المكتولة ما بتسمع الصياح! … بقلم: د. النور حمد
7 October, 2009
elnour hamad [elnourh@gmail.com]
لم أعلق آمالا عراضا على مؤتمر جوبا، فأجندة من أمُّوه أجندة جد مختلفة، بل إن بعضهم لم يحضره إلا ليستخدمه كورقة ضغط على المؤتمر الوطني لكي يعيد النظر في حساباته وتحالفاته. مؤتمر جوبا في عموم حاله ليس سوى حالة معادة، بعد أكثر من عقد من الزمان، للتجمع الوطني، الذي مات يوم أن أدارت له الحركة الشعبية ظهرها، واتجهت بمفردها لتنتزع من الإنقاذ إقرارا بتقرير المصير، ولتوقع معها إتفاقية نيفاشا. أيقن القائد الجنوبي الراحل، العقيد جون قرنق، عبر تجربته مع التجمع الوطني، أن القوى الحزبية الشمالية ليست مما يُعوَّلُ عليه في أنجاز شيء، فقرر هجرها وإتجه صوب الإنقاذ. فهو وحده الذي كان يقاتل قتالا حقيقيا، وأبناء شعبه وحدهم الذين كانوا يموتون، وأرض شعبه كانت الأرض التي يجري فوقها القتال. فهو إذن واطئ الجمرة. عقد العقيد جون قرنق والمنضمون تحت لوائه من أهل جبال النوبة والأنقسنا، صفقة منفردة مع الإنقاذ. ثم توالت بعد ذلك الصفقات التي تم بعضها، ولا يزال بعضها الآخر ينتظر الإتمام في الأيام القليلة القادمة.
لقد ثَبَّتَ توقيع اتفاق شامل بين الإنقاذ والحركة الشعبية حقيقة هامة، مفادها أن الحركة الشعبية ومعها القوى الدولية الراعية لاتفاقية نيفاشا، لم تعد ترى في السودان غير لاعبيْن أساسييْن، هما حكومة الإنقاذ، والحركة الشعبية. شرعنت إتفاقية نيفاشا، رضينا أم أبينا، للإنقاذ بجعلها أمرا واقعا، ينبغي التعاطي معه. ومن زاوية رؤيتي الخاصة للأمر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تهدف إلى إضفاء شرعية على الإنقاذ على حساب القوى الحزبية الأخرى، لكونها تفضل الإنقاذ على تلك القوى، وإنما لأن الولايات المتحدة رأت في الإنقاذ المركب الأنسب والأسرع لفصل الجنوب. ومهما قيل لاحقا من أن الأمريكيين لم يعودوا متحمسين لفصل الجنوب، فإن فصل الجنوب لا يمكن، في تقديري، أن يخرج بحال من الإستراتيجيات الغربية لمنطقة القرن الإفريقي والشرق الأوسط، خاصة إذا استصحبنا أن معاهد البحوث التي تسترشد بها السياسة الخارجية الأمريكية، ومراكز اتخاذ القرار الأمريكية، تتطابق خططها، في غالب حالها، مع المخططات الصهيونية التي جَيَّرَتٍ الإستراتيجيات الأمريكية، ومنذ وقت طويل، لصالح الأجندة الصهيوينة. (ويكفي أن نذكر هنا: هَمَّ المياه، والنشاط الإسرائيلي الأخير في منطقة البحيرات ودول حوض النيل). خلاصة القول هنا: لا مصلحة للمشروع الصهيوني الكوكبي في بقاء السودان موحداً، أو نامياً، أو قوياً.
حين جاءت الإنقاذ إلى الحكم، وعلى رأسها الدكتور حسن الترابي (أحد ابرز وجوه مؤتمر جوبا الأخير)، جاءت بأجندة تتعدى القطر السوداني، لتشمل خططا طموحة لتصدير الثورة إلى دور الجوار، بل وإلى جزيرة العرب، والعالم من ورائها! وصلت الإنقاذ إلى الحكم وهي تحمل أكثر أنواع "الدوغما" بشاعة، فشهدت حرب الجنوب تصعيدا لم تشهده في كل تاريخها الطويل. وتم تشويه صورة السوداني الشمالي، في نظر العالم، أبلغ ما يكون التشويه. وحين تعلمت الإنقاذ من تجاربها، وتراجعت عن كل تلك الأجندة اللامعقولة، وتلك الحالة الفالتة من سيطرة العصاب الديني، كانت الفأس قد وقعت في الرأس، ولم يبق غير التعامل مع الركام الضخم الذي خلفه الخراب. ولو وعت الإنقاذ تجاربها لعرفت أنها أُكِلَتْ يوم أُكِلَ الجنوب!!
لم تعرف الإنقاذ طيلة إدارتها لشؤون البلاد، وإدارتها للصراع مع خصومها، سوى الحيلة والمكر. ذكر الصحفي المتميز، ضياء الدين بلال، في مقابلة أجرتها معه قناة الشروق الفضائية، قبل بضعة أيام، أن مؤتمر جوبا جاء رداً على مؤتمر كنانة الذي أشرفت على تنظيمه الحكومة. وذكر، وأرجو أن أكون دقيقا في إيراد ما قاله، إن مؤتمر كنانة مثَّل تدخلا، من قبل المؤتمر الوطني، في الأرض الجنوبية، ولذلك فقد كان مؤتمر جوبا ردا على ذلك التدخل، بتدخل مماثل في الأرض الشمالية. ولا غرابة إذن! فحرثك في أرض الآخر، لابد أن يجر حرثاً من قبل الآخر في أرضك، والبادئ أظلم!
رؤساء لا يتقاعدون!
في الوقت الذي كان الناس مشغولين فيه بمؤتمر جوبا، محاولين التنبوء بما يمكن أن يخرج به من مقررات، ظللت من جانبي مشغولا بالسيد الصادق المهدي، والدكتور حسن الترابي. وقد تلخص انشغالي بهما في سؤال واحد، هو: أتُرى سيصلان إلى قرار بالتقاعد عن رئاسة حزبيهما وعن العمل السياسي، قبل الموت، أم سيظلان متمسكين بقيادة حزبيهما، وبحلم العودة إلى الحكم، حتى النفس الأخير؟ ـ بعد عمر مديد إن شاء الله ـ . لمع نجم السيد الصادق المهدي، والدكتور حسن الترابي إبان ثورة أكتوبر 1964، وحينها، كان شخصي المكلوم والمخذول دوما في سياسيي بلده، طالبا بمدرسة أبو عشر الوسطى. والآن لم يبق لي، ولمن هم في مثل سني، سوى بضع سنوات، لنصل إلى سن التقاعد، ولكن السيد الصادق المهدي، والدكتور حسن الترابي لا يزالان على رأسي حزبيهما، يسافران إلى جوبا، ويشاركان بهمة وحماس الشباب، (عيني باردة!) ويحلمان بعود مظفر وميمون إلى دست الحكم!
لو كنت مثلهما رئيسا لحزبي، ولم أسمح عبر أكثر من خمسة وأربعين عاما، لشخص آخر ليحل محلي، لكان ذلك وحده كافيا لي لكي أقدم استقالتي. هذا إن غضضنا الطرف عن رصد صور الفشل الأخرى والتناقضات التي وسمت تاريخهما السياسي العربيد. هؤلاء قادة لا يشبعون من القيادة، ولا من السكنى في أذهان الناس. ألم تقع أعينهما على قول النبي الكريم: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع)). فالنفس التي لا تشبع من كرسي القيادة، ومن شهوة الحكم، مشمولة، في هذا الحديث الشريف.
يدعو كل من السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي إلى التحول الديمقراطي، وينسيان أن التحول الديمقراطي يجب أن يُطَبَّق داخل حزبيهما، اللذين بقيا على رئاستهما قرابة نصف القرن! وبطبيعة الحال فإن نفس القاعدة تنطبق على السيد رئيس الجمهورية، الذي حكم لعشرين سنة، ولا يزال حزبه يرشحه لفترة حكم جديدة! ولا فرق في السودان، فيما يبدو، بين أحمد وحاج أحمد! يعطي الدستور الأمريكي الرئيس المنتخب فترتي حكم مدتهما ثمان سنوات كحد أقصى. وفي ذلك حكمة كبيرة. ولا يسمح للرئيس بالترشح لفترة ثالثة بعد انقضاء الفترتين، حتى لو كان أداؤه مثاليا، وحتى لو أصبح معبوداً للجماهير، بلا منازع. فعطاء الإنسان أصلا محدود، وفترة ثمان سنوات، كحد أقصى، أكثر من كافية لأستحلاب أفضل ما لدى الرئيس من عطاء. بعدها لابد من مجيء شخص جديد، ودم جديد، فليس هناك رجل يملك من الرؤية، ومن الطاقة، ومن القدرات، ما يجعله رجلا لكل المواسم.
رهاب المعارضة والإعلام النَّبَّاح!
حين بدأ مؤتمر جوبا، ظهر إعلام الإنقاذ بادئ الأمر بمظهر مهني رزين، فقلت في نفسي: (ما شاء الله، تبارك الله، إننا نتحسن!!) ولكن سرعان ما خاب فألى! فَتَجَمُّلُ الإعلام الإنقاذي لم يطل، إذ خرج (ضنب الوحش) المخفي فجأة، وانطلق الوحش في العض والنهش يمنة ويسرة. انمحت الفوارق في بضع يوم بين قناة "الشروق"، وقناة "النيل الأزرق"، و"قناة الحكومة الرسمية"، (شيالة وش القباحة). أصبح الجميع بين عشية وضحاها في مركب واحد. ذابت مساحيق التجميل بفعل الحرارة الزائدة، وعادت الوجوه إلى طبيعتها الأصلية. لم يستح بعضٌ ممن استنفرتهم هذه القنوات للهجوم على مؤتمر جوبا من القول: إن مؤتمر جوبا يريد أن يقيم حلفا معارضا يخوض الإنتخابات ضد المؤتمر الوطني، وكأن ذلك خطئية! فقلت في نفسي، كما يقول الغربيون: duh!، أي: وما وجه الغرابة في ذلك؟ ألا يعني التحول الديمقراطي في أبسط صوره أن تكون هناك حكومة، وهناك معارضة؟ أم أن التحول الديمقراطي يعني لدى المؤتمر الوطني أن يكون هو الحزب الوحيد في البرلمان القادم، (يجرح ويداوي براه)، مثلما هو الحال الآن!؟
الانزعاج الزائد للمؤتمر الوطني وحملته الشرسة التي شنها في الأيام القليلة الماضية ضد مجرد انعقاد مؤتمر في جوبا، تقول إن وراء الأكمة ما وراءها. هذا القدر من الانزعاج لا يتناسب مع مجرد نشوء تحالف معارض لخوض الإنتخابات. وعلى أية حال، لم يتشكل حتى الآن تحالف من قوى المعارضة، لخوض الإنتخابات ضد المؤتمر الوطني. كما لم يقرر مؤتمر جوبا مقاطعة الإنتخابات بعد، وإن لوَّح بذلك. وحتى إن حدث أن تشكل حلف، لخوض الانتخابات أو للمقاطعة فهو سوف يتشكل في وقت تقف فيه القوة الأكبر، وهي الحركة الشعبية، قاب قوسين أو أدنى من الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب. فالحركة الشعبية سوف تصبح في كل الأحوال، كما تدل المؤشرات الآن، قوة مناط بها إدارة بلادٍ أخرى، بل وفي وقت قريب جدا! اللهم إلا إذا قلنا أن مصلحة الحركة الشعبية إنما تتمثل في أن تأتيها الانتخابات القادمة، إن تم خوضها بنحالف عريض معارض، بحكومة ضعيفة في الشمال، تكفيها شرور ما هو متوقع من المؤتمر الوطني من عبث بأمن الجنوب واستقراره عقب الإنفصال. فالمؤتمر الوطني، كما يرى كثيرون، قد فرغ بالفعل من دفن كثير من القنابل الموقوتة للحركة الشعبية. ومن الدلائل القوية على رجحان خيار انفصال الجنوب، بدء الدعوة، منذ الآن، لإنشاء كونفدرالية عقب الانفصال! الشاهد، أن الأجندة لمختلف الفئات السياسية، في هذه اللحظة، أجندة غائمة وملتبسة. ويمكن القول أن الرمال المتحركة في السياسة السودانية لم تكن في كل تاريخنا السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، بمثل هذه الحالة من الحراك ومن الميوعة.
من المتوقع جدا أن يتم قفل ملف الصراع بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة في القريب العاجل، ولسوف يضع ذلك الأمور، جميعها، في مربع جديد. فالموقع الذي يختاره الدكتور خليل إبراهيم وحركته في هذا المنمنمة العجيبة، سيخلط الأوراق بالنسبة للجميع. خلاصة القول، إن الإنقاذ بحاجة، فيما أرى، للتعامل بشكل أفضل مع القوى المعارضة، خاصة التي لم تحمل سلاحا. عليها أن تعينها لكي تصبح معارضة سلمية قوية. أم تراني رجلاً مثالياً، لا غير؟! البديل الذي لا مندوحة منه، إن هي لم تفعل، هو احتواء الأجندة الأجنبية لهذه القوى، طال الزمن أم قصر. ومن خطل الرأي أن تكون سياسة الإنقاذ الوحيدة الدائمة هي وضع القوى السياسية المختلفة تحت جناحها، كما فعلت بمجموعة الهندي، ومجاميع حزب الأمة المتشظية عنه، إضافة إلى ما يجري منها الآن نحو السيد محمد عثمان وقبيله. بقي أن أقول إن قناة الشروق أجرت استبيانا لعينة عشوائية حول رأي السودانيين حول مؤتمر جوبا، وكانت النتيجة متعادلة تقريبا!!! لقد نصح الإنقاذ كثيرون قبلي من بني جلدتها، كالدكتور الطيب زين العابدين، والدكتور عبد الوهاب الأفندي، وغيرهم ممن آثروا الوقوف على سياج ساحة فعلها، ولكنها لم تسمع. فهل جاء الوقت لكي نقول: "المكتولة ما بتسمع الصياح"؟