المصالحة” بين ما أعني وتخرُّصات المرجفين (3/7)
د. النور حمد
6 August, 2021
6 August, 2021
(3 – 7)
الفكر لا يُحارب أمنيا
ربما استنكر البعض استخدامي لكلمة "فكر" هنا. وغالبا ما ينبع السؤال: وهل لـ "الإسلاميين" فكر؟ لكني أقترح على هؤلاء أن نقبل إطلاق كلمة "فكر"، على أي تصور تتأسست عليه أفعالٌ سياسية، غض النظر عما نراه، من جانبنا، من ضلال، أو صواب، في ذلك الفكر. فـ "الأخ المسلم" و"الوهابي" و"الإرهابي الإسلاموي"، يرتكزون، جميعهم، على فكرة ما. وهناك رصيدٌ تراثيٌّ وافر من النصوص الدينية التي تدعم الفكر الإرهابي. ولن تنجح البلدان الموبوءة بهذه الأنماط من المسلك الديني/سياسي، في استئصال الفكر الإرهابي بالقبضة الأمنية، وحدها. لكن، حين يبدأ العنف، يصبح لا مناص من إحكام القبضة الأمنية. غير أن القبضة الأمنية لن تنجح، وحدها، في التخلص من ظاهرة العنف، ذات المنشأ الديني. بل إن الاعتماد على القبضة الأمنية، وحدها، في مثل هذه الحالة، يطيل من عمر العنف ويقوده إلى صور جديدة، أكثر عنفا.
يضاف إلى ما تقدم، أن كثيرا من الأنظمة في المنطقة العربية والإسلامية، التي تتخذ الإجراءات الأمنية سبيلا وحيدا، للتخلص من الفكر الديني الاستبدادي العنفي، هي نفسها أنظمة استبدادية عنفية. ولقد عبر كثيرون عن ارتياحهم لإعلان بعض الدول العربية "الإخوان المسلمين"، جماعة إرهابية. لكن، علينا ألا ننسى أن هذه الحكومات، نفسها، سبق أن رعت الإخوان المسلمين، حين رأت، في مرحلة ما، أن رعايتها لهم، تخدم أهدافها. وعلى سبيل المثال، آوت العربية السعودية الإخوان المسلمين، بعد أن بطش بهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكان إعلام عبد الناصر، وقتها، منخرطا في مهاجمة العروش الخليجية، ساعيا إلى تقويضها. يضاف إلى ذلك، أن عبد الناصر خاض حربا في اليمن ضد الإمامة، هددت الأمن السعودي.
في عام 1979 من القرن الماضي، جيشت المملكة العربية السعودية الجماعات الإرهابية وأرسلتها، في تعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان. لكن، ما لبثت هذه الجماعات الإرهابية أن انقلبت على النظام السعودي، وقامت بالأعمال الإرهابية داخل أراضي المملكة العربية السعودية. وبعد عقود من الصراع انقلبت المملكة العربية السعودية على العقيدة الدينية الوهابية، نفسها، وهي العقيدة التي تأسس عليها الملك السعودي. اتجهت السعودية لفك قبضة رجال الدين على المجال العام، وسعت إلى تغيير المناهج الدراسية، وإنهاء قمع النساء، والتمييز ضدهن، وشرعت في الانفتاح الثقافي على العالم. بل بلغ الأمر في الأيام الأخيرة حد المناداة بمراجعة الأحاديث النبوية، وإبعاد كل الأحاديث التي تحض على العنف، ووصمها بأنها مدسوسة. وكل هذا تخبط، تقف وراءه المصالح الآنية، التي تتقلب أوضاعها، كل حين وآخر. فالذي يجري هذا ليس سوى إجراءات، لا يقف وراءها فكر ديني إصلاحي متسق. لكن، ما من شك، أن فيما تقوم به السعودية، جانب مشرق. وهو الإقرار بأن هناك مشكلة، وأن سبب تلك المشكلة هو التصورات الدينية السلفية، المناقضة للحياة وللحرية وللتقدم.
مصر من جمال إلى السيسي
يعود الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، إلى ما عُرفت بـ "حادثة المنشية"، التي حاولت فيها الجماعة اغتياله، وهو يخطب في ميدان المنشية، في مدينة الاسكندرية، في عام 1954. الغريب، أن جمال عبد الناصر، الذي قام بحل الأحزاب السياسية عقب الثورة، استثنى من ذلك الحل جماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك، حاولت الجماعة في عام 1954 اغتياله. وقف إلى جانب جمال بعض المفكرين والكتاب، فأصدروا كتابا أسموه: "هؤلاء هم الإخوان". وكان على رأس هؤلاء الدكتور طه حسين. وقد حمل غلاف الكتاب إلى جانب طه حسين، أسماء كلٍّ من: محمد التابعي، على أمين، كامل الشناوي، جلال الدين الحمامصي، وناصر الدين النشاشيبي. وكعادة أكثرية المفكرين والأدباء العرب، آنذاك، فقد أشادوا بثورة جمال عبد الناصر، ولم يلقوا بالا إلى كونها قد قوضت نظاما ملكيا دستوريا، مارست فيه الأحزاب السياسية المصرية نشاطا ديموقراطيا، كان من الممكن أن يقود، عبر الزمن، إلى تحول ديمقراطي كامل. وهكذا حين يرتبط فكر المفكرين والأدباء بالأنظمة العسكرية، ويقفون مع التغيير من فوق، يتضعضع حراك الوعي، ويواصل الجمهور العريض دورانه في الحلقة المفرغة القائمة أصلا.
مضت على حادثة المنشية، حتى الآن، قرابة السبعين عاما. لكن، لا تزال الحرب الأمنية بين تنظيم الإخوان المسلمين، والحكومات المصرية المتعاقبة، على أشدها، حتى هذه الساعة. وقد أوصل الرئيس عبد الفتاح السيسي قمع الإخوان المسلمين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تجاوزت أحكام الإعدام في قضية اعتصام رابعة العدوية، وحدها، المئات. أما الموقوفون في السجون فربما بلغ عددهم عشرات الآلاف، وربما مئات الألوف. يصفق كثيرون منا للديكتاتور، حين يخدم أغراضهم، وينسون أن الدكتاتور ليس صاحب مبدأ، وإنما صاحب مصلحة في بقاء نظام حكمه، لا أكثر.
مارس عبد الناصر الذرائعية حين استثنى الإخوان من حل الأحزاب والجماعات المختلفة، في بداية حكمه. وهو ما فعله السادات حين ضيَّق على اليسار، وأطلق للإخوان المسلمين فرص التغلغل وسط الجمهور المصري. وهو ما فعله نميري حين جر الإخوان المسلمين إلى بيعته إماما للمسلمين، في قرية أبو قرون. وهو ما فعلته السعودية حين جيشت الأفغان العرب لحرب السوفييت في أفغانستان. وهو ما بقيت تفعله عدد من الدول الخليجية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وهي تتدخَّل في العراق وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي الصومال، وفي كامل الحزام الصحراوي في إفريقيا، داعمة الجماعات الإرهابية. باختصار شديد، الإخوان المسلمون ذرائعيون من الطراز الأول، لا يمتنعون قط من أن يستغلهم أي ديكتاتور، رأوا أن استغلاله لهم يخدم مصلحتهم. فسبب معرفة جمال عبد الناصر بمضاء وفعالية الخطاب الديني، وما يمكن أن يقوم به في توطيد أركان الحكم، استثنى الإخوان المسلمين من إجراءات حل الأحزاب والجماعات. يضاف إلى ذلك، أن الإخوان قد كانوا ضد النظام الملكي الذي قوضه عبد الناصر. وقد كانت للإخوان المسلمين معه صولات. ففي عام 1948، اغتال الإخوان المسلمون في مصر، رئيس وزراء مصر،"النقراشى باشا"، عقب إقدامه على حلهم.
لكن، هل دام شهر العسل بين جمال والإخوان؟ كلا، فبعد عامين فقط من الثورة المصرية، حاولوا اغتياله، في حادثة المنشية. ثم، توترت العلاقة بينه وبينهم، إلى أن بلغ التوتر حد إعدام سيد قطب في عام 1966. مات جمال في عام 1970، وخلفه على كرسي الحكم، الرئيس الأسبق أنور السادات. قرَّب السادات الإخوان المسلمين، مرة أخرى، ليضرب بهم اليسار، الذي كان مسيطرا منذ حياة جمال عبد الناصر. لكن الإخوان المسلمين، ممثلين في بعض خلاياهم، ما لبثوا أن اغتالوا السادات، نفسه، في عام 1981. هذه المتسلسلة من التعاطي الذرائعي مع الأمور، من جانب الحكام المستبدين، ومن جانب الإخوان المسلمين، هو الذي جمد حركة الوعي، وعطل أفكار الإحياء الديني، وجعل الأمور كلها تدور في حلقة مفرغة.
العنجهية الدينية الإخوانية
بطبيعة الحال، لابد في مثل هذا السياق، من تصويب النقد نحو الفكر الإخواني والممارسات الإخوانية، التي أسهمت بنصيب الأسد في تعطيل حركة الوعي والتقدم في البلدان العربية والإسلامية. ولو تأملنا علاقة الإخوان المسلمين في مصر، مع مختلف الأنظمة منذ العهد الملكي، وحتى مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاتضح لنا مدى العنجهية الدينية، والرعونة، التي تمثل سمة رئيسة لدى أتباع هذا التنظيم. فقد قام التنظيم المصري بالعديد من محاولات الاغتيال، التي نجح في بعضها، كما في حالة النقراشي باشا، وأنور السادات، وفشل بعضها الآخر، كما في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر. كما قامت الجماعات المتطرفة التي خرجت من تحت عباءته، وتجد منه الدعم والمساندة والرضا، عما تفعل، بالعديد من محاولات الاغتيال التي نجح بعضها، وفشل بعضها الآخر. من المحاولات الناجحة مقتل الدكتور فرج فودة، التي قال عنها الشيخ محمد الغزالي حين جرى استدعاؤه ليلقي بشهادته حولها: إن من فعلوها افتأتوا على الدولة. وحين سألوه هل هناك حكم شرعي على من يفتئت على الدولة، فقال: لا يوجد. الخلاصة، أن الشيخ الغزالي يرى أن فرج فودة "كافر"، أو "مرتد"، قتله مبرر، بل وواجب. كل ما في الأمر أنه يرى أن الدولة هي التي كان ينبغي أن تقوم به.
الشاهد أن محاولات الاغتيال التي تسبب فيها الفكر الإخواني في مصر بالغة الكثرة، ومنها محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم عام 2013. كما تعرض اللواء حسن الألفي، وزير الداخلية الأسبق إلى محاولة اغتيال. كما تعرض الكاتب نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، في عام 1994. أما تفجير البصات السياحية وغير ذلك من الأعمال الإرهابية فبالغة الكثرة. تكمن علة الفكر الإخواني المركزية في ظنهم أنهم يمتلكون الحقيقية المطلقة، التي تخول لصاحبها ارتكاب كل فعلٍ قبيح ومشين، بما في ذلك الاغتيال غدرا وغيلة. فهم يبيحون لأنفسهم كل شيء من أجل أن يكونوا المتحكمين في فكر الناس وفي سلوكهم، وفي كل أمور حياتهم. لكن، مع ذلك، لن توقف الحلول الأمنية هذا النهج العنفي الإجرامي. فالمصالحة تعني لديَّ الاعتراف بأن لهذا الفكر وجود واسع في المجتمع، ولا مناص، أبدا، لجمهرة المثقفين من الانخراط الجدي، في قضية تجديد الخطاب الديني. وهذا ما قامت به أوروبا قبل قرون لكي تنهض. (يتواصل).
elnourh@gmail.com
الفكر لا يُحارب أمنيا
ربما استنكر البعض استخدامي لكلمة "فكر" هنا. وغالبا ما ينبع السؤال: وهل لـ "الإسلاميين" فكر؟ لكني أقترح على هؤلاء أن نقبل إطلاق كلمة "فكر"، على أي تصور تتأسست عليه أفعالٌ سياسية، غض النظر عما نراه، من جانبنا، من ضلال، أو صواب، في ذلك الفكر. فـ "الأخ المسلم" و"الوهابي" و"الإرهابي الإسلاموي"، يرتكزون، جميعهم، على فكرة ما. وهناك رصيدٌ تراثيٌّ وافر من النصوص الدينية التي تدعم الفكر الإرهابي. ولن تنجح البلدان الموبوءة بهذه الأنماط من المسلك الديني/سياسي، في استئصال الفكر الإرهابي بالقبضة الأمنية، وحدها. لكن، حين يبدأ العنف، يصبح لا مناص من إحكام القبضة الأمنية. غير أن القبضة الأمنية لن تنجح، وحدها، في التخلص من ظاهرة العنف، ذات المنشأ الديني. بل إن الاعتماد على القبضة الأمنية، وحدها، في مثل هذه الحالة، يطيل من عمر العنف ويقوده إلى صور جديدة، أكثر عنفا.
يضاف إلى ما تقدم، أن كثيرا من الأنظمة في المنطقة العربية والإسلامية، التي تتخذ الإجراءات الأمنية سبيلا وحيدا، للتخلص من الفكر الديني الاستبدادي العنفي، هي نفسها أنظمة استبدادية عنفية. ولقد عبر كثيرون عن ارتياحهم لإعلان بعض الدول العربية "الإخوان المسلمين"، جماعة إرهابية. لكن، علينا ألا ننسى أن هذه الحكومات، نفسها، سبق أن رعت الإخوان المسلمين، حين رأت، في مرحلة ما، أن رعايتها لهم، تخدم أهدافها. وعلى سبيل المثال، آوت العربية السعودية الإخوان المسلمين، بعد أن بطش بهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكان إعلام عبد الناصر، وقتها، منخرطا في مهاجمة العروش الخليجية، ساعيا إلى تقويضها. يضاف إلى ذلك، أن عبد الناصر خاض حربا في اليمن ضد الإمامة، هددت الأمن السعودي.
في عام 1979 من القرن الماضي، جيشت المملكة العربية السعودية الجماعات الإرهابية وأرسلتها، في تعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان. لكن، ما لبثت هذه الجماعات الإرهابية أن انقلبت على النظام السعودي، وقامت بالأعمال الإرهابية داخل أراضي المملكة العربية السعودية. وبعد عقود من الصراع انقلبت المملكة العربية السعودية على العقيدة الدينية الوهابية، نفسها، وهي العقيدة التي تأسس عليها الملك السعودي. اتجهت السعودية لفك قبضة رجال الدين على المجال العام، وسعت إلى تغيير المناهج الدراسية، وإنهاء قمع النساء، والتمييز ضدهن، وشرعت في الانفتاح الثقافي على العالم. بل بلغ الأمر في الأيام الأخيرة حد المناداة بمراجعة الأحاديث النبوية، وإبعاد كل الأحاديث التي تحض على العنف، ووصمها بأنها مدسوسة. وكل هذا تخبط، تقف وراءه المصالح الآنية، التي تتقلب أوضاعها، كل حين وآخر. فالذي يجري هذا ليس سوى إجراءات، لا يقف وراءها فكر ديني إصلاحي متسق. لكن، ما من شك، أن فيما تقوم به السعودية، جانب مشرق. وهو الإقرار بأن هناك مشكلة، وأن سبب تلك المشكلة هو التصورات الدينية السلفية، المناقضة للحياة وللحرية وللتقدم.
مصر من جمال إلى السيسي
يعود الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، إلى ما عُرفت بـ "حادثة المنشية"، التي حاولت فيها الجماعة اغتياله، وهو يخطب في ميدان المنشية، في مدينة الاسكندرية، في عام 1954. الغريب، أن جمال عبد الناصر، الذي قام بحل الأحزاب السياسية عقب الثورة، استثنى من ذلك الحل جماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك، حاولت الجماعة في عام 1954 اغتياله. وقف إلى جانب جمال بعض المفكرين والكتاب، فأصدروا كتابا أسموه: "هؤلاء هم الإخوان". وكان على رأس هؤلاء الدكتور طه حسين. وقد حمل غلاف الكتاب إلى جانب طه حسين، أسماء كلٍّ من: محمد التابعي، على أمين، كامل الشناوي، جلال الدين الحمامصي، وناصر الدين النشاشيبي. وكعادة أكثرية المفكرين والأدباء العرب، آنذاك، فقد أشادوا بثورة جمال عبد الناصر، ولم يلقوا بالا إلى كونها قد قوضت نظاما ملكيا دستوريا، مارست فيه الأحزاب السياسية المصرية نشاطا ديموقراطيا، كان من الممكن أن يقود، عبر الزمن، إلى تحول ديمقراطي كامل. وهكذا حين يرتبط فكر المفكرين والأدباء بالأنظمة العسكرية، ويقفون مع التغيير من فوق، يتضعضع حراك الوعي، ويواصل الجمهور العريض دورانه في الحلقة المفرغة القائمة أصلا.
مضت على حادثة المنشية، حتى الآن، قرابة السبعين عاما. لكن، لا تزال الحرب الأمنية بين تنظيم الإخوان المسلمين، والحكومات المصرية المتعاقبة، على أشدها، حتى هذه الساعة. وقد أوصل الرئيس عبد الفتاح السيسي قمع الإخوان المسلمين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تجاوزت أحكام الإعدام في قضية اعتصام رابعة العدوية، وحدها، المئات. أما الموقوفون في السجون فربما بلغ عددهم عشرات الآلاف، وربما مئات الألوف. يصفق كثيرون منا للديكتاتور، حين يخدم أغراضهم، وينسون أن الدكتاتور ليس صاحب مبدأ، وإنما صاحب مصلحة في بقاء نظام حكمه، لا أكثر.
مارس عبد الناصر الذرائعية حين استثنى الإخوان من حل الأحزاب والجماعات المختلفة، في بداية حكمه. وهو ما فعله السادات حين ضيَّق على اليسار، وأطلق للإخوان المسلمين فرص التغلغل وسط الجمهور المصري. وهو ما فعله نميري حين جر الإخوان المسلمين إلى بيعته إماما للمسلمين، في قرية أبو قرون. وهو ما فعلته السعودية حين جيشت الأفغان العرب لحرب السوفييت في أفغانستان. وهو ما بقيت تفعله عدد من الدول الخليجية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وهي تتدخَّل في العراق وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي الصومال، وفي كامل الحزام الصحراوي في إفريقيا، داعمة الجماعات الإرهابية. باختصار شديد، الإخوان المسلمون ذرائعيون من الطراز الأول، لا يمتنعون قط من أن يستغلهم أي ديكتاتور، رأوا أن استغلاله لهم يخدم مصلحتهم. فسبب معرفة جمال عبد الناصر بمضاء وفعالية الخطاب الديني، وما يمكن أن يقوم به في توطيد أركان الحكم، استثنى الإخوان المسلمين من إجراءات حل الأحزاب والجماعات. يضاف إلى ذلك، أن الإخوان قد كانوا ضد النظام الملكي الذي قوضه عبد الناصر. وقد كانت للإخوان المسلمين معه صولات. ففي عام 1948، اغتال الإخوان المسلمون في مصر، رئيس وزراء مصر،"النقراشى باشا"، عقب إقدامه على حلهم.
لكن، هل دام شهر العسل بين جمال والإخوان؟ كلا، فبعد عامين فقط من الثورة المصرية، حاولوا اغتياله، في حادثة المنشية. ثم، توترت العلاقة بينه وبينهم، إلى أن بلغ التوتر حد إعدام سيد قطب في عام 1966. مات جمال في عام 1970، وخلفه على كرسي الحكم، الرئيس الأسبق أنور السادات. قرَّب السادات الإخوان المسلمين، مرة أخرى، ليضرب بهم اليسار، الذي كان مسيطرا منذ حياة جمال عبد الناصر. لكن الإخوان المسلمين، ممثلين في بعض خلاياهم، ما لبثوا أن اغتالوا السادات، نفسه، في عام 1981. هذه المتسلسلة من التعاطي الذرائعي مع الأمور، من جانب الحكام المستبدين، ومن جانب الإخوان المسلمين، هو الذي جمد حركة الوعي، وعطل أفكار الإحياء الديني، وجعل الأمور كلها تدور في حلقة مفرغة.
العنجهية الدينية الإخوانية
بطبيعة الحال، لابد في مثل هذا السياق، من تصويب النقد نحو الفكر الإخواني والممارسات الإخوانية، التي أسهمت بنصيب الأسد في تعطيل حركة الوعي والتقدم في البلدان العربية والإسلامية. ولو تأملنا علاقة الإخوان المسلمين في مصر، مع مختلف الأنظمة منذ العهد الملكي، وحتى مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاتضح لنا مدى العنجهية الدينية، والرعونة، التي تمثل سمة رئيسة لدى أتباع هذا التنظيم. فقد قام التنظيم المصري بالعديد من محاولات الاغتيال، التي نجح في بعضها، كما في حالة النقراشي باشا، وأنور السادات، وفشل بعضها الآخر، كما في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر. كما قامت الجماعات المتطرفة التي خرجت من تحت عباءته، وتجد منه الدعم والمساندة والرضا، عما تفعل، بالعديد من محاولات الاغتيال التي نجح بعضها، وفشل بعضها الآخر. من المحاولات الناجحة مقتل الدكتور فرج فودة، التي قال عنها الشيخ محمد الغزالي حين جرى استدعاؤه ليلقي بشهادته حولها: إن من فعلوها افتأتوا على الدولة. وحين سألوه هل هناك حكم شرعي على من يفتئت على الدولة، فقال: لا يوجد. الخلاصة، أن الشيخ الغزالي يرى أن فرج فودة "كافر"، أو "مرتد"، قتله مبرر، بل وواجب. كل ما في الأمر أنه يرى أن الدولة هي التي كان ينبغي أن تقوم به.
الشاهد أن محاولات الاغتيال التي تسبب فيها الفكر الإخواني في مصر بالغة الكثرة، ومنها محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم عام 2013. كما تعرض اللواء حسن الألفي، وزير الداخلية الأسبق إلى محاولة اغتيال. كما تعرض الكاتب نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، في عام 1994. أما تفجير البصات السياحية وغير ذلك من الأعمال الإرهابية فبالغة الكثرة. تكمن علة الفكر الإخواني المركزية في ظنهم أنهم يمتلكون الحقيقية المطلقة، التي تخول لصاحبها ارتكاب كل فعلٍ قبيح ومشين، بما في ذلك الاغتيال غدرا وغيلة. فهم يبيحون لأنفسهم كل شيء من أجل أن يكونوا المتحكمين في فكر الناس وفي سلوكهم، وفي كل أمور حياتهم. لكن، مع ذلك، لن توقف الحلول الأمنية هذا النهج العنفي الإجرامي. فالمصالحة تعني لديَّ الاعتراف بأن لهذا الفكر وجود واسع في المجتمع، ولا مناص، أبدا، لجمهرة المثقفين من الانخراط الجدي، في قضية تجديد الخطاب الديني. وهذا ما قامت به أوروبا قبل قرون لكي تنهض. (يتواصل).
elnourh@gmail.com