المثقف السوداني وعكسية العلاقة بين فكره وقيم الجمهورية
طاهر عمر
22 December, 2022
22 December, 2022
كثر من بين مثقفي العالم العربي و الاسلامي يغالب نفسه و يحاول أن يغالط في في مسألة تحول المفاهيم و كيفية تحرك مسيرة الانسانية و هي تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لا معنى و لكن بفضل علماء اجتماع و فلاسفة و اقتصاديين و مؤرخيين قد أصبحت هناك إمكانية تحليل الظواهر الاجتماعية و إستنباط ما يساعد على مواجهة مصاعب تقدم البشرية.
كثر من علماء الاجتماع في العالم العربي و الاسلامي يؤكدون أن تقدم الفكر في الغرب الاوروبي قد قدم للبشرية ما يساعد على فهم مختصر تاريخ الانسانية. نجد كثر من فلاسفة و علماء اجتماع في العالم العربي و الاسلامي لا يزعجهم أن الحداثة واحدة و أن النور يأتي من الغرب الأوروبي كما يردد داريوش شايغان.
و غيره كثر قد إستفادوا من تاريخ المجتمع الأوروبي و عبر فكرهم حاولوا جاهدين لإيجاد طرق تفتح إنسداد الأفق و كيفية تحديد نقطة الإنطلاق مثلما حاول عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي في محاولات لا تقل عن جهود لا يقوم بها إلا مجموعة الفلاسفة و المفكرين و علماء الاجتماع و الاقتصاديين من داخل مراكز بحوث كما رأينا كيف كان دور مدرسة الحوليات الفرنسية. مدرسة الحوليات الفرنسية إحتاجت لثلاثة عقود و يزيد حتى تصل أفكارها الى ساحات الجامعات الفرنسية الكبرى.
و بعدها قد أصبحت أفكارها قاعدة ينطلق منها الفكر في فرنسا ليجسر ما بينه و بقية الدول الأوروبية فيما يتعلق بفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و فكرة الضمان الاجتماعي و مسالة معادلة الحرية و العدالة و نجد ثمارها في وصول الحزب الاشتراكي أي قد وصل لمستوى تطبيق فكرة الحد الادنى للدخل في إستيعاب فرانسوا ميتران للكينزية. و هنا يجب أن أوضح كيف أصبح الشيوعيين و الاشتراكيين في فرنسا لا يتحرجون من فكرة نمط الانتاج الرأسمالي كما يتلجلج الى يومنا هذا الشيوعي السوداني.
من هنا يمكننا أن نؤكد أن السياسي في فرنسا متغير تابع لمتغير مستقل أما المتغير المستقل فهم علماء الاجتماع و الفلاسفة و الاقتصاديين و المؤرخيين غير التقليديين كما سائد عندنا في السودان. مثلا قد يحتاج علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و المؤرخيين لثلاثة عقود لتأسيس نقاط توضح التحول الهائل في المفاهيم و بعدها تصبح هذه المفاهيم الجديدة في متناول يد السياسي كما رأينا كيف سارت الأمور في حيز مدرسة الحوليات و شعارها و بعدها قد أصبحت مسألة تجاوز الجمهورية الثالثة مفهومة عند السياسي الفرنسي و هكذا تسير العلاقة ما بين الفلاسفة و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و قد أصبحت في فرنسا كأنها من الأعراف التي لا يحيد عنها أي رئيس فرنسي و يقال أن رولان بارت لولا تلبيته لدعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لما وقع ضحية حادث حركة أودى بحياته.
العلاقة ما بين علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و السياسيين في السودان تكاد تكون معدومة و من هنا تظهر لنا الفوضى التي يعيش فيها السياسي السوداني و هو يتقمص دور المفكر و المثقف و عالم الاجتماع و الاقتصادي و الفيلسوف و النتيجة خيبة نخب فاشلة لم تستطع تحليل الظواهر الاجتماعية و كله بسبب غياب المنهج الذي تتسلح به نخب المجتمعات المتقدمة هناك حيث تكون العلاقة ما بين السياسي و علماء الاجتماع و الفلاسفة و الاقتصاديين و هذ هو سر كيف تخرج المجتمعات الغربية من كل الأزمات التي تقابل مسيرة المجتمع حتى و لو وصلت الى مستوى تراجيدي و مأساوي و لكن المنهج موجود و هو الذي يهدي الى الخروج من المصاعب بفضل إفتراض أن غاية المجتمع هو الفرد و هذا الفرد عقلاني و أخلاقي.
بالمناسبة غياب العلاقة الصحيحة التي تحفظ المسافة ما بين الفلاسفة و علماء الاجتماع و الاقتصاديين من جهة و بين السياسي السوداني من جهة أخرى هي المسؤولة من الفوضى التي نراها ماثلة في نشاط بعض الأحزاب السودانية كما يفعل الحزب الشيوعي السوداني و السبب هو أن سياسيي الحزب الشيوعي السوداني يحاولون لعب دور أنهم علماء اجتماع و فلاسفة و اقتصاديين و في نفس الوقت يريدون لعب دور السياسي الغارق في حتميته و هنا تظهر خيبات طرحهم الذي يضحك كل مراقب.
من هنا يظهر لنا الفرق ما بين فكر عالم الاجتماع هشام شرابي عندما قال أن تحقيق طموح الطبقات الصاعدة لا يحققه مثقف عضوي منبع فكره من شيوعية متكلسة و لا أتباع وحل الفكر الديني لأن الفكر الديني هو الحاضنة و المنبع لسلطة الأب و ميراث التسلط. و بسبب غياب العلاقة التي تضبط المسافة ما بين السياسي و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و المؤرخيين و الفلاسفة نجد أن في ساحتنا السودانية ما زال المثقف العضوي هو سليل شيوعية متحجرة و سليل أحزاب وحل الفكر الديني.
في وقت نجد أمثال محمد أركون قد وضّح إستحالة التأصيل في كتابه الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل و لكن ساحتنا السودانية لا يهمها غير تنمية العلاقة ما بين المدافعيين عن ثقافة اسلامية عربية تقليدية و بين نخب طاشت بينهم علاقة السياسي بعلماء الاجتماع و الاقتصاديين.
و النتيجة تضخم ساحة الفكر السوداني بفكر بالهووين الصاخبين في دفاعهم عن حضارة عربية اسلامية تقليدية نجدها يخدمها المؤرخ التقليدي في بحوث لا تخرج عن فكرة صحيح الدين كما رأينا بحوث المؤرخيين السودانيين التقليديين و غوصها في وحل كل من العرق و الدين و هذا ما تجاوزته أفكار النشؤ و الإرتقاء إلا في السودان و الدليل كثرة وجود أتباع المرشد و الامام و مولانا و السلفيين.
و كلها نتيجة غياب العلاقة ما بين السياسي و إرتباطه بعلماء الاجتماع و الاقتصاد و الفلاسفة بل العكس نجد السياسي السوداني مرتبط عبر دفاعه عن الثقافة العربية الاسلامية التقليدية في حزب الامة و حزب مولانا الميرغني و السلفيين بفكر مفكريين سودانيين تقليديين أمثال الدكتور عبد الله الطيب و هو لا يخفي كرهه لعلماء الاجتماع و الانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين في الجزء الأول و الثاني من كتابه المرشد لفهم أشعار العرب و صناعتها.
و قد أكد الدكتور عبد الله الطيب في مكاتباته مع عميد الأدب العربي طه حسين عندما حاول طه حسين أن يخلق منه طه حسين السودان قال الدكتور عبد الله الطيب أنه قد إتخذ قراره بأن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة و من هنا يتضح لنا كيف كان المثقف التقليدي السوداني أكبر حاجز صد يحول ما بيننا و بين التحول الهائل في المفاهيم.
و إذا أمعنت النظر في مقولة عبد الله الطيب أي أن يكون بجانب التراث و الدين و الامة هي التي قد أنتجت لنا أمثال الامام الصادق المهدي فهو أقرب لرجل الدين من السياسي في وقوفه بجانب التراث و الدين و الامة أي أنه قد أنزل مقولة عبد الله الطيب الى أرض الواقع و عكسهم تماما نجد العلاقة ما بين شارل ديغول مع أندرية مالرو و ريموند أرون و فرانسوا ميتران مع الفلاسفة و الكتاب كما ذكرنا دعوته لرولان بارت.
المضحك و مبكي في نفس الوقت تجد كثر من المدافعين عن الحضارة الاسلامية العربية التقليدية في السودان يفتخرون بأن كتاب المرشد لفهم أشعار العرب و صناعتها قد قدم له عميد الادب العربي طه حسين و لا يذكرون أن في هذه المقدمة يقول طه حسين أن في هذا الكتاب ما يغيظك في بعض أجزاءه و معروف طه حسين كان يبجل علم الاجتماع و أكيد أن ما يغيظ في كتاب عبد الله الطيب في نظر طه حسين هو كره و تهجّم الدكتور عبد الله الطيب على علماء الاجتماع و الانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين و على القرئ المدرب التأمل في تقليدية عبد الله الطيب.
الجيد أن أفكار عبد الله الطيب و تلاميذه ممن يختفون خلف أحداثيهم و دفاعهم عن الحضارة العربية الاسلامية التقليدية في السودان قد أنتجت الهووين الصاخبين و نجدهم كأتباع لأحزاب وحل الفكر الديني و القوميين و جميعهم اليوم قد إنكشف لهم أمر الخواء الفكري الذي لا ينتصر للحياة و قد صدق محمد أركون عندما تحدث عن الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل.
و لكن متى يفهم تلاميذ عبد الله الطيب أنهم يتخفون تحت ظلال تقليدية فكر عبد الله الطيب؟ و أن التحول الهائل في المفاهيم لا محالة قادم و حينها لا تقوى معاهدة عبد الله الطيب و تلاميذه على الوقوف بجانب التراث و الدين و الأمة أمام فكر عقل الأنوار و أفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس.
و لكن كما ذكرنا في أعلى المقال هذا الفكر التقليدي لا يختفي من تلقاء نفسه بل يحتاج لجهود فلاسفة و علماء اجتماع و اقتصاديين و مؤرخيين يؤمنون بأن تاريخ المجتمع الغربي كان مختصر لتاريخ الانسانية و عبرهم يستطيع الشعب السوداني مفارقة الفكر القديم كما فارق الشعب الفرنسي بفضل مدرسة الحوليات الفكر الذي كان يدافع عنه المؤمنيين بفكر الجمهورية الثالثة و قد تم تجاوزه بفضل مفكري مدرسة الحوليات.
على العموم هناك مفكريين غربيين كثر يؤكدون أن إرتفاع مستوى الوعي بفضل تكنولوجيا الاتصالات سوف يسرّع إمكانية مفارقة الشباب للفكر التقليدي الذي قد رسخه عبد الله الطيب و تلاميذه و قد أنتج مثقفين عبر ما يقارب السبعة عقود قد رسخوا فكر الهوويين الصاخبين أي كانت النخب السودانية مشغولة بفكر الهويات بدلا من فكر الحريات الذي يشغل ضمير أحرار العالم ومن ننبه النخب السودانية لفكر ينتبه و يهتم بالحريات و ليس الهويات.
نجد الآن في العالم العربي و الاسلامي إرتفاع في نسبة المتعلميين حيث أصبحت المراءة أم لطفلين نتيجة لإرتفاع مستوى وعي المجتمع في كل من تونس و مصر و ايران و هذا ليس في صالح الثقافة التقليدية التي كرسها فكر الدكتور عبد الله و تلاميذه وهم لا يرون حرج في رجوع الأبهة لرجال الدين و أحزابهم كما قلنا و وضحنا كيف يهاجم الدكتور عبد الله الطيب فكر علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيين في محاولة يائسة لإرجاع الأبهة لرجال الدين و نتيجة وقوفه بجانب التراث و الدين و الامة قد رأينا إزدهار أحزاب الكيزان و أغلبية تلاميذ عبد الله الطيب من المناصريين لفكر الكيزان.
ما أود قوله أن الثقافة العربية الاسلامية فشلت في إنزال قيم الجمهورية و منذ فشل جمال عبد الناصر في إرساء قيم الجمهورية و بعدها قد ورثه أتباع وحل الفكر الديني و كل يوم و العالم العربي و الاسلامي يغوص في وحل ثقافته التقليدية و لهذا ننبه النخب السودانية على السير بخطى مسرعة لمفارقة خط الثقافة العربية الاسلامية التقليدية و لا يكون ذلك بغير وضع علاقة جديدة تربط ما بين علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة مع سياسي سوداني يسير بفكرهم.
كما رأينا كيف كانت العلاقة بين كل من ديغول و أندرية مالرو و بين روزفلت و مفكريين كثر بل قد إلتقى بكنز و قال كينز أنه عندما قابل روزفلت قد وجده سياسي مشبع بتاريخ الفكر الاقتصادي و أدب النظريات الاقتصادية. و لك أن تتصور صعوبة مهمة روزفلت في زمن كانت تتبدى فيه عوالم إنقلاب الزمان حيث كانت نهاية ليبرالية تقليدية و بداية فلسفة تاريخ حديثة.
و هذا ما جعل روزفلت يقوم بسياسات إقتصادية كانت ضد طبقته و لكنها لا يمكن تحقيق النجاح بغيرها و هذا لا يكون في السودان بغير خلق علاقة جديدة ما بين السياسي السوداني الفاشل تربطه بفكر علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و حينها سوف يستطيع السياسي السوداني أن يقوم بفعل شئ يصلح للعبور بالمجتمع من التقليدية الى حيز المجتمعات الحديثة و حينها تبداء عتبات الدولة الحديثة.
نختم مقالنا بأن للتاريخ نقاط إنقلاب و تحتاج لشخصيات تاريخية تستطيع تجاوز فكر عقلنا التقليدي الجمعي و هذا يحتاج لشجاعة نادرة يسبقها الرأي كما رأينا كيف كانت فكرة الإصلاح الديني من قبل مارتن لوثر قد تزامنت مع رغبة البرجوازية الصغيرة و أمانيها في التقدم و الازدهار المادي و قد كان و لهذا نقول للسياسي السوداني لا يمكنك تحقيق نجاح بغير خلق علاقة جديدة مع علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و المؤرخيين غير التقليديين فهم من يستشرف مستقبل الأمم.
taheromer86@yahoo.com
/////////////////////
كثر من علماء الاجتماع في العالم العربي و الاسلامي يؤكدون أن تقدم الفكر في الغرب الاوروبي قد قدم للبشرية ما يساعد على فهم مختصر تاريخ الانسانية. نجد كثر من فلاسفة و علماء اجتماع في العالم العربي و الاسلامي لا يزعجهم أن الحداثة واحدة و أن النور يأتي من الغرب الأوروبي كما يردد داريوش شايغان.
و غيره كثر قد إستفادوا من تاريخ المجتمع الأوروبي و عبر فكرهم حاولوا جاهدين لإيجاد طرق تفتح إنسداد الأفق و كيفية تحديد نقطة الإنطلاق مثلما حاول عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي في محاولات لا تقل عن جهود لا يقوم بها إلا مجموعة الفلاسفة و المفكرين و علماء الاجتماع و الاقتصاديين من داخل مراكز بحوث كما رأينا كيف كان دور مدرسة الحوليات الفرنسية. مدرسة الحوليات الفرنسية إحتاجت لثلاثة عقود و يزيد حتى تصل أفكارها الى ساحات الجامعات الفرنسية الكبرى.
و بعدها قد أصبحت أفكارها قاعدة ينطلق منها الفكر في فرنسا ليجسر ما بينه و بقية الدول الأوروبية فيما يتعلق بفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و فكرة الضمان الاجتماعي و مسالة معادلة الحرية و العدالة و نجد ثمارها في وصول الحزب الاشتراكي أي قد وصل لمستوى تطبيق فكرة الحد الادنى للدخل في إستيعاب فرانسوا ميتران للكينزية. و هنا يجب أن أوضح كيف أصبح الشيوعيين و الاشتراكيين في فرنسا لا يتحرجون من فكرة نمط الانتاج الرأسمالي كما يتلجلج الى يومنا هذا الشيوعي السوداني.
من هنا يمكننا أن نؤكد أن السياسي في فرنسا متغير تابع لمتغير مستقل أما المتغير المستقل فهم علماء الاجتماع و الفلاسفة و الاقتصاديين و المؤرخيين غير التقليديين كما سائد عندنا في السودان. مثلا قد يحتاج علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و المؤرخيين لثلاثة عقود لتأسيس نقاط توضح التحول الهائل في المفاهيم و بعدها تصبح هذه المفاهيم الجديدة في متناول يد السياسي كما رأينا كيف سارت الأمور في حيز مدرسة الحوليات و شعارها و بعدها قد أصبحت مسألة تجاوز الجمهورية الثالثة مفهومة عند السياسي الفرنسي و هكذا تسير العلاقة ما بين الفلاسفة و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و قد أصبحت في فرنسا كأنها من الأعراف التي لا يحيد عنها أي رئيس فرنسي و يقال أن رولان بارت لولا تلبيته لدعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لما وقع ضحية حادث حركة أودى بحياته.
العلاقة ما بين علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و السياسيين في السودان تكاد تكون معدومة و من هنا تظهر لنا الفوضى التي يعيش فيها السياسي السوداني و هو يتقمص دور المفكر و المثقف و عالم الاجتماع و الاقتصادي و الفيلسوف و النتيجة خيبة نخب فاشلة لم تستطع تحليل الظواهر الاجتماعية و كله بسبب غياب المنهج الذي تتسلح به نخب المجتمعات المتقدمة هناك حيث تكون العلاقة ما بين السياسي و علماء الاجتماع و الفلاسفة و الاقتصاديين و هذ هو سر كيف تخرج المجتمعات الغربية من كل الأزمات التي تقابل مسيرة المجتمع حتى و لو وصلت الى مستوى تراجيدي و مأساوي و لكن المنهج موجود و هو الذي يهدي الى الخروج من المصاعب بفضل إفتراض أن غاية المجتمع هو الفرد و هذا الفرد عقلاني و أخلاقي.
بالمناسبة غياب العلاقة الصحيحة التي تحفظ المسافة ما بين الفلاسفة و علماء الاجتماع و الاقتصاديين من جهة و بين السياسي السوداني من جهة أخرى هي المسؤولة من الفوضى التي نراها ماثلة في نشاط بعض الأحزاب السودانية كما يفعل الحزب الشيوعي السوداني و السبب هو أن سياسيي الحزب الشيوعي السوداني يحاولون لعب دور أنهم علماء اجتماع و فلاسفة و اقتصاديين و في نفس الوقت يريدون لعب دور السياسي الغارق في حتميته و هنا تظهر خيبات طرحهم الذي يضحك كل مراقب.
من هنا يظهر لنا الفرق ما بين فكر عالم الاجتماع هشام شرابي عندما قال أن تحقيق طموح الطبقات الصاعدة لا يحققه مثقف عضوي منبع فكره من شيوعية متكلسة و لا أتباع وحل الفكر الديني لأن الفكر الديني هو الحاضنة و المنبع لسلطة الأب و ميراث التسلط. و بسبب غياب العلاقة التي تضبط المسافة ما بين السياسي و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و المؤرخيين و الفلاسفة نجد أن في ساحتنا السودانية ما زال المثقف العضوي هو سليل شيوعية متحجرة و سليل أحزاب وحل الفكر الديني.
في وقت نجد أمثال محمد أركون قد وضّح إستحالة التأصيل في كتابه الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل و لكن ساحتنا السودانية لا يهمها غير تنمية العلاقة ما بين المدافعيين عن ثقافة اسلامية عربية تقليدية و بين نخب طاشت بينهم علاقة السياسي بعلماء الاجتماع و الاقتصاديين.
و النتيجة تضخم ساحة الفكر السوداني بفكر بالهووين الصاخبين في دفاعهم عن حضارة عربية اسلامية تقليدية نجدها يخدمها المؤرخ التقليدي في بحوث لا تخرج عن فكرة صحيح الدين كما رأينا بحوث المؤرخيين السودانيين التقليديين و غوصها في وحل كل من العرق و الدين و هذا ما تجاوزته أفكار النشؤ و الإرتقاء إلا في السودان و الدليل كثرة وجود أتباع المرشد و الامام و مولانا و السلفيين.
و كلها نتيجة غياب العلاقة ما بين السياسي و إرتباطه بعلماء الاجتماع و الاقتصاد و الفلاسفة بل العكس نجد السياسي السوداني مرتبط عبر دفاعه عن الثقافة العربية الاسلامية التقليدية في حزب الامة و حزب مولانا الميرغني و السلفيين بفكر مفكريين سودانيين تقليديين أمثال الدكتور عبد الله الطيب و هو لا يخفي كرهه لعلماء الاجتماع و الانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين في الجزء الأول و الثاني من كتابه المرشد لفهم أشعار العرب و صناعتها.
و قد أكد الدكتور عبد الله الطيب في مكاتباته مع عميد الأدب العربي طه حسين عندما حاول طه حسين أن يخلق منه طه حسين السودان قال الدكتور عبد الله الطيب أنه قد إتخذ قراره بأن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة و من هنا يتضح لنا كيف كان المثقف التقليدي السوداني أكبر حاجز صد يحول ما بيننا و بين التحول الهائل في المفاهيم.
و إذا أمعنت النظر في مقولة عبد الله الطيب أي أن يكون بجانب التراث و الدين و الامة هي التي قد أنتجت لنا أمثال الامام الصادق المهدي فهو أقرب لرجل الدين من السياسي في وقوفه بجانب التراث و الدين و الامة أي أنه قد أنزل مقولة عبد الله الطيب الى أرض الواقع و عكسهم تماما نجد العلاقة ما بين شارل ديغول مع أندرية مالرو و ريموند أرون و فرانسوا ميتران مع الفلاسفة و الكتاب كما ذكرنا دعوته لرولان بارت.
المضحك و مبكي في نفس الوقت تجد كثر من المدافعين عن الحضارة الاسلامية العربية التقليدية في السودان يفتخرون بأن كتاب المرشد لفهم أشعار العرب و صناعتها قد قدم له عميد الادب العربي طه حسين و لا يذكرون أن في هذه المقدمة يقول طه حسين أن في هذا الكتاب ما يغيظك في بعض أجزاءه و معروف طه حسين كان يبجل علم الاجتماع و أكيد أن ما يغيظ في كتاب عبد الله الطيب في نظر طه حسين هو كره و تهجّم الدكتور عبد الله الطيب على علماء الاجتماع و الانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين و على القرئ المدرب التأمل في تقليدية عبد الله الطيب.
الجيد أن أفكار عبد الله الطيب و تلاميذه ممن يختفون خلف أحداثيهم و دفاعهم عن الحضارة العربية الاسلامية التقليدية في السودان قد أنتجت الهووين الصاخبين و نجدهم كأتباع لأحزاب وحل الفكر الديني و القوميين و جميعهم اليوم قد إنكشف لهم أمر الخواء الفكري الذي لا ينتصر للحياة و قد صدق محمد أركون عندما تحدث عن الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل.
و لكن متى يفهم تلاميذ عبد الله الطيب أنهم يتخفون تحت ظلال تقليدية فكر عبد الله الطيب؟ و أن التحول الهائل في المفاهيم لا محالة قادم و حينها لا تقوى معاهدة عبد الله الطيب و تلاميذه على الوقوف بجانب التراث و الدين و الأمة أمام فكر عقل الأنوار و أفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس.
و لكن كما ذكرنا في أعلى المقال هذا الفكر التقليدي لا يختفي من تلقاء نفسه بل يحتاج لجهود فلاسفة و علماء اجتماع و اقتصاديين و مؤرخيين يؤمنون بأن تاريخ المجتمع الغربي كان مختصر لتاريخ الانسانية و عبرهم يستطيع الشعب السوداني مفارقة الفكر القديم كما فارق الشعب الفرنسي بفضل مدرسة الحوليات الفكر الذي كان يدافع عنه المؤمنيين بفكر الجمهورية الثالثة و قد تم تجاوزه بفضل مفكري مدرسة الحوليات.
على العموم هناك مفكريين غربيين كثر يؤكدون أن إرتفاع مستوى الوعي بفضل تكنولوجيا الاتصالات سوف يسرّع إمكانية مفارقة الشباب للفكر التقليدي الذي قد رسخه عبد الله الطيب و تلاميذه و قد أنتج مثقفين عبر ما يقارب السبعة عقود قد رسخوا فكر الهوويين الصاخبين أي كانت النخب السودانية مشغولة بفكر الهويات بدلا من فكر الحريات الذي يشغل ضمير أحرار العالم ومن ننبه النخب السودانية لفكر ينتبه و يهتم بالحريات و ليس الهويات.
نجد الآن في العالم العربي و الاسلامي إرتفاع في نسبة المتعلميين حيث أصبحت المراءة أم لطفلين نتيجة لإرتفاع مستوى وعي المجتمع في كل من تونس و مصر و ايران و هذا ليس في صالح الثقافة التقليدية التي كرسها فكر الدكتور عبد الله و تلاميذه وهم لا يرون حرج في رجوع الأبهة لرجال الدين و أحزابهم كما قلنا و وضحنا كيف يهاجم الدكتور عبد الله الطيب فكر علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيين في محاولة يائسة لإرجاع الأبهة لرجال الدين و نتيجة وقوفه بجانب التراث و الدين و الامة قد رأينا إزدهار أحزاب الكيزان و أغلبية تلاميذ عبد الله الطيب من المناصريين لفكر الكيزان.
ما أود قوله أن الثقافة العربية الاسلامية فشلت في إنزال قيم الجمهورية و منذ فشل جمال عبد الناصر في إرساء قيم الجمهورية و بعدها قد ورثه أتباع وحل الفكر الديني و كل يوم و العالم العربي و الاسلامي يغوص في وحل ثقافته التقليدية و لهذا ننبه النخب السودانية على السير بخطى مسرعة لمفارقة خط الثقافة العربية الاسلامية التقليدية و لا يكون ذلك بغير وضع علاقة جديدة تربط ما بين علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة مع سياسي سوداني يسير بفكرهم.
كما رأينا كيف كانت العلاقة بين كل من ديغول و أندرية مالرو و بين روزفلت و مفكريين كثر بل قد إلتقى بكنز و قال كينز أنه عندما قابل روزفلت قد وجده سياسي مشبع بتاريخ الفكر الاقتصادي و أدب النظريات الاقتصادية. و لك أن تتصور صعوبة مهمة روزفلت في زمن كانت تتبدى فيه عوالم إنقلاب الزمان حيث كانت نهاية ليبرالية تقليدية و بداية فلسفة تاريخ حديثة.
و هذا ما جعل روزفلت يقوم بسياسات إقتصادية كانت ضد طبقته و لكنها لا يمكن تحقيق النجاح بغيرها و هذا لا يكون في السودان بغير خلق علاقة جديدة ما بين السياسي السوداني الفاشل تربطه بفكر علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و حينها سوف يستطيع السياسي السوداني أن يقوم بفعل شئ يصلح للعبور بالمجتمع من التقليدية الى حيز المجتمعات الحديثة و حينها تبداء عتبات الدولة الحديثة.
نختم مقالنا بأن للتاريخ نقاط إنقلاب و تحتاج لشخصيات تاريخية تستطيع تجاوز فكر عقلنا التقليدي الجمعي و هذا يحتاج لشجاعة نادرة يسبقها الرأي كما رأينا كيف كانت فكرة الإصلاح الديني من قبل مارتن لوثر قد تزامنت مع رغبة البرجوازية الصغيرة و أمانيها في التقدم و الازدهار المادي و قد كان و لهذا نقول للسياسي السوداني لا يمكنك تحقيق نجاح بغير خلق علاقة جديدة مع علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة و المؤرخيين غير التقليديين فهم من يستشرف مستقبل الأمم.
taheromer86@yahoo.com
/////////////////////