني بالموت هنا ما يطلق عليه خطر اللامبالاة السياسي The danger of political apathy وهو ما أشار إليه القس مارتن نيمولر في أبياته الشهيرة أعلاه.
لم يعش نظام في أفريقيا المعاصرة على الفهلوة وإشعال الحروب قرابة الثلاثة عقود ، وما يزال قادته غارقين في سرقة ثروة البلاد وتكميم الأفواه والتباهي بأنهم باقون مثل نظام الإسلامويين الحالي في السودان. ليس السبب لأنهم أكثر بأساً وشجاعة من سواهم - بل هم أجبن من فأر . إنما السبب ضمن أسباب أخرى هو تقاعس النخب عن جمع صف القاعدة الشعبية الكبيرة وتوعيتها لتقف بنياناً مرصوصاً ضد النظام الذي بات يأكل جثته إذْ لم يجد ما يأكل.
قام نظام الإنقاذ أول ما قام به بتجييش عشرات الآلاف من الشباب. ونشطت آلته الإعلامية في نشر فكر ديماجوجي وخطابٍ غوغائي غايته تكفير الآخر الشريك في الوطن ، وإعلان حرب جهادية عليه! وتلك الحرب المهزلة التي حشدوا لها مليشيات من تلامذة المدارس والجامعات جنباً إلى جنب مع ما تبقى من جيش الوطن - تلك الحرب كانت كفيلة بأن تجعل مثقفي الشق الشمالي (العربو-إسلامي) للبلاد متضامنين وقريبين من إخوتهم في الجنوب. لكن عوضاً عن ذلك عم الصمت ، لأنهم - إن اقتبست قصيدة نيمولر (ليسوا جنوبيين)! وحتى عندما حاولت أحزاب الخرطوم مجبرةً اللحاق بنضال الحركة الشعبية لتحرير السودان لإنهاء النظام، كان بعض جهد تلك الأحزاب أقرب إلى نادٍ للجدل السياسي المدني منه إلى الإنضمام الجاد لجهود قرنق العسكرية والمدنية للإطاحة بالآلة العسكرية للنظام الفاشي في الخرطوم. لذا كان من البدهي أن ينفصل الجنوب. لكن العصبة - التي لا تبقى على سدة الحكم إن لم تقدح زناد الحرب - سعت لإشعال فتيلها ثانية في أكثر من جبهة في ما بقي من سودان المليون ميل مربع. لكن المؤسف أن خطاب معظم مثقفي وسياسي النخبة السودانية ظل مكانك سر !! قليلون جداً هم الذين صدعوا بالحق وجاهروا به ضمن بعض منظمات العمل المدني. بل إنّ الحديث عن حرب الإبادة في دار فور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق جاء على لسان معظم قادة أحزاب الخرطوم باهتاً ومرناً..فهو لا يتعدّى سطوراً من الإدانة في بيان أكثر برودة من ليل الشتاء! بينما يواصل طيران النظام ومليشياته حصب المدنيين في قراهم ومزارعهم بصورة يخجل عدو أجنبي أن يقوم بها. كما افتعل النظام حيلة تفتيت المجتمع الرعوي في غرب السودان وافتعل معارك طاحنة (الحمرة والزرقة). نتج عن تلك الحروب فظائع ليس أقلها الموت المجاني الرخيص والإغتصاب وحرق القرى والمزارع! ونظام الإسلامويين صاحب السيناريو يتفرج، وأكثر صمتاً منه ضمير الكثرة من المثقفين والسياسيين السودانيين. حتى إذا طفح الكيل في دار فور وأدانت محكمة الجنايات الدولية بأدلة دامغة ووثائق رئيس النظام وبعض عصبته وطالبت بمثولهم أمامها في لاهاي إستيقظ الضمير المثقف على حياء. ويزيد الحيرة أنّ بعضهم - ويدّعون أنهم ضد النظام الفاشي في الخرطوم- ترتعد فرائصهم متى جاء ذكر الثوار في الأقاليم التي دفع أهلهم فيها الثمن أضعافاً مضاعفة! بل إنّ بعض أولئك المثقفين يساوي بين النظام ومن حملوا السلاح دفاعاً عن ذاتهم. ولا يخجل البعض - وكاتب هذه السطور جمعه نقاش بهم - أن يقول لك بأن حملة السلاح هم الذين جلبوا الخراب لأهلهم! والبعض قالها بكل وقاحة: هم ديل لو استلموا السلطة حيكونوا أفظع من الإنقاذ!! كدة؟؟
إنّ نمط التفكير الغالب في مخيلة نخبة المركز وسياسييه أنهم يحسبون أن كل ما يحدث من خراب خارج المدن الثلاث - التي ظلت تدير الشأن السوداني عبر إذاعتها وتلفزيوناتها وصحفها منذ فجر الإستقلال حتى اليوم- أن كل ما يجري خارج هذه المدن الثلاث يمكن تأجيله، بل النظر إليه على أنه بعيد هناك !!
فالإنتفاضة الحقة – نتاج الثورة الشعبية التي تقصم ظهر نظام الإنقاذ في نظرهم يجب أن تنطلق من العاصمة، وإلا فهي مجرد تظاهرات وحراك في "الأقاليم" !!
كنا في مؤتمر سوداني جامع في العاصمة اليوغندية في العام 2000 م. لم يتم فصل الجنوب آنذاك . وفي خضم نقاش أوراق المؤتمر وقد تطرق المؤتمرون لمآلات الحرب على البلاد، صاحت إحدى رائدات العمل النسوي ممن قدمن مع وفد إخوتنا وأخواتنا في الداخل، صاحت في مداخلة: (الجوع دخل الخرطوم يا جماعة..تخيلوا الجوع دخل الخرطوم ذاتها !!) أذكر كيف نظر تجاهي الباحث والأكاديمي الدكتور عبد السلام نور الدين عبر الصالة هازاً رأسه بحسرة، فهمت فحوى نظرته التي تقول: أهذا مدعاة للدهشة والإستغراب؟ ثم إنني التقيت بعد رفع تلك الجلسة أحد قادة الحركة الشعبية من الإخوة الجنوبيين. قال لي بحسرة ما معناه: طبعا حرام ناس تجوع في الخرطوم !!!
مخطيء من يحسب أنّ هذا النظام سوف يسقط بتظاهرات أو وقفات إحتجاجية في العاصمة وحدها. وأكثر وهماً من يحسب أن الذين رفعوا السلاح في الهامش العريض "هواة حرب"، ليضعهم في الكفة الأخرى للمعادلة مع نظام جعل أكثر من ثلثي ميزانية البلاد بنداً لترسانة السلاح. بل لا يرعوي جهاز أمن النظام أن يطلق النار على تظاهرة يقوم بها تلامذة مدرسة ، بحسبان أنهم يسعون لتقويض أركانه. نود أن نقول لإخوتنا الذين يدعون بحسن نية إلى حوار مع هذا النظام، أنّ الحوار مع الأطرش مضيعة للوقت. أما أولئك الذين يبشروننا بأن عصر الثورات الشعبية للإطاحة بالأنظمة الإستبدادية قد ولّي ، ويدعوننا إلى جولة عبر صندوق الإقتراع لتغيير هذا النظام ، فإننا لا نشك في وطنيتهم ولكننا نقول لهم بأننا لسنا بالغباء وموت الضمير الذي يحسبون. إنّ وعي شعبنا في أركان الوطن الأربعة أكبر من أن يدع هذا النظام يمرح ما شاء له الحظ. ولعلّ من الأخبار السيئة التي تلقاها النظام أن اعتقالاته الأخيرة كانت إعلاناً بوحدة الصف المعارض – وحدة غير مسبوقة. كما تقدم الصف للزنازين نساء ورجال بعضهم تخطى السبعين ، والبعض في ربيع شبابهم. رأينا كيف اكتظت السجون بالأحرار من الرجال والنساء والتي أفرغها زبانية النظام لحين تمر عاصفة المراقب الأممي. كان نزلاء المعتقلات يمثلون انتفاضة هادئة عمت أركان الوطن كله.
الشارع هو الخلاص. ووعي المثقف العضوي بهموم الشارع وتمرده على الحلول الوسط يعطي جرعة من النضج الثوري للجماهير التي تعرف خيارها ، وهي التي - بجهد من القيادة الواعية الملتزمة - تعرف كيف تقلب الطاولة في وجه نظام إنتهت في يديه كل بطاقات اللعب، وسدت في وجهه كل المنافذ والحِيَل.
السبت، 14 أبريل 2018
fjamma16@yahoo.com