المدنية أساس الحكم، لماذا؟
يعتقد البعض أنَّ الدعوة إلى مدنيَّة نظام الحكم في السودان فيها مناصرة لقوى إعلان الحرية والتغيير؛ ولذلك يجب مناهضة هذه الدعوة بالوقوف إلى جانب المجلس العسكري، تعللاً بأن قوى الحرية والتغيير صورة ظاهرية للحزب الشيوعي السوداني، وأنَّ العسكريين قد انحازوا إلى جانب الثورة، فيجب أن يكون لهم نصيب في تنفيذ شعارها الثلاثي القائم على الحرية والسلام والعدالة. دون الإقرار بأن قوى إعلان الحرية والتغيير تحالف عريض يجمع بين دفتيه شرائح اليسار واليمين، ونفر يساندون الثورة، كما أن المجلس العسكري هو امتداد إلى اللجنة الأمنية التي كانت تقف موقفاً أمنياً متعنتاً ضد الثورة والثائرين، ولكن عندما طفح بها كيل الثورة آثرت التضحية بالرئيس المخلوع عمر البشير وبعض رموز النظام المباد؛ أثرةً بذلك الحفاظ على مؤسسات النظام القديم بفساده ومفسديه. واستناداً إلى ذلك، نرى أن مساندة المجلس العسكري في هذه المرحلة الحرجة من عمر الثورة السودانية مساندة قصيرة النظر، لا تراعي أهمية المسوغات التي تستند إليها فكرة مدنية الدولة، بغض النظر عن السؤال الإشكالي: مَنْ يكون في سدة الحكم؟ لأن تقديم هذا السؤال المشخصن على السؤال الموضوعي، كيف يُحكم السودان؟ فيه تقديم للأدنى على الأعلى، ووضع للعربة أمام الحصان!
أولاً: يجب أن نأخذ في الاعتبار أنَّ العسكريين قد حكموا السودان نحو ثلاثة وخمسين عاماً بانقلابات عسكرية ضد حكومات ديمقراطية منتخبة، اختارها أهل السودان، بغض النظر عن رأينا في طبيعة أدائها الوظيفي، ولم يقدموا تطور تنموياً يذكر سوى الحرب والدمار والرشوة والمحسوبية. وأصدق شاهد على ذلك واقع الحال الاقتصادي في السودان الآن، وواقع الحال المرتبط بتدمير المؤسسات العسكرية والمنظومات الأمنية نفسها، وإنشاء مؤسسات بديلة تنقصها المهنية والالتزام القومي، مثل قوات الدعم السريع التي تصول وتجول في شوارع الخرطوم، وفي ساحات القتال في اليمن.
ثانياً: إنَّ كل أفعال المجلس العسكري لا تصب في خدمة شعارات الثورة، بل تعمل في إطار الثورة المضادة، ونذكر منها على سبيل مصادرة الحريات العامة، ومظاهر العنف التي تشهدها شوارع الخرطوم، والاعتماد على كوادر المؤتمر الوطني التي ثار ضدها أهل السودان في المشورة والتخطيط والإعلام والتنفيذ لإجهاض الثورة. كما يستخدم أعضاء المجلس العسكري في معظم الأحيان مقولات مبتذلة وضعيفة المنطق، لا تنطلي على أي صاحب عقل ألقي السمع وهو شهيد، مثل قولهم: "نحن مع ثورة ديسمبر المجيدة- الفريق ياسر العطا"؛ "نحن ضد المؤتمر الوطني- الفريق عبد الفتاح البرهان؛ "نحن مع دولة القانون- فريق دعم سريع حميدتي."؛ "نحن ضد فض الاعتصام- الفريق شمس الدين كباشي". لطفاً يا أيها الجنرالات! فاقد الشيء لا يعطيه، فلا داعي لبيع الماء في حارة السقايين؛ فأهل السودان أكثر فطنةً. فالدولة يجب أن تكون مدنية، والمؤسسة العسكرية يجب أن تلتزم بدورها الدستوري في حماية حدود البلاد وأمنها القومي.
ثالثاً: يحتم المنطق الأخلاقي على المثقفين الشرفاء الوقوف ضد أي حكم عسكري، والدعوة لقيام حكومة مدنية. فهذا موقف مبدئي لا يحتمل التسويف؛ لأنه يرتبط في المقام الأول بالسؤال الجوهري: كيف يُحكم السودان؟ أما قضية مَنْ يحكم السودان فيجب أن تأتي بعد أن نتواضع على تحديد الإطار المرجعي؛ لأنها قضية قابلة للأخذ والرد، ويمكن التفاوض فيها بين كل قطاعات الشعب السوداني التي ساندت الثورة، وتؤمن بتنفيذ شعاراتها على أرض الواقع. والمدنية لا تعني أن يتولى زمام الحكم قوى إعلان الحرية والتغيير دون غيرهم، بل أن تشترك في الحكم الانتقالي كل فصائل المجتمع السوداني التي ساهمت في انجاح الثورة في مرحلتها الأولى، وتؤمن بأوليات التغيير وشعارات الثائرين (الحرية والسلام والعدالة).
رابعاً: تطالب كل الدول الديمقراطية التي لها علاقات استراتيجية مع السودان، وكذلك الاتحاد الأوروبي، ومجموعة الترويكا، ومجلس السلم والأمن الإفريقي بانتقال السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية في السودان. يتبلور هدفها الرئيس في تحقيق العدالة الانتقالية، وتهيئة المناخ السياسي العام لإجراء انتخابات ديمقراطية، تنبثق عنها حكومة منتخبة من كافة أهل السودان، تسعى لتحقيق السلام، وإرساء دعائم الحرية والديمقراطية والعدالة في السودان. ثم تفتح صفحة جديدة مع المؤسسات والدول المانحة لإعفاء ديون السودان، والبحث عن مصادر تمويل جديدة لمشروعات التنمية، ودرء آثار الحروب الأهلية. إذاً للمدنية مسوغاتها، واستحقاقاتها وآفاقهاً، فيجب ألا تُحشر من غير بصيرة وتنبؤ بمالات المستقبل في خانة الصراعات الثنائيات الآنية الضيقة؛ التي يروج لها دعاة الثورة المضادة.
ahmedabushouk62@hotmail.com