المحبوب عبد السلام في حوار “حول المشروع الذي كان”

 


 

 




كُنا نتـــوهم إعـــادة التــاريخ الإسـلامي لمسـاره الصحيح

كنا انتلجينسيا مضطهدة داخل الحركة الاسلامية

الترابي شبه فكر محمود محمد طه بالحشرة

صلاح احمد ابراهيم كان معجبا بقصائد الدفاع الشعبي


حوار : علاء الدين محمود
هذا حوار مع المحبوب عبد السلام حول مقالات كتبها في التسعينيات في صحيفة الانقاذ الوطني تحت عنوان (العبرة والاعتبار في الحزب الذي كان) وكان يقصد الحزب الشيوعي، وكان المحبوب وقتها قيادياً بالانقاذ التي كانت في تمام (تمكينها) مارس المحبوب في هذه المقالات نقداً شرساً على الحزب الشيوعي مستصحباً تجربة الشاعر صلاح محمد ابراهيم ... (الصحافة) تحاور المحبوب حول هذه المقالات وتضعه ايضاً في مواجهة (المشروع الذي كان) وهو المشروع الحضاري للحركة الاسلامية.
* في (الحزب الذي كان) صليتُ الحزب الشيوعي بألسنة حداد ومداد حارق وكانت روح الناقم والناقض تحل محل الناقد، الناقم الذي يطل في تلك الفترة من شرفة انتصارات انقلاب عسكري ومشروع حضاري، مقحما في نقمتك هذه قضية صلاح أحمد ابراهيم ـ الذي كان يعاني بالفعل ـ لتحاكم بها الحزب وتحكم عليه ؟
- فلنتعرض هنا اولاً لهذه الجزئية الصغيرة المتعلقة بصلاح أحمد ابراهيم ، وهذا كان في اطار رؤية لي من ايام الجامعة انني لاحظت ان غالب الشعراء يتركون الحزب الشيوعي صلاح كان واحدا منهم ، السياب قال في بيت شعر مشهور : وإذ يتمرد الانسان فتى علي العبودية يثور علي الشيوعية وانا كنت ابحث في هذه الظاهرة ولا اشمت، المقالات نفسها لم تكن تحليلا واسعا لأنني كنت اعتمد علي وثائق سربت من الحزب الشيوعي، بالتالي لم تكن تحليلا واسعا لموقف الحزب الشيوعي، انا كذلك كتبت كتابا عن تجربتنا في الحكم ، وإذا اعتبرت انت انني سلقت الحزب الشيوعي بألسنة حداد فانا كذلك مارست هذا الفعل تجاه تجربتنا في الحركة الإسلامية وليس المقصود طبعاً ألسنة العدو الذي يرُيد أن يشمت علي الاطلال، ولكن المقصود هو النقد الذاتي وحتي اليوم انا إذا اعدت تقييم تجربة الحزب الشيوعي أو حزب الامة او الاتحادي الديمقراطي اعتبرها قوى وطنية ، واحاول ان اتعامل معها بموضوعية، ولكن مشكلة الموضوعية في اطار الثقافة السودانية تعني ان تبذل الكثير من المجاملة لمن تتحدث عنه، وفي مجال نقدنا لتجربتنا انا كتبت كتابا الآن هو يعد للنشر، كتبت عن البناء نفسه وكيف بدأنا التخطيط الاستراتيجي منذ المصالحة الوطنية، وتحدثت باستفاضة عن الجبهة الإسلامية ثم تحدثت عن فكرة الانقلاب نفسها وكيف قُلبلت وتحدثت عن الاجهزة التي نفذت هذا الانقلاب، وتحدثت عن مسارنا من التنظيم الخاص إلى النظام السياسي العام، وتحدثت عن تجربة الجهاد والتجييش والشرطة والأمن وتحدثت عن تجربة الحكم الاتحادي ومشكلة الجنوب وما اعتراها من مسالب كبيرة، وكذلك تناولت السياسة الخارجية والمنعطفات الكبرى، وكذلك تناولت المفاصلة وحاولت ان ارسم آفاقا للمستقبل، ونجد في ذلك نقداً حاداً جداً وربما هي المرة الاولي يصدر من شخص ينتمي لحزب بهذا الوضوح، وهو تقويم موضوعي وكثير من الاخوة خارج الحركة الإسلامية يقولون ذلك واعتقد انك ايضاً تقول بذلك اننا لا ندري ما يدور داخل هذا البيت دائما نري منتجات البيت لكننا لا نري المطبخ الداخلي فانا حاولت بهذا الكتاب ان ادخلك الي البيت واعرفك علي المطبخ وعن كيف صدرت القرارات وماهو الخطأ وماهو الصواب في هذه الاشياء.
سنأتي الى ذلك ولكن ...؟
- مقاطعاً : جداً ولكن انا اقصد ان اعرفك بطبيعتي الناقدة، انا اذكر عندما نشرت هذه المقالات في صحيفة الانقاذ الوطني كان يرأس تحريرها الاخ سيد الخطيب وأذكر جيداً تعليق سيد الخطيب علي هذه المقالات (العبرة والاعتبار في الحزب الذي كان) وهو قد وصفها (بالمشابهات) وفي الحقيقة نحن (الحزب الشيوعي) و(الحركة الإسلامية) احزاب عقائدية وتتشابه شيئاً ما في اطروحاتها.
*ذكرت لي انك تعتبر الحزب الشيوعي حزبا وطنيا من الاحزاب الوطنية ،ولكن في نفس هذه المقالات نفيت ذلك ، وقلت ان مشكلة الحزب الشيوعي انه ليس سودانياً ولا ماركسياً ؟
- هذه ايضاً من المآخذ التي كنا من الجامعة نأخذها على الحزب الشيوعي وهي ليست جديدة بعد الانقاذ، بعد الشعور بالانتصارات ولكننا كنّا نعتقد ان الحزب مرتبط بسياسات الاتحاد السوفيتي وكُنّا نقول ذلك حتي على بعض الاحزاب حتي الدينية التي كُنّا نراها مرتبطة بانظمة في الخليج او هيئات دينية في المملكة العربية السعودية وكان هذا مرفوضا لدينا كنا نرى ان الحزب ينبغي ان يكون سودانياً واذكر كذلك انني قد شهدت الندوة التي أقامها مركز الخاتم عدلان وتحدث فيها د. فاروق محمد ابراهيم، واشار فاروق الى هذا المعني انهم كحزب توصلوا الي افضلية ان يصبح الحزب الشيوعي حزباً سودانياً وان هنالك مئات من المثقفين يؤمنون بالبرنامج الاشتراكي ولكنهم لا يريدون الالتزام في اطار حزب ماركسي، وكان هذا المخرج الافضل لهم وكان طرح فاروق هذا قد أُعتمد كرأي، ولكن فجأة تم الخروج عن هذا الرأي لأن الاتحاد السوفيتي كان له رأي آخر في هذا التحول الكبير ، وهذا أمرٌ معلوم، قد أكون قد مارست بعض الشطط في ذلك المقال «العبرة والاعتبار في الحزب الذي كان» ، عندما وصفته بأنه ليس سودانياً، انا الآن في هذه اللحظة التي اتحدث فيها اعتقد ان الحزب الشيوعي حزب سوداني حقيقي، وحزب سوداني وطني، وله تجربة جيدة جداً في التنظيم وفي الفكر ومنذ الستينات كان الحزب الشيوعي يُقيم ندوة اسبوعية ومساهماته في الادب والفكر السوداني كنت أقرأ في الطائرة كتاب فاطمة بابكر عن الرأسمالية السودانية ورغم خلافي معها في بعض التحليل ولكني استفدت جداً من الكتاب حتي في نقده للتجربة الاقتصادية لدي الانقاذ، فلدي الشيوعيين اسهام كبير ولكن الآن معظم الكوادر الفاعلة للحزب مازالت خارج السودان وهؤلاء كذلك تطوروا، خرجوا شبابا صغارا من السودان وتزوجوا وانجبوا في المهجر وقطعاً طول مكوثهم في المنافي قد اكسبهم نُضجاً وهذا ليس تحليلاً ولكنها تجربة، انا حضرت سمنارات عقدها افراد من الحزب الشيوعي ورأيت النضج الذي بلغوه، واذا كان لي نقد أوجهه الآن للحزب الشيوعي فانا أسف انه حتي الآن لم يحدث حتي الآن التغيير المطلوب مع مقدرته على ذلك.
*سرعان ما انهارت شرفة الانتصار التي كنت تطل منها بانهيار ما اسميتموه (المشروع الحضاري) الذي انهار على الرؤوس ، انهار المشروع غير القابل للنقد والانهيار لانه متعلق باسباب السماء !! فصار (المشروع الذي كان) ؟
- والله طبعاً هو متعلق باسباب السماء بمعني انه جهد المؤمنين، فالمؤمن ينبغي أن يربط عمله كله بالسماء حتي إن أخطأ، لذلك كنت اتساءل دائما لماذا يحدثنا القرآن دائما عن السلبيات اكثر من الايجابيات، فثلثا القرآن عن بني اسرائيل والنصارى، وهم آخر تجربة كتابية، نحن كان لدينا أوهام وهي اننا نستطيع ان نستدرك أكثر من اربعة عشر قرنا اى منذ ان تركت الخلافة الراشدة مسارها الراشد واصبحت ملكاً عضوضا، كان عندنا توهم اننا نستطيع ان نستدرك هذه الفجوة التاريخية الكبيرة وان نعيد التاريخ الإسلامي الى مساره ولكننا عندما خرجنا من الحركة الى الدولة وجدنا الدولة مثل الجدار كلما حاولت ان تمد يديك لتحيط بالجدار تجده اوسع منك، وهذه النقلة كانت تحتاج الى تركيز اكثر، واقول انا كنت واحدا من اناس كثيرين يميلون الي ان فترة الديمقراطية ان تترك لتكمل تجربتها وان لا نقوم باي انقلاب حتي نبلغ البرلمان بالانتخابات، وكثير من الناس في الحركة الإسلامية كانوا يدعون انهم لا يعرفون شيئاً عن الانقلاب، ولكن هذا غير صحيح كنا نعلم عن الانقلاب وانا كنت طالبا في فرنسا والتقت بي قيادة الحركة هنالك وابلغتني بانهم مُقبلون على تغيير كبير، وكان هذا مفهوما وواضحا جداً وانا قلت للشخص الذي ابلغني : لماذا لا تتركون الحركة الإسلامية تنضج في نار الديمقراطية الهادئة ورد على قائلا : واين هي هذه الديمقراطية التي تتحدث عنها البرلمان غير موجود، وكل الحكومة تُدار من القصر، الجيش الذي ينبغي ان يحرس الديمقراطية هدد رئيس الوزراء واعطاه مهلة اسبوع، وكنا نتناقش في ذلك الوقت وكانت هذه نظرة ذكية أن الإسلام لن يجد طريقه بسهولة عبر الانتخابات كما نري اليوم في تركيا، وكما رأينا في الجزائر، كما نري في مصر حتي الآن رغم ان حزب الاخوان المسلمين في مصر حزب مسالم جداً إلا انه لم يمنح رخصة العمل الرسمي، وتري كذلك مثالا للحزب في تركيا فاز ثلاث مرات متوالية بغالبية الاصوات إلا انه يواجه جدلا هل يُحل أم يترك والذي منع ـ بالمناسبة ـ حزب العدالة في تركيا من ان يحل هو الاتحاد الاوروبي وليس العلمانية التركية، فالعلمانية كذلك شرسة جداً، ورأينا في السودان كيف حوصرت الجبهة الإسلامية القومية من قبل احزاب اليسار ومن قبل الاحزاب التقليدية، كل مؤتمراتنا كانت تحاصر، ولذلك اشخاص امثالي كانوا يدعون الي ان تنضج الحركة الإسلامية في نار الديمقراطية الهادئة كانت حججهم ضعيفة في النظر الي الواقع ويبدو انهم ـ دُعاة الانقلاب ـ كانوا منطقيين وكما قال أحمد سليمان المحامي انه خرج من اجتماع المكتب السياسي لان هنالك شخصا داخل اجتماع المكتب السياسي يحمل هذا الرأي وهو ينبغي الا نقوم بانقلاب، وحلف أحمد سليمان المحامي بالطلاق انه لن يحضر اجتماعا مع شخص يحمل مثل هذا الفكر المتخلف، وكان يقول هاهي السلطة منثورة في الارض تحتاج الى من يلتقطها ، وان لم تُسارع فسيلتقطها شخص آخر وسوف تُنصب لكم المشانق، المهم هذه مسألة تحتاج الي فحص دقيق، فحص معلوماتي دقيق، نحن كانت لنا اوهام ، فالنظرية رمادية والتجربة خضراء كما يقول جوته وهذه العبارة أشتهر بها لينين ولكنها لجوته وقد تعلمنا منها، وليست تجربة محبطة او ان الشرفة انهارت كما قلت انت، ولكن نحن بشر في سلسلة تاريخ طويل لذلك ينبغي ان لا نقيس الاشياء باعمارنا ونريد ان نعيد مشروعا إسلاميا في الدولة والحياة والمجتمع ، وعندما استلمنا السلطة كتبنا «الاستراتيجية القومية الشاملة» ، ان الاصل هو المجتمع، المجتمع المؤمن يقوم بغالب وظائفه وهو مجتمع مبادر والصدفة عندها دور مُحدد في دورها القهري ان تضبط الناس بالقوة في بعض المسائل حتي البارحة القريبة انا كنت اتناقش مع بعض الكبار من الإسلاميين حول مفهوم السُلطة كيف ناقشها الفكر الغربي وكيف ناقشها التُرابي في كتابه الاخير فهذا المبلغ لم نبلغه في 1989م.
*تحدثت عن صلاح أحمد ابراهيم لحظة التقائه بكم في (الانقاذ) التي ترمونها بحجارة من سجيل، تلك اللحظة التي كانت بالنسبة لصلاح بنت الصراعات الشخصية التي بالفعل تأذى منها صلاح وآخرون من الشيوعيين فاختار الالتقاء بمعسكر لعنه الشعب ـ الانقاذ ـ ثم لعنتموه انتم عقب خروجكم عليه، انت لم تفعل في تلك الايام غير ان استثمرت صلاح في صراعك الناقم ضد الشيوعيين الذين هم العدو الاكبر ساعتها ؟
- طبعاً هذا الكلام بعيد جداً عن الحقيقة فصلاح أحمد ابراهيم شخص لا يمكن ان اؤثر عليه انا فكنت حينها شاباً وهو تجاوز الخمسين وصلاح نفسه بعد الفترة التي قضاها في باريس متأملاً للتجربة شخص لا تبرد عاطفته تجاه السودان والقضايا الوطنية ولكن نظر للافكار والتجربة وكان يتحدث عن الشيوعيين بهدوء شديد ولو كان هذا مجال لحدثتك عن هذا الامر فقد نضجت افكاره ونظرته للتجربة ولكنني كنت اختلف مع صلاح كثيرا فمثلاً صلاح ـ وهذه مفارقة ـ لديه موقف جذري من طبيعة علاقة بعض السودانيين بمصر وانسحب هذا الموقف على موقفه من جمهورية مصر الشقيقة، وانا كنت اعتقد ـ وهذا رأي الكثيرين في الحركة الإسلامية ـ ان مصر مهمة جدا للسودان ، وكان هو يقول ينبغي ان نتحرر من طبيعة العلاقة مع مصر ونؤسس علاقة جديدة مع مصر ولذلك صلاح كان يقول : ان كثيرا من السودانيين يعتقدون ان السودان تابع ينبغي ان يوضع تحت الاقدام المصرية وكان هذا مثار جدل بيننا وبينه وكان كذلك لديه موقف جذري من الحركة الشعبية لتحرير السودان في ذلك الوقت، واذكر اننا ذهبنا الي سمنار كان يتحدث عن الرق في موريتانيا والسودان، وعُدنا انا وابن عم لي من باريس وكان لنا تعاطف مع هذه القضية وكان صلاح يري ان هذا مجرد توظيف لقضية من اجل شق وحدة السودان وكان لديه موقف جذري من دكتور جون قرنق ، وكان يقول ان دكتور جون قرنق صهيوني وانفصالي وكنت أرى رأياً مختلفاً منذ ذلك الوقت حول الحركة الشعبية، وهكذا كان صلاح مستقلا جداً ولكن انت تعني اللحظة التي انحاز فيها صلاح لمشروع المقاومة في الجنوب وليس للانقاذ، رأي صلاح في الانقاذ حدده في الرسالة التي بعث بها الي رئيس الجمهورية، وانا عندما عدت الى السودان واصبحت مسؤولا في الاعلام الخارجي كان يقول لي بوضوح ان الشخصيات الجيدة من امثالك في الاحزاب هم الذين يدفعون الثمن كما دفعه الشفيع أحمد الشيخ ، وقال لي انت الان مسؤول الاعلام الخارجي وكل ما ستفعله هو القيام بعكس ما يدور في الخارج، وان الحمار اذا نظر في المرأة سيري وجه حمار ولا يمكن ان تحسن صورة غير موجودة وهذا كان حديثه باستمرار وبعث برسالة ارجو ان تنشر مرة اخري لرئيس الجمهورية ،الذي حفز صلاح هو ما رأى من بعض اشرطة الفيديو التي وصلت باريس حول مجاهدات الدفاع الشعبي والقصائد التي تُليت، وكان يقول من اين يأتي هؤلاء الاولاد بهذا الكلام (ملعون ابو القمح الوراه مذلة) وكان معجبا جداً بقصائد الدفاع الشعبي وكان يقول لي انه يتمني ان يموت ولا يري السودان يتمزق وكانت هذه دوافعه في تأييد الانقاذ في تلك المرحلة، وقال لي انه يرُيد ان يقابل مدير جهاز الأمن فاخبرت نافع علي نافع وكان يتقلد هذا المنصب في ذلك الوقت فقال لي نافع ان صلاح اذا جاء الي السودان سأقابله واذا ذهبت الي اوروبا ساغشى باريس بالتخصيص لمقابلته وفعلاً أوفى د . نافع بوعده فعندما جاء صلاح ذهبنا انا وهو الى نافع واثار معه صلاح موضوع فاروق محمد ابراهيم وقال لنافع «انا اسمع حديثا عن بيوت الاشباح واسمع انكم ترفضون هذا الحديث ولكن هنالك شخص واحد لا يمكن ان يكذب وهو فاروق محمد ابراهيم»، وهذه شهادة ارويها من صلاح عن فاروق محمد ابراهيم فصلاح وصف فاروق بأنه لا يكذب ونافع نفسه كان يقول ان فاروق لا يكذب لانه يعرفه شخصياً ولذلك اتفق نافع مع صلاح في هذا الطرح وقال نافع لصلاح : (ينبغي ان تعزرنا فبلد فيها حروب لا يمكن ان يكون فيها حقوق انسان بهذا المعني) ، وفي النهاية خرج صلاح وهو راضٍ عن لقائه مع نافع علي نافع ووجاهة وجهة نظره ان البلد فيها حروب لا يمكن ان يكون فيها حقوق انسان بالمعني الذي نتطلع اليه في اوروبا ولكننا كسودانيين ينبغي ان تكون هنالك حقوق انسان. ولكن المرافعة القوية التي كانت في تجربة الدفاع الشعبي ادرك جوهرها صلاح أحمد ابراهيم ورأى انها ستنقذ السودان من مصير الانفصال وكان له هاجس قوي جداً من إطروحة دكتور جون قرنق واطروحة فليب عباس غبوش، واطروحة د. بلدو، ود . عشاري وكان هذا قبل الانقاذ، وقال لي صلاح انه قال لفاطمة محمد ابراهيم : «اذا جاء د. جون قرنق الي الخرطوم لن يُفرق بينك وبين د. الترابي»، وكان هذا قبل الانقاذ واعتقد ان صلاح لم يجد الوقت الكافي لتأمل اطروحة د . جون قرنق والحركة الشعبية ولو عاش الى اليوم اعتقد انه كان سيغير موقفه هذا، فصلاح كان منحازا جداً لقضايا المهمشين وعند زياراته للسودان كان يصر علي الذهاب الي المويلح وكان يحمل معه اغاثة لهم.
*قلت إن صدق صلاح أحمد ابراهيم في سودانيته هو الذي عمق احساسه بالخطر على السودان، وجعله يبحث عما يجمع الصادقين في صف واحد، كان لا يرضى لأبناء السودان أن ينتشروا في دول الجوار باسم المعارضة في حين الخطر على السودان و.... ؟

«مقاطعاً»: الكلام ده كتبتو أنا؟
*مواصلاً: نعم.. وقلت عن صلاح أيضاً إنه يرى ببصره الحاذق د. منصور خالد في معسكر الأعداء، وها قد دارت الأيام أو بلغتك دارت الدوائر وتحالفتم مع معسكر الاعداء (المعارضة - الحركة الشعبية)، بل والحزب الشيوعي الذي ـ يا سبحان الله ـ نفخ الله في صوره فاستبدله بـ «الحزب الذي صار».. كيف تقيِّم مسيرة الانتقال هذه من النقيض الى النقيض؟ وكيف تنظر الى انتشار كوادر المؤتمر الشعبي في معاقل الامبريالية الآن؟ كيف تقف مواجهاً للموقف القديم؟
- والله تعلمنا، اعتقد اننا قد تعلمنا، طبعاً المواقف الحادة هذه كانت موجودة منذ أن كُنّا طلابا بيننا وبين الشيوعيين ومعسكر اليسار عموماً. وكان جيلنا جيل السبعينيات في نظر جيل الستينيات دفع الأمور في الجامعة في اتجاه غير سوداني، وهو اتجاه العنف والمحاداة والمواجهة، فهذه هي الأجواء التي تربينا فيها. ولكني كنت شخصياً - ويمكنك أن تسأل - اكثر أخ مسلم له علاقة بالشيوعيين والبعثيين في جامعة القاهرة وجامعة الخرطوم. وكان هذا معروفا عني، ولكن هذه كانت هي الاجواء، واستمرت هذه الجواء ايام الجبهة الاسلامية، لاننا كنا آخر حزب مع النميري أيام انهياره، واستثمر هذا لاقصاء الجبهة الاسلامية، نحن كنا نملك جريدة واحدة امام عدد من الجرائد كانت للقوى التقليدية واليسار، ولكن وقّع اكثر من اربعين مثقفا مشهورين وكبار من مثقفي اليسار لحظر صحيفة «ألوان»، ثم بعد ذلك حظر الحزب نفسه حزب الجبهة الاسلامية القومية، وأية ندوة شهدناها كنا نشهد فيها هذه العنف. ونحن في جريدة الراية كُنّا نسخر من أنفسنا، لأن الخط الرئيسي للجريدة كان يحمل كل يوم اسم التجمع أو جون قرنق. وكان هذا هو العدو الرئيسي الذي صوبنا إليه كل جهدنا.. وطبعاً كانت تلك ايام محتدمة جداً، وانتقلت هذه الأجواء الى الانقاذ الأولى (بداية عهد الانقاذ) كان فيها هذا العنف بين المعارضة والحكومة، وحكمنا عشر سنوات تعلمنا فيها الكثير.. ولكن المفاصلة بين شقي الحركة الإسلامية كانت درسا كبيرا، التأمل ومراجعة المواقف، ولا توجد مواقف تنشأ بين يوم وليلة، ولكن تتبلور في رحم القديم، فإذا ظهر ضوء الصباح يبرز هذا الشئ الجديد.. فنحن منذ عام 1996م داخل الانقاذ بدأنا نتحدث عن ضرورة بسط الحريات، وكُنّا نعتبر انتلجينسيا، والانتلجنسيا مضطهدة شيئا ما، داخل الحركة الاسلامية، فقد كانوا يطلقون عليهم عبارات مثل المنظراتية والمفكراتية، كما قال التيجاني عبد القادر، وذلك بغرض تخفيض دورهم. وعندما جاءت معركة التوالي التي بدأت عام 1996م ووصلت قمتها عام 1998م عندما أعلن الترابي انه اذا لم تجز اطروحة التوالي فإنه سيتخلى عن الأمانة العامة. ونحن كُنّا أكثر حدة، فالترابي كان يراعي أشياءً كثيرة، ولكن المجموعة التي كانت حول الترابي كانت حادة جداً في مواجهة العسكريين والمدنيين ، كانت مواجهة حادة جداً، وفي ذلك الوقت كنا مانزال حزباً واحداً، ولكن عندما حدث الانشقاق كل هذه الافكار أضاءت، فكرة الحرية، فكرة اللا مركزية، فكرة الهامش الذي يقاتل من أجل حقوقه.. هذه المفاهيم بدأت جذورها ومكوناتها منذ فترة بعيدة، ولكن الانفصال اعطانا قوة فكرية في اتخاذ هذه المواقف. وأذكر أنني قابلت شخصية إسلامية بارزة في الدوحة بعد المفاصلة، فرفض ان يُسلم عليَّ باعتبار أنني كنت في أسمرا ووقعت مذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية، وهو شخص كبير واستاذ للفلسفة، وقابلت آخر في لندن وقال لي لائماً: حملت القلم ووقعت اتفاقاً مع ياسر عرمان هذا الشيوعي وباقان أموم الذي احتل كسلا؟. وجلست مع هذا الشخص أكثر من ساعة وحدثته عن التطور الفكري والنفسي الذي حدث لي شخصياً، والتطور الذي حدث في كل مسار الحركة، وهذه تطورات مهمة ينبغي أن تقرأ في مسار حركة اجتماعية، سياسية، وللأسف فإن القراءات ليست كثيرة في السودان، لا يقرأ الناس التجارب ولا يراجعونها، وأنا لست أدري ما الذي يحدث، فالطاقة الفكرية في السودان كان ينبغي أن تستفيد من هذه التجارب، وبالتالي يتكون لدينا أكثر من حل للمشاكل التي نواجهها، ولكني أقول وكنت اقول هذا دائماً، إن الحركة الاسلامية والحركة السياسية السودانية كلها في مرحلة نضوج، فنحن في لندن نلتقي عادة أنا وحاتم السر وعادل سيد أحمد والهادي الرشيد وياسر عرمان والرشيد سعيد، ونتحدث كأصدقاء ينتمون الى أصل واحد، يحملون نفس الهموم، ويتفقون في أكثر من 90% من الرؤى، ولو وجدنا حتى شخصا من المؤتمر الوطني متجردا من الضغوط السياسية، يمكن أن يصل معنا لنفس النتائج. ولكن الذي يمنع ذلك هو الاجواء غير الطبيعية الناتجة عن الوجود الطويل للإخوة في المؤتمر الوطني في السلطة. ? تناولت ما أسميته عقلية وروح الفكي والحيران التي سادت حياة الحزب الداخلية التي ساد فيها قمع العضوية ومصادرة حقها في الادلاء برأيها، والرضا بدور المتلقي حتى تحنط عقول العضوية وتكف عن التفكير وتنتظر رأي الحزب في كل المسائل. صدقني رغم اتفاقي معك في بعض ما ذكرته إلا انني لم امنع نفسي من الضحك خاصة وان هذا هو عينة واقع الانقاذ عندما كنت أنت أحد قادتها، وواقع المؤتمر الشعبي بعد ذلك فلم تكونوا إلا حيرانا للترابي، والبعض يراك أنت بالذات الحوار الذي يأبى مفارقة شيخه، وتسير معه على طريقة (إن كان قد قال فقد صدق)؟ - هذه طبعاً نلوم عليها الحزب الشيوعي الذي اعطانا النُسخة السوفيتية من الماركسية، طبعاً ما كُنا نجد كتبا عن الماركسية نقرأها غير كتب المركز الثقافي السوفيتي، وكانت تؤكد لنا هذا المعنى ولكنني بعد ان ذهبت الى فرنسا اعطتنا النسخة الاوروبية اضاءة اعمق للماركسية غير السوفيتية، فالذي اعترى التجربة الشيوعية في السودان من ازمات كانت تشير الى هذا المعنى واذكر انني جلست الى الخاتم عدلان وسألته عن التقييم الذي صدر بعد ثلاثين عاماً عن احداث يوليو 1971م، فكان منفعلاً جداً وثائرا على التقييم الذي وضع المسؤولية على الضباط الماركسيين، وقال لي بالحرف الواحد ان هؤلاء الضباط من اشرف الناس وأكثرهم انضباطاً والتزاماً بقرارات الحزب ولا يمكن للحزب ان يتبرأ منهم بهذه الطريقة. هذا كان رأي الخاتم عدلان فإذا كنت انا اقرب حوار للشيخ الترابي فالخاتم عدلان كذلك حوار كبير لعبد الخالق محجوب، ولكن كانت هنالك مركزية واضحة جداً في تجربة الحزب الشيوعي وأظن أنا لا امتلك معلومات جدية ولكن اظن ان هذه المركزية هي التي تعيق عملية التجديد في الحزب، فالحزب الشيوعي ليس في حاجة الى اصلاح فقط ولكن ايضاً الى تجديد وهذا رأي كثير من الماركسيين. فيما يتعلق بتجرية الحركة الاسلامية أنا اشرت في اكثر من مرة الى انها حركة أنداد بدأت في المدارس والجامعات بين شباب في ذات العمر، لم يكن بينهم شيخ ومن أهم الاصلاحات التي قام بها الشيخ الترابي انه لم يسم منصب القائد في الحركة الاسلامية بالمرشد العام كما كان في مصر، بل سماه الأمين العام فقط سكرتير منظم للعلاقات ولكن كذلك اشرت اكثر من مرة الى عبد الخالق محجوب وحسن الترابي باعتبارهما شخصيتين استثنائيتين مفيدتين جداً، ولكن في نفس الوقت تحدث بعض المشاكل عادة فالانسان العادي تنتهي طاقته في الستين ولا يستطيع ان يقدم الجديد ولكن الشخصيات الاستثنائية تظل تقدم ود. الترابي من هذه الشاكلة، واظن عبد الخالق محجوب كان من هذه الشاكلة أنا قرأت مقارنة طريفة جداً بين عبد الخالق والترابي لم تنشر، كتبها الدكتور احمد عز الدين أبو القاسم هاشم، وهو طبيب وماركسي كان في الامارات وكان في القوات المسلحة ضابطا صغيرا في 1971م، وهو شديد الاعجاب بعبد الخالق والترابي وليس اعجاباً ساذجا بل لأنهما من المفكرين الاستثنائيين والاستراتيجيين، الترابي مفكر استراتيجي نحن لم نستفد من افكاره فقط بل وتتلمذنا على يديه نحن تلامذة الترابي ومتأثرين بمنهجه كما قال مرة أمين حسن عمر ان للحركة الاسلامية مفكر واحد والبقية شراح على المتون، ولكن كانت عندنا فرصة كبيرة جداً للشرح فالترابي بطبعه ليس مركزياً بل يتيح فرصة كبيرة جداً للقيادة من حوله ان تفكر وان تتصرف، وهذا بعض الذي اضر بتجربة الانقاذ ان الترابي فوض غالب سلطاته الى النواب وآخرين لم يكونوا بمستوى فهمه للتحديات التي تواجه السودان وتواجه وضعه في الداخل وفي العالم. صحيح اننا تلاميذ د. الترابي بهذا المعنى ولكننا أبداً لمن نشعر انه يمارس دكتاتورية علينا خاصة عندما نقارن انفسنا بالاخوة في الحركات الاسلامية العربية، ونجد الحظر الذي يفرض على آرائهم وافكارهم وقراءاتهم، وكنا نقارن انفسنا في الجامعة بالفكر الجمهوري، الفكر الجمهوري كان يقوم على الأستاذ محمود محمد طه ولا يمكن لجمهوري أن ينطق كلمة ما لم يراجع لكتب الأستاذ أو يسأله مباشرة، لكن الترابي حتى في أصول الفقه التي له فيها إسهام مهم جدا، أشار إلى أن الفكر الإسلامي في أصله تفاعل بين النص والواقع وعقل الإنسان وتجربته الشخصية ونسبيته، وكان يقول أنتم تريدون أن أكتب كتبا كما يكتب محمود محمد طه وأن تستندوا إليّ، وكنا فعلا نطلب ذلك في أول الجامعة، وكان يقول أنتم إذا سألكم سائل في حلقة نقاش يمكنكم أن تجتهدوا وتفكروا، فهو لا يحتكر الاجتهاد للعلماء ولا يعترف بطبقة اسمها العلماء، ولكي يجعل من الاجتهاد شركة مساهمة يساهم فيها كل الناس فهذه هي الأفكار التي كان الترابي يشرحها جيداً وينادي بها، وتشبعنا بها لذلك لم نشعر أبداً أننا مجرد تُبّع وعندما كبرنا ونضجت تجربتنا كثيراً ما كُنّا نجادله ولم يكن يمارس علينا إرهاباً فكرياً كما يظن الناس.
*رُحت تدبج مقالك «الحزب الذي كان» بالآراء الفكرية المصطرعة داخل الحزب الشيوعي ـ وهي حالة حميدة ـ التي حفلت بها مجلة قضايا سودانية لتبرهن علي اقتراب نهاية الشيوعية، ألا تشبه هذه الحالة بتلك التي انخرط فيها مثقفو الحركة الإسلامية بعد انهيار مشروعهم الحضاري على رؤوسهم ناقدين ومدافعين وباحثين عن أفق، ألم تنخرط أنت نفسك ليس في نقد عنيف ليس دفاعاً عن «المشروع الرباني» بل عن الشيخ ـ طبعاً إلا إذا كانا شيئا واحداً ـ في وجه من خرجوا عنه وتخلوا عن أفكاره ووصفت هؤلاء «الحيران الفارين عن شيخهم ـ بالانتجلنسيا الإسلامية المتولية يوم الزحف» بل وأسست لهذه الحالة «الفكي والحيران» عندما قلت: «إن الحالة الأشد خصوصية، حالة المجموعة حول الأمين العام مؤسس الحركة ومفكرها من التلاميذ النجباء والأذكياء، والحوار بينهم بالتواجد الروحي والفكري وأحياناً بالتواجد المادي الفعلي ولمدى يقارب العقود الثلاثة 1974 م ـ 1999م»؟
ـ نعم، أنا حتى اليوم ما زلت أقول بذلك إن الشخصية السودانية لا تملك رصيداً نفسياً وفكرياً جيداً للمقاومة، وليست لنا الطاقة النفسية التي عند العراقيين أو الفلسطينيين أو حتى بعض الأخوة الافارقة أو الاخوة في الجنوب التي تقبل الأحوال الصعبة «كسر العظام، عض الأصابع» وتخرج من التجربة مستعداً أن تواصل، هذا عيب في شخصيتنا بالنسبة للإخوة في الحزب الشيوعي تجربة 1971م ما زالت ماثلة فهم أقرب للشخص الذي جرب عض الدبيب ويخاف جر الحبل، الأخوة الإسلاميين بعد الانشقاق انفضوا، بعضهم ذهب إلى أفكار صوفية مناوئة جداً لمشروع التجديد الذي قامت به الحركة الإسلامية، وبعضهم وقف في الرصيف محتارا، وبعضهم أصبح ناقما وناقدا جداً، وبعضهم ذهبت به الحياة في دروب أخرى وعرة. على أية حال أنا أقول إن التجارب سواء أكانت داخل الحركة الإسلامية أو داخل الفكر الماركسي ينبغي أن تُلهم الناس لجولة جديدة من العمل والتفاعل، وهذا لم يحدث يمكن أن تكون هنالك عيوب متعلقة بإدارة الحركة من قبل قيادتها، مثلاً كثير من الناس كانوا يقولون لي: أنتم طلبتم منّا التصويت لدستور 1998م، ولكن لم تشرحوا لنا هذا الدستور، وصوّتنا لأنكم أنتم طلبتم ذلك، ولكن لم نعرف أن هذا الدستور مؤسس علي الحريات، دستور مقدس ومحترم. وأنا كنت في غالب الندوات عقب الرابع من رمضان أقول إن هذاالدستور قد خرق وأن هذا الدستور هو عهد الولاء الأعظم بين الشعب ولكن قيادة الشعب خرقت هذا الدستور ولذلك ليست لها أية ولاية عليه حتى تعود عن هذا الأمر. ولذلك عدم شرحنا لهذا الدستور كان عيباً، لكن أنا قابلت إسلاميين أقصى أمريكا وتحدثت إليهم وعجبوا جداً لوضوح الرؤية فهم ما كانوا يدركون التفاصيل ولكن كان عندهم بصيرة نافذة جداً لأن يروا المواقف وعندما حدثتهم عن التفاصيل لم يندهشوا كثيراً لكن فقط عضضت مواقفهم، فأنا ألوم الانتلجنسيا في هذا. فيما يتعلق برأب الصدع هذه لجنة جاءت تصلح بين طرفين كما تقول آية قرآنية «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله» لكن فوجئنا في اليوم الثاني أنهم كلهم أصبحوا وزراء فهذا يعني أنهم جاءوا من الطرف الآخر خلطوا أهداف الحركة الإسلامية العظيمة بطموحاتهم كنخبة، أن يتولوا مناصب، يصبحون وزراء، ويصرفوا دولارات وهكذا... وهذا شيء مؤسف.
*من ضمن من استخدمتهم في هجومك على الحزب الشيوعي كان الخاتم عدلان الذي رأيت فيه «تأيق يعشى الى نور كريم» وبررت ذلك بأنه يدعو إلى نقد شامل ومفتوح، وأنه جاء بكل تجربته في الدراسة والجدل ليناقش حزبه وقيادة حزبه. تُرى كيف تنظر إلى النقد الذي وجهه الخاتم عدلان ـ صاحب التجربة والدراسة في الجدل ـ للشيخ الترابي حيث يرى الخاتم أن التفكير المنفلت من عقاله يضع الترابي علي رأس المتطرفين الغُلاة، وأن الترابي يرى في حكمه الخاص حكم الله، وأن مسيرته خلال أربعين سنة كانت المسيرة الدموية المدفوعة ظعائنها بالحُداة الكاذبين. بل ذهب الخاتم معدداً ما أطلق عليه الآليات الترابية لاختطاف الدين بل قال الخاتم إن الترابي حرك الزعماء السياسيين كالدمى في جريمة حل الحزب الشيوعي ودحر الديمقراطية الثانية؟
ـ أنا قرأت طبعا هذه المقالات وذهبت إليه في صحيفة الشرق الأوسط، وطلبت منه نسخة حتى أعمل على نقدها لأنني رأيت فيها خلطاً وأنا كنت أتهم الخاتم منذ أن كان طالباً في الثانوي بأنه فُرّغ من قبل الحزب الشيوعي ليتابع مسار الحركة الإسلامية الفكري، ولا سيما فكر الترابي وفي نقده الأخير ـ مقال الثلاثاء، بصحيفة الأضواء ـ اعتمد على كتاب السياسة والحكم للدكتور الترابي الذي صدر عام 2004م، وهذا الكتاب يستحق هذا النوع من القراءات، أنا الآن لست بصدد أن أجيب على كل ما كتب الخاتم عدلان لكن ما كتبه يستحق أن يُنظر فيه وأن يرد عليه وأنا سأقوم بهذا الأمر، طبعاً للأسف الشديد بعد لقائي بالخاتم هو ذهب إلى أمريكا واكتشف المرض، وبعد ذلك لم يعش طويلاً. في تجربة الحزب الشيوعي شيء أفضل من تجربة الحركة الإسلامية، الشيوعيون بعد أن تجاوزوا الصدمة الأولى ـ إعدام القيادات ـ بدأوا ينخرطون في نقدهم للماركسية، وكذلك عندما انهارت الماركسية أعملوا سلاح النقد، لكن الإسلاميين حتى الآن باستثناء مقالات التجاني عبد القادر والردود حولها لم تصدر دراسة يشترك فيها عدد من الناس كل يعبر عن رأيه. لجنة رأب الصدع نفسها حاولت أن تعمل تقييما للتجربة ولكنه كان تقييم لجنة لكي تقدم ورقة لمؤتمر، أما الكتاب الذي أصدره عبد الرحيم عمر محي الدين فهو من نوع الكتب التي تعنى بالحقائق أكثر من تحليلها، وفي هذا الجانب الكتاب فيه رصد للكثير من الحقائق والمقابلات وهو يعين على التحليل وفهم المواقف، وأنا كنت أدعو إلى أن تصدر آراء من مختلف أطراف الصراع داخل الحركة الإسلامية، ولكن كما تعلم الصراع ما يزال ماثلاً وهذه واحدة من المشاكل أن المؤتمر الوطني والشعبي لم يتخلصا جيداً من أجواء 1998 ـ 1999م. ? اذاً كيف تُقيّم حرب المقالات الناقدة التي ابتدرها التجاني عبد القادر وردود ومقالات الشيخ السنوسي وأمين حسن عمر، والمحبوب وغازي صلاح الدين؟ ـ هذا أمر جيد، خاصة وأنها قد صدرت في كتاب، طبعا كثير من الناس سيغضب على التجاني عبد القادر وما كتب، وقد لا يتفقون معه وأنا شخصيا لا أتفق معه وأرى في كتابه الكثير من التناقضات لكن على أية حال هو كتب ولكن كتابه كذلك يحتاج إلى قراءة وفي الكتاب نفسه مقالات لامين حسن عمر وللسنوسي، وهذا جيد وكان ينبغي كذلك لأمين والسنوسي أن يواصلا في النقاش مع التجاني ولكن لا يزال هنالك انفعال من جانب أمين والسنوسي في ردهما على التجاني لم يكن رداً موضوعياً هادئاً، ولكنه جيد في بعض جوانبه. ومن ناحية التجاني عبد القادر هنالك مرارة تقرأ في السطور وأنا أقول هذا الكلام لأنه مهم لاننا قضينا فترة طويلة في الحركة، وان نبدو في العمر أصغر بكثير من جيل الترابي أو علي الحاج أو السنوسي ولكن قضينا سنوات طويلة جدا في الحركة الاسلامية، وجاءت اجيال من بعدنا ينبغي ان تفهم ما دار بصورة موضوعية لنؤسس تجربة راشدة ومعافاة.
إضاءة مهمة جداً
: مقالات المحبوب عبد السلام «العبرة والاعتبار في الحزب الذي كان»، نشرت بصحيفة الانقاذ الوطني في التسعينات، ولكن الزميل وجدي الكردي اعاد نشرها في صحيفة الاضواء عام 2004م.
*عندما سألك الزميل عبد الواحد ابراهيم عن ان كثيرا من الحركات العقائدية تحمل فشلها عند استلام السلطة إلى قصور في التطبيق ودلل لك بما يقوله بعض الاسلاميين السودانيين ولكنك هربت مباشرة إلى استدعاء التجربة الماركسية وقلت ان ذلك يصلح في الفكر الماركسي؟
- لا أذكر حقيقةً اجابتي عن هذا السؤال بالضبط ولكن اقول ان القصور لم يكن في التطبيق فقط ولكن في الاساس كان في التنظير، فمثلاً في مجال الاقتصاد الاسلامي نحن أسسنا بنوكا اسلامية كبنوك لأن البنك ينجح بنجاح استثماراته وارباحه والودائع التي فيه. نجحنا على هذا المستوى ولكن فلسفة الاقتصاد الاسلامي التي تؤسس لبنك يرعى العلاقات بين الناس وان يحفظ التكافل الاجتماعي وان يرعى الفقراء ويطور مفهوم الزكاة نفسه، هذه المسائل لم تجد نصيباً من التنظير، وكذلك الحكم الاتحادي وجذور المجتمع السوداني ومكوناته لم تُدرس جيداً لذلك نحن تورطنا في مشكلة دارفور مبكراً ، وكما قال الترابي عندما تمرد بولاد كان ينبغي أن نقرأ ان ذلك التمرد مثل بوادر الأزمة ولكننا لم نقرأ ذلك جيداً فعلى مستوى التنظير كان عندنا نقص وعلى مستوى التطبيق كان عندنا اخطاء ، وانا قلت ان ذلك يصلح للماركسية لأنها فكرة جاءت مكتملة لواقع أوروبي بتفاصيله، ولكن الاسلام كتاب وحي صالح لكل زمان ومكان وهنالك تجربة عملية وهي السُنة فالسُنة هي التطبيق العملي في تقديم النموذج في التجربة الاسلامية ولذلك العبارة فعلاً هي أصلح للماركسية لأن الماركسية حاولت ان تقرأ الواقع وتنظر للواقع القائم أمامها، لكن بالنسبة للاسلام فهذا مجهود أمة تشترك فيه كل الأمة.
باعتباره مشروعاً ربانياً؟
- لا، أصوله هي الربانية لذلك في الاسلام اذا اصاب المجتهد فله اجران وان اخطأ له أجر واحد، وهذا يعني ضرورة ان تجتهد اولاً لتنال أجرين ولكن احتمال الخطأ دائماً موجود، وكما قلت لك في الاصول التي تحدث فيها الترابي، الترابي عبر عن ذلك جيداً عندما قال ان الاجتهاد في الاسلام هو تفاعل النص مع الواقع ومع عقل المجتهد والواقع كما تعلم نسبي وكذلك عقل المجتهد، ولكن النص ليس نسبياً وهذا بالتالي تفاعل دقيق ومركب مما يصعب ان تقول ان النظرية كانت مكتملة وعندما جئنا الى الواقع نقصت النظرية، ولكن النظرية الماركسية مكتملة حتى في نظر ماركس لأنها اجابت عن الاسئلة الاساسية في تاريخ البشرية وقرأت المستقبل على ضوء ما حدث في التاريخ واعتبرت ما سيحدث في المستقبل حتميا.
*قُلتم انكم طرحتم في الحركة الاسلامية في 1987م ميثاق السودان وقلتم ان الوطن يؤسس على المواطنة - وهذا طرح علماني - وليس على الشريعة، ولكن سرعان ما انقلبتم على ذلك في 1989م وبدأتم مشروعكم الحضاري المتواصل مع السماء ورغم اعتراضك على هذه العبارة (المتواصل مع السماء) إلا انني اصر عليها، يا أخي يوسف عبد الفتاح كان في بداية الانقاذ يظن نفسه عمر بن الخطاب عندما قال «من اراد ان تثكله أمه و...»
- مقاطعاً: انت قلتها: «يظن نفسه»!  
وهذا ايضاً ما تظنونه في مشروعكم الحضاري؟ *
- يعني كانت هنالك بعض التعبيرات ايامنا في الجامعة كانت تشير الى هذا المعنى في الاتجاه الاسلامي والمعنى هو اننا نصدر عن نص إلهي ولكن ليس بالضرورة اننا في كل مواقفنا نطابق النص الإلهي لأننا حتى في فهمنا للنص الإلهي قد نُخطئ وقد لا نفهم النص في ضوء النصوص الاخرى وقد لا نفهم كل النصوص وقد لا نجتهد جيداً في فهم واقعنا لأن واقعنا الاقتصادي المعاصر معقد جداً، قد لا تجد شخصا أو اثنين في الحركة الاسلامية يفهمون جيداً معنى الاقتصاد البحت وهذا مهم جداً لحزب يدعى ان له رسالة وله فلسفة.
*هل كانت الوثيقة «ميثاق السودان» تُعبر عما تطلقون عليه «التدافع في الواقع» خاصة وانك ضربت مثلاً بالاحزاب الاسلامية في تركيا وتونس والاحزاب التي اضطرت الى تغيير عقيدتها بعقيدة علمانية حتى تشق طريقها في السياسة فهل هذا من ذاك، وهل هذا ينطبق على ما ذهبتم إليه بعد المفاصلة من انكم لا تُريدون تطبيق الشريعة قسراً انما الشعب هو مصدر التشريع؟
- حزبنا كان في محادة شديدة جداً مع الحركة الشعبية ومع التجمع الوطني الذي كان يوالي الحركة الشعبية الى حد ما، فميثاق السودان جاء بعد ثلاث سنوات من تجربة التعددية في فترة الحكم الانتقالي، لذلك قيادة الحزب كانت ترى في ذلك الوقت ضرورة ان تطرح طرحاً يلائم حزبا يتقدم نحو استلام السلطة، هذا الحزب سيحكم كل السودان وسيفاوض الحركة الشعبية ويحتاج في ذلك ليس الى تبرير أو خطوة انتهازية بل الى اجتهاد اصولي، واعتقد ان ميثاق السودان وقفة جيدة اعاد فيها د. الترابي الحركة الاسلامية الى اصول افكاره التي شوهتها قليلاً تجربة الصراع الحزبي ، واصبحنا كأننا مُعادين للجنوب في ان ينال نصيبه من السلطة والثروة وبهذا المعنى كان هذا الميثاق مهم جداً، وكان السؤال المطروح من مفكرين اسلاميين حتى من خارج السودان مثل محمد فتحي عثمان قال انتم موجودون في وطن مركب فيه اديان وثقافات وعناصر مختلفة وينبغي عليكم في السودان ان تقدموا تنظيرا حول وطن مركب ومعقد وكان ميثاق السودان يستند على التجربة الاولى السابقة لنزول القرآن في المدينة حيث حدد الرسول«صلى الله عليه وسلم» ميثاقا لمكونات المدينة القبلية والدينية، واليهود بتفصيلاتهم ومعاقلهم «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» ، ومن الوضح انه من الممكن تأسيس دولة فيها غالبية مسلمة على فكرة المواطنة حيث يجد كل شخص حقه، وكلمة علمانية ينبغي ان تفهم جيداً فهي ليست كلمة واحدة ولها تعاريف مختلفة وتجارب مختلفة خاصة اذا اننا ننظر إليها في اطار الفكر الفرنسي.
*علمانيات؟
- نعم، هنالك علمانيات، وفي اطار الفكر الفرنسي يمكن ان ترى علمانية كاملة وكانت هذه هي المشاكل التي تواجه السودان في ظل حركة تحمل السلاح في الجنوب وتقاتل وفي ظل كذلك حركات اقليمية تستشعر التهميش وان لم تكن تستشعر المجانية الثقافية والدينية بينها وبين الشمال فميثاق السودان هو تجربة ممتازة وليدة تلك الايام وهو وجد تمثلاته في الرسوم الدستور الرابع ثم المرسوم الدستوري الحادي عشر والثاني عشر التي تحدثت عن تقسيم السودان الى 26 ولاية ثم جاءت اتفاقية الخرطوم للسلام مع رياك مشار ولام اكول، وكاربينو كوانين. وميثاق السودان لم يجد تمثلاته في تجربة الجهاد التي اشرت إليه كتجربة إليها وانها توصل الارض مباشرة بالسماء، وكذلك لا تجد تمثلاتها في الشعور الذي عبرت عنه من ان بعض الناس يظنون انفسهم عمر بن الخطاب واستعملوا لغة الاسلام الاول «من أراد ان تثكله أمه» كما كان يقول يوسف عبد الفتاح في تلك الأيام، هذه الروح التي اعترت الانقاذ الاولى كانت متعلقة بمناخ التعبئة والمواجهة مع الآخرين، عندما جاءت الانقاذ كان الناس شرسين جداً في مواجهتها ومقاومتها عبر الاضرابات والحركات العسكرية السريعة وبالطبع كان لهؤلاء المقاومين قراءة سليمة انهم اذا تركوا هذا المشروع للأيام سيقوى بالمقابل اصحاب المشروع هبّوا لحمايته لأن نهاية المشروع تعني نهايتهم لذلك نشأت اجواء التعبئة وهي نشأت كذلك مع حرب الجنوب واجواء التعبئة هذه تمنع النظر الموضوعي خاصة في ما يتعلق بالعلاقة مع الآخر، واتمنى ان لا نعود لأجواء التعبئة بهذا المعنى التي تلغي الآخر واتمنى ان محكمة اوكامبو هذه لا تخرجنا عن موضوعيتنا في تأملها، اتمنى مهما احتدمت الظروف ان لا نعود لاجواء التعبئة التي تلغي الآخر، انا قرأت تصريحا ـ اتمنى الا يكون صحيحا ـ لاحد المسؤولين في المؤتمر الوطني يقول: «اوكامبو واذياله في الداخل» وهذه عبارة خطيرة جدا في مثل هذه الظروف التي نحتاج فيها الى كل من في الداخل وهم ليسوا اذيالا طبعا وانما حركات وطنية.
*عقدت مقارنة بائسة بين المفكر الاسلامي انطونيو غرامشي وسيد قطب في «الانتلجينسيا الاسلامية المتوالية يوم الزحف» عندما قلت ان غرامشي جسد مبادئ سيد قطب وهي بائسة لان المفكر الماركسي عمل على حرية وتحرير الفكر بما في ذلك الفكر الماركسي وكان على النقيض من النموذج السوفيتي وعمل على محاربة الطغاة، بينما اسس سيد قطب للطغيان والعنف حتى افرز فكره وكتاباته معظم الجماعات التكفيرية؟
ـ هذا كلام صحيح وخطأ، صحيح لانك عندما تقرأ «في ظلال القرآن» وانا هنا اختلف مع كثيرين في الحركة الاسلامية لانني اسمع عبارات واضحة من سيد قطب وهم يطالبونني بتأويلها فأرد عليهم بأنني لا أأول الا القرآن ولكن سيد قطب يقول كلاما واضحا فهو يقول مثلا «اذا دعوت الى الشريعة في مجتمع جاهلي فانت تستنبت البذور في الهواء» وهذه المجتمعات التي امامنا اليوم هي مجتمعات جاهلية والوظيفة التي امام الحركة الاسلامية هي دعوتها الى الاسلام، وهذا واضح جدا في «في ظلال القرآن» النسخة المنتشرة الآن وليست الاولى التي اعاد سيد قطب تحريرها في السجن وفعلا سيد قطب قال هذا الكلام واذا اردت ان تؤسس لفكر تكفيري من «في ظلال القرآن» فهذا ممكن، ممكن جدا ان تجد نصوصه واضحة جدا لسيد قطب تؤسس لذلك، لكن المقارنة التي عقدتها مع غرامشي هي فقط في موقفه من الافكار وسيد قطب قبل ان يكتب الظلال، كتب رسالة جيدة جدا هي عبارة عن خطاب لاخته سماه «افراح الروح» قال فيه «افكارنا تظل ميتة حتى اذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة، تظل عرائس من شموع حتى اذا ضحينا في سبيلها اصبحت حية ونابضة.. الخ»، غرامشي يرى نفس هذا الموضوع، طبعا في عهد غرامشي كان هنالك عدد كبير جدا من المفكرين الذين يجلسون في المكتبات وبعيدين عن الناس كانوا اقرب الى الآلهة ينزلون الوحي للناس وهم بعيدون عن مواقعهم فغرامشي كان ضد هذا الموقف، هذا هو الربط الذي ربطته بين سيد قطب وغرامشي، سيد قطب يحتاج الى شخص مثل غرامشي يأخذ الافكار الايجابية فيه ويغذي بها الحركات الاسلامية، مثلا نحن منذ المرحلة الثانوية كنا نفهم ان «معالم في الطريق» كتاب خطر جدا لو فهمه الانسان على وجه الدقة، ولكنه كتاب مفيد جدا لو اردت ان تعبئ شخصا وجدت فيه علامات التراخي والوهن تجاه المشروع الاسلامي كان كتابا تعبويا جدا لان سيد قطب تحدث عن اسلام لا يعرف الا نوعين من المجتمعات، مجتمعا جاهليا ومجتمعا اسلاميا.

*قلت ان قضية الحرية ظلت مطروحة وانها طرحت في الاجتهاد المعاصر وان د. الترابي في مسألة الردة حاول ان يؤسس لفكرة «لا اكراه في الدين». ولكن الترابي نفسه كان وراء اعدام المفكر الشهيد محمود محمد طه بتهمة الردة وبشهادة عديد من الاسلاميين امثال الشهيد محمد طه محمد احمد ود. حسن مكي الذي رأى ان الحكم في قضية محمود كان سياسيا وان الترابي كان «يغير» من محمود وكان «لا بد من قتله»؟
ـ والله ليس صحيحا، اطلاقا ليس صحيحا، لو قرأت كتاب «الفجر الكاذب» لمنصور خالد قال انه والنميري سألا الترابي عن موضوع محمود محمد طه فقال الترابي ان محمود محمد طه شخص غريب الاطوار، واذكر تماما اننا كنا منفعلين جدا بالفكر الجمهوري وكنا ندخل في مجادلة يومية مع الفكر الجمهوري تبدأ من التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا وقوفا على ارجلنا في ساحة الجامعة وكان هذا الامر ـ حسب عمرنا وتجربتنا ـ يهمنا جدا وكنا كلما ذهبنا الى الترابي وحدثناه عن الجمهوريين وكذا يقول لنا اذا قرأتم ملل ونحل الاسلام ستجدون دائما شخصا مثل محمود محمد طه. لكن كنا كثير جدا انا شخصيا كنت كثير جدا ما اجادل الشيخ الترابي حول خطر الفكر الجمهوري وكان يصر ان الفكر الجمهوري ليس خطرا وكان يقول لي ان الفكر الجمهوري مثل الحشرة التي تتواجد دائما لكنها تعيش ثلاثة ايام لتموت، واذا ذهب محمود محمد طه سيظهر مفكر آخر يحمل آراء غريبة في الاسلام. والغريب طبعا ان موضوع المرتد ردة فكرية بحتة جاءت في اجابة عن سؤال تقدمت به الاستاذة اسماء محمود محمد طه وقالت للترابي ان القرن العشرين هو الذي ضغطك وجعلك تخرج على الشريعة باسم تحكيم الشريعة، وقال لها الترابي ان المرتد ردة فكرية بحتة لا يقتل وفي اليوم التالي اصدر الجمهوريون كتابا قالوا فيه ان الترابي يخرج على الشريعة باسم تحكيم الشريعة واعتبروا هذا خروجا على الشريعة، بالمقابل كان المرحوم محمد طه محمد أحمد كذلك كان مجادلا عنيدا في حلقات الفكر الجمهوري ومحمد طه كان يتبنى الرأي الذي يقول اذا اعدم محمود محمد طه لن يحدث اي شيء، لن يفيض النيل ولن تتزلزل الخرطوم ، وكان هذا نقاشه مع الاخ دالي في تلك الايام، لكن الترابي كان بعيدا جدا عن الحوار، واذكر اننا كنا في جريدة الوان عندما اعدم محمود محمد طه، والوان كانت تصدر في ظل الحكم المايوي ، وسألنا الاخ مهدي ابراهيم عن اعدام محمود محمد طه وكانت اجراءات المحكمة على وشك ان تذهب في هذا الاتجاه، ومهدي ابراهيم تحدث الينا داخل مباني الجريدة في رسالة تنظيمية واضحة ان الحركة ليست مع هذا الحكم وعلى الناس ان تتعامل معه كحكم قضائي فقط. وسألناه عن كيف نعلق علي ذلك؟ فقال: ليس بالضرورة التعليق على اي حكم تصدره المحاكم بمعنى ان علينا ان نلتزم الصمت حيال ذلك لان الاجواء كانت محتدمة لان النميري كان يريد ان يعدم محمود محمد طه ونحن كنا بعضا من حكم النميري، موجودين في اطار المصالحة الوطنية وبالمقابل كانت جمعيات حقوق الانسان الغربية وليدة في ذلك الوقت وتتحدث عن هذه الجريمة.. والخ. ونحن لم نتحدث ويمكنك ان تقول اننا صمتنا، اما ان يكون الترابي وراء اعدام محمود محمد طه فهذا خطأ لان رأي الترابي ان لا يعدم اي شخص يعبر عن افكاره، وهذا لم يكن رأي النميري وكذلك لم يكن رأي القضاة الذين ينتمي بعضهم للحركة الاسلامية، وبعضهم لا ينتمي الى الحركة الاسلامية، القاضي الذي حكم وهو المكاشف طه الكباشي لم يكن من الحركة الاسلامية ولكن كان هنالك حاج نور وكان عضوا في الحركة الاسلامية وكان يؤمن ويعتقد بغير اجتهاد الترابي، فحاج نور كان يرى ان محمود مرتد وينبغي ان يقتل هذا لم يكن رأي د.الترابي ، وتركت القضية في اطار القضاء، ولكن يمكن ان تحاسبنا وتلومنا على اننا لم نعبر عن رأينا في ذلك الوقت بالرفض، ولكن قطعاً فان الرأي الرسمي للحركة الاسلامية الذي تم تبليغه لنا عبر الاخ مهدي ابراهيم ان الحركة الاسلامية لا تؤيد هذا الاعدام ولا تدافع عنه ولا تقف معه، ولكن لم نعبر عن ذلك في جريدة ألوان.
*ذكرت ان محمود محمد طه كان له نظرية أخرى بخلاف الترابي في استنباط الاحكام ويؤسس على جانب يسمى بالادعاء الكبير، ادعاء نبوة جديدة وعندما سألك عبد الواحد ابراهيم هل هذا رأي سياسي اجبت بانه فكري وان محمود محمد طه خارج اطار الفكر الاسلامي السني ويدخل في اطار الفكري الاسلامي الفلسفي، وان تجديد محمود قائم في مجال اخر غير الذي طرحه الترابي. انت لم تضيء هذه النقطة جيدا ، كذلك ذكرت في احدى الندوات ان الجمهوريين يلجأون الى استنطاق النص القرآني وتحدثت عن تفريقهم بين القرآن المكي والمدني؟
- الفكر الجمهوري لم يقرأ جيداً، ولو تمت قراءته جيداً لفهم، محمود محمد طه عنده جانب يعجب كثيرا من الناس خاصة الصحافيين وهذا بجانب ان محمود محمد طه يعتقد ان هنالك مشكلات جاءت من تطور الانسان وتطور الحضارة البشرية حتى بلغت افق القرن العشرين ، وايضا اجتهاده في مجال المرأة ومجال الحدود يعني يمكن جدا ان تناقشه فتقبله او ترفضه، ولكن محمود يؤسس لهذه الاجتهادات على اصول فلسفية، اهم اصل هو ان الشخص الذي يقدم هذه الاجتهادات ليس شخصاً عادياً، في هذا الجانب يعود محمود محمد طه من ثقافته الماركسية وثقافته في الفكر الفرويدي ـ (فرويد) ـ وثقافته في الفكر الاقتصادي الرأسمالي يعود ليصبح شخصا يتبنى بالكامل الفكر الغنوصي الصوفي الذي تحدث عنه ابن عربي وابن سينا ـ نظرية الانسان الكامل ـ وانا كتبت الى الطيب صالح، وكان يقول لي ان محمود محمد طه بامكانه ان يركز على الاجتهاد الفكري ولا يذهب الى مسألة ترك الصلاة. وقلت له ان محمود محمد طه لا يدعو الى ترك الصلاة ولكن له رأي في الصلاة ذات الحركات، فقال لي هذا هو الموضوع. وفعلا هذا هو الموضوع، فمحمود محمد طه يعتقد انه شخص اعطاه الله الفهم عن القرآن وأذن له في الكلام، وانه شخص ينبغي ان يلقب بارفع ألقاب العصر وهو لقب الاستاذ وهو شخص استثنائي بهذا المعنى، واذا كان هنالك شخص أُعطي نص وشخص اخر أُعطي فهم النص في اطار بيئة متقدمة بما لا يقاس عن البيئة التي جاء فيها النص الاول فهو متقدم على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي جاء بالقرآن، هذا بالنسبة لي كان واضحا جدا في اطار الفكر الجمهوري. المسألة الثانية هي بموجب هذه السلطة الروحية التي منعته من الصلاة ذات الحركات واعطته صفات الانسان الكامل الموجودة في الفكر الفلسفي الغى محمود النص الديني، نص القرآن المدني الغاه من المصحف بمعنى انه لا يهتدي به بل بالقرآن المكي، وكما قال الترابي لم تكن مكة عقيدة بغير شريعة لم تكن توحيدا فقط ، ولكن اذا قرأت سورة صغيرة «المغيرات صبحا» وهذه نزلت في اول مكة، وواضح انها تتحدث عن جهاد مقبل، الزكاة موجودة في سور المدينة، الشورى نفسها جاءت في سورة الشورى وهي مكية كل القيم والمعاني التي تجسدت في شعائر ومكتوبات وفروض في المدينة كانت موجودة في مكة، لم تكن مكة عقيدة بغير شريعة كما كان يريد الفكر الجمهوري ان يقول فهذا من ناحية اصولية، واذكر جيدا ان الجمهوريين في اركان نقاش الجامعة لم يكونوا يحبون ان نناقش الفلسفة واصول الفكر بل كانوا يحبون ان نناقش المواقف السياسية، وطبعا كان لهم باع طويل جدا في نقد المواقف السياسية للحركة الاسلامية في تحالفها مع النميري.. والخ. وصلاح احمد ابراهيم كان يسمي محمود محمد طه وجماعته بالمايويين من منازلهم، ويعتقد ان محمود محمد طه يؤيد مايو وهو لا ينال منها شيئا، ومحمود ايد مايو حتى في ضرب الانصار في الجزيرة ابا وكان موقفا غريبا جدا من مفكر يحترم حقوق الانسان فهذه هي الاضاءة المهمة وهي اذا اردنا ان نؤسس حركة اسلامية معاصرة سنقرأ القرآن كما جاء كاملاً، سنهتدي بالسنة والسيرة، ونقرأ واقعنا في القرن العشرين بكل تفاصيله وحيثياته ونحاول ان نصل لاجتهاد سيكون هنالك قدر من الصواب وقدر من الخطأ ويجيء بعدنا من يصوب ما اخطأنا فيه في اطار تجربة بشرية عادية ليس فيها شخص أتاه الله الفهم عن القرآن واذن له في الكلام.    
///////

 

آراء