المجموعة السودانية للديمقراطية أولا: منظومة قوانين النظام العام: ادوات للقمع والهيمنة الشمولية

 


 

 



قوانين النظام العام، هي منظومة مواد قانونية يتضمنها القانون الجنائي السوداني بالإضافة الي ما يعرف بقانون سلامة المجتمع والذي صدر للمرة الأولى ، بعد وصول الجبهة القومية الإسلامية للحكم في انقلاب يونيو 1989، كقانون ولائي في ولاية الخرطوم تحت مسمى قانون النظام العام. وتتضمن عدة مواد تتعلق بالمظهر العام، والزي والسلوك الشخصي والاجتماعي للمواطنين بما يجعل الدول رقيباً شخصيا على المواطنين وسلوكياتهم بشكل يتعمد إذلالهم وإهانتهم وامتهان كرامتهم و التعدى على حقوقهم. ويثير هذا القانون وتطبيقه جدلاً واسعاً على صعيدين: الأول أن محتواه يتعارض مع مبادئ الحرية الشخصية التي ينص على حمايتها الدستور السوداني 2005 وتعديلاته اللاحقة، والثاني مشاكل التطبيق المتزايدة وما تحتوي عليه من تجاوزات شتى من الناحية التنفيذية والقضائية، بالإضافة الي التمييز السلبي المباشر ضد المرأة وضد الفئات الاثنية والدينية والطبقية المستضعفة في المجتمع.

وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية تزايد مطرد في وتيرة هذه الانتهاكات الحقوقية من قبل الشرطة والاجهزة الأمنية ضد المواطنين. حيث قامت شرطة أمن المجتمع باقتحام حفل نسائي ، كان قد أعلنت عنه الجهة المنظمة ، وأعتقلت عشرات من النساء الحاضرات للحفل بتهمة الزِّي الفاضح بالرغم من ان الحفل مغلق! في اليوم التالي قامت المحكمة بتبرئة هؤلاء النساء وإطلاق سراحهن إلا ان الشرطة قامت في نفس اليوم باعتقال إحدى الناشطات النسويات (ويني عمر) اللاتي تضامنن مع المعتقلات بحضور المحكمة ، بذات التهمة. وبرر الشاكي اعتقاله لويني ، امام القاضي ، بأن (مشيتها لم تعجبه). وتزامن ذلك مع اعتقال الكاتب السوداني منتصر ابراهيم ، بعد الاعتداء عليه بالضرب في الشارع العام وتوجيه تهم معارضة السلطات وتعويق عمل موظف عام عند اعتراضه على التعامل الفظ مع ويني عند إعتقالها. وشهدت هذه الحادثة تغطية إعلامية واسعة نسبة لأن المتضررين منها هم من الناشطين المعروفين، إلا ان محاكم النظام العام تشهد الاف القضايا المماثلة ولا تحظي بتغطي اعلامية كافية بحكم ان غالب الضحايا من الفئيات الفقيرة والضعيفة ويقدر عددهم بما يزيد عن 40 الف قضية مماثلة في العام الواحد في ولاية الخرطوم وحدها.

وتستعين الحكومة على تنفيذ هذه الانتهاكات بما يعرف بمنظومة قانون (قوانين) النظام العام والتي تحوى بنوداً من الفصل الخامس عشر من القانون الجنائي السوداني ومواده المتعلقة بتجريم السلوكيات الشخصية مثل ما يعرف بالزِّي الفاضح، شرب الخمر،الاعمال الفاحشة، الاعمال الفاضحة، الاغواء، المواد والعروض المخلة بالاداب العامة وغيرها بالاضافة الي بنود قانون السلامة الاجتماعية (النظام العام سابقاً)، والذي دشنته الحكومة السودانية في ولاية الخرطوم في عام 1992 ثم اعادت إصداره في عام 1996، قبل ان يتم تعميمه على كافة الولايات. ويضم القانون عدد من المواد والبنود التى صيغت بلغة فضفاضة وغير محددة تشمل ضوابط لاقامة الحفلات الغنائية وتواجد النساء والرجال في مكان واحد وضوابط لاستخدام المركبات العامة وانشاء محلات تصفيف الشعر وشروط (حسن السير والسلوك) للعاملات فيها واستخدام مكبرات الصوت ومنع عمل المطاعم ومحلات بيع الطعام في أوقات محددة، وغيرها من البنود والمواد التي تشكل تعدياً صارخاً على مساحة الحريات الشخصية للافراد والمجتمع. كما منح القانون شرطة النظام العام (والتي تم انشاءها بموجب مواد هذا القانون) سلطة الاقتحام والضبط الجنائي لانفاذ مواده، مما جعل منها رقيب على السلوكيات الشخصية للمواطنين. ولقد جاء اصدار هذا القانون ، الذي لا يزال سارياً ، بعد ان تم تغيير اسمه الي قانون السلامة الاجتماعية في العام 2009 وتم تغيير اسم شرطة النظام العام الي شرطة أمن المجتمع في اطار ما يسمى بالمشروع الحضاري لإعادة صياغة الشخصية السودانية بالاستناد الي تعريف متشدد للشريعة الإسلامية.

ومنح القانون سلطات تقديرية واسعة لشرطة النظام العام في تقييم تنفيذ بنوده الفضفاضة، والتي تصل الي حد اطلاق النار واستخدام القوة القاتلة كما حدث في واقعة قتل الشرطة للمواطنة عوضية عجبنا باطلاق النار عليها في العام 2012، والتي تستمر شرطة النظام العام في استهداف اسرتها بشكل متزايد منذ ذلك الحين. وأيضا وعلى سبيل المثال لم تحدد مادة الزي الفاضح (المادة 152 من القانون الجنائي) تعريفاً لما هو المقصود بهذا الزي، مما جعل تنفيذ هذه المادة يعتمد على التقدير الشخصي –واحيانا الابتزازي- لرجل الشرطة، وفتح باباً واسعاً للفساد وسوء الاستغلال وانتشار الرشاوي والاتاوات من قبل منتسبي شرطة النظام العام. وتعددت حوداث اقتياد الفتيات بالجملة لاقسام شرطة النظام العام واذلالهن وابتزازهن مالياً بل وحتى الاعتداء عليهن جسدياً وجنسياً في بعض الأحيان مقابل اطلاق سراحهن. مما جعل هذا القانون لا يشكل خطراً وتهديداً للمجتمع بسبب نصوصه فحسب، بل أيضا بسبب السلطة التقديرية الواسعة الممنوحة لمنفذيه دون ضبطها بقواعد او اطر قانونية معروفة. وهو ما جعلها منظومة عقدية وقمعية تقوم على انفاذ واجبار المجتمع على تصور احادي للشكل الذي ينبغي ان يكون عليه واجبار الناس على اتباعه بشكل قسري بدلاً عن دور الشرطة الطبيعي في حفظ الحقوق وحماية المواطنين.

ويمكن اجمال ابرز سلبيات منظومة قوانين النظام العام في النقاط التالية:
• الإطار التشريعي للقانون فيه انتهاك لكثير من الحقوق الدستورية ويتعارض بشكل اساسي مع الحريات المضمنة في وثيقة الحقوق التي نص عليها الدستور السوداني الانتقالي الذي تمت إجازته بعد اتفاقية السلام الشامل ٢٠٠٥. وهذه المواد تستبطن دور الدولة كحارس للاخلاق ورقيب على سلوكيات الناس الخاصة، وتسمح بانتهاك الخصوصيات والحريات الشخصية بشكل كبير.
• مواد النظام العام ، سواء في القانون الجنائي او في قانون أمن المجتمع ، قد تمت صياغتها بشكل فضفاض وغامض، مما يسمح بإساءة استغلالها ويمنح سلطة تقديرية واسعة للقائمين على تنفيذها (شرطة النظام العام) لتفسير مواد القانون حسب تقديراتهم الشخصية.
• تطبيق قانون النظام العام بشكل إنتقائي يسمح بكثير من التمييز الطبقي والاثني، حيث يتم تطبيق هذه القوانين في الأحياء الفقيرة وضد الفئات الأضعف في المجتمع بينما تتفادى شرطة النظام العام الأحياء السكنية الغنية والتي غالبا ما تضم أفراد مرتبطين بالسلطة.
• يتم تطبيق مواد قانون النظام العام بشكل فيه تمييز واضح ضد غير المسلميين وخصوصا من معتنقي الديانة المسيحية ، حيث تم اعتقال العديد من الفتيات عند خروجهن من الكنائس بعد اداء طقوسهن الدينية واصطحابهن الي أقسام الشرطة بتهمة الزِّي الفاضح. كما تسمح مواد القانون بالتعنت ضد المسيحين في إقامة شعائرهم واحتفالاتهم الدينية.
• يقنن قانون النظام العام التمييز ضد المرأة بشكل كبير، حيث تتعلق اغلب بنوده (الزِّي الفاضح، محلات تصفيف الشعر النسائية وغيرها) بالنساء وانشطتهن. كما يتم تنفيذ هذه البنود بشكل تحقيري يستهدف تواجد النساء في المجالات العامة والحد من حراكهن ونشاطهن الاجتماعي.
• يقدم معتقلي و معتقلات قانون النظام العام الى محاكم إيجازية تعقد بشكل عاجل في اليوم التالي لاحتجازهن/م ، ولا يسمح للمتهمين/ات بتقديم دفاع عن أنفسهم/ن او توكيل محامين، و في اغلب الأحيان يتم إصدار الحكم وتنفيذه فورا. كما ان قاضي النظام العام غير ملزم بإعداد محضر مكتمل للمحاكمة بحيث يتم ضمان وجود سجل لمراجعة صحة الإجراءات وإنما يقوم بإصدار قراره فور سماع الشهود المكونين من افراد شرطة النظام العام. ويتم تقديم المتهمين/ات للمحكمة دون إبلاغهم/ن بالتهم الموجهة ضدهم/ن على وجه التحديد. وفي كل هذه المحاكمات يكون رجل الشرطة هو الشاكي والشاهد في ذات الحين. وكل هذه النقاط تشكل إخلالا بالغا بمبادئ ضمان حق المحاكمة العادلة.
• تشمل كافة مواد قوانين النظام العام، عقوبة الغرامة المالية مما يحول محاكم النظام العام الي مصدر جبايات لخزينة للدولة. وقدر تقرير حديث متوسط الإيرادات الشهرية لغرامات محاكم النظام العام ب٦٠٠ الف جنيه شهريا في الخرطوم وحدها. ويتم تخصيص نسبة من الغرامات تصل الي 10% للقاضي الذي اصدر الحكم، وهو الامر الذي يخلق تضاربا في المصالح ويجعل القاضي مستفيد بشكل شخصي من احكام الادانة التي يصدرها.
وتتضمن العقوبات المنصوص عليها في منظومة قوانين النظام العام بعض العقوبات المهينة كعقوبة الجلد و الذى يتم تنفيذه بشكل علني بهدف إذلال وتحقير المحكوم عليهم/ن . وبحسب تقدير آحصائي في العام 2011، فان ما يقارب 2 مليون وستمائة الف جلدة تلهب أجساد السودانيين كل عام نتيجة لاحكام قضائية صادرة عن منظومة قوانين النظام العام. وكانت اللجنة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب قد أصدرت قرارا يطالب حكومة السودان بإلغاء عقوبة الجلد والعمل على تعويض المتضررين منها نتيجة لشكوى مقدمة من متضررين/ات سودانين/ات ضد منظومة قوانين النظام العام في العام 2000، إلا ان الحكومة السودانية تجاهلت هذا القرار واستمرت في انفاذ العقوبة ، و هذا يدلل على نقطة مهمة إلا و هى غياب اليات التنفيذ والمتابعة لقرارات منظومات العدالة وحقوق الانسان الإقليمية والعالمية، بما يجعلها مجرد هياكل شكلانية ليست ذات أثر حقيقي.

وتستغل الحكومة السودانية هذا القانون كاداة سياسية لارضاء المجموعات الدينية المتشددة وأستمالتها وكسب دعمها وتأييدها السياسي. ويظهر ذلك جليا من خلال التشدد في تنفيذ القانون ضد الطوائف المسيحية. حيث تتزايد حملات النظام العام باقتراب مواسم الأعياد المسيحية مثل عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية واعياد شم النسيم ٬ كما تستخدمه ايضا لإرسال إشارات سياسية مثلما حدث في الهجمة الحالية والتي تلت زيارة نائب وزير الخارجية الامريكي والتي قدم خلالها طلبا رسميا للحكومة السودانية بإعادة النظر وتعديل والغاء بعض هذه البنود القانونية المقيدة للحريات. فقامت الحكومة السودانية بتصعيد شراستها في تطبيق بنود قانون النظام العام كرد فعل على هذا الطلب.

ويبقى قانون النظام احد أهم أدوات السلطة القمعية لإظهار القوة والتنمر بغرض خلق حالة من الخوف واليأس وفقدان الأمل في التغيير في أوساط المجتمع. واحد تجليات الفاشية التي تدير بها حكومة الرئيس عمر البشير البلاد.

Sudan Democracy First Group
Info@democracyfirstgroup.org

 

آراء