المُطَفِّفُـونْ .. لُحمَةُ الدين.. أم عقدة الدماء
ناجي شريف بابكر
26 June, 2023
26 June, 2023
تمهيد:
"إن ما يدفعهم لإضطهاد الناس حتي الموت هو الإحتفاظ بمجوهراتهم وأوارقهم المالية، وكل ذلك المتاع البائس الذي يمكنهم من التسلَّطِ علي الناس. إنهم لا يدافعون عن حياتهم حينما يقتلون الناس ويشوهون أرواحهم، ليس ذلك في سبيل ذواتهم، بل في سبيل مقتنياتهم الثمينة يفعلون كل ذلك"
مكسيم غوركي "الأم"
النص:
الناس في العديد من الدول الأفريقية، بالأخص تلك التي تشكل الثقافة الإسلامية العروبية قدرا من خليطها الإثني والمعرفي، طالما يكونون ضحايا للحيل والمكائد التي جعلت تفتلها العصابات المتفوقة الحاكمة وتعمل على ترويجها، سعيا من خلالها للإحتيال والإستئثار بثروات تلك الشعوب ومواردها.
١/ التعقل والجدل المنطقي
من ضمن تلك الحيل التي تبرع فيها تلك العصابات هي العمل على إفساد التسلسل المنطقي للجدل والأفكار، ذلك من خلال بث زخات من المفاهيم والتكهنات، تهدف آخر الأمر لتعكير الذاكرة ولإفساد القيم والمعايير المرجعية والأخلاقية، التي يُقوِّم الناس ويقيمون على أساسها، بصورة عادلة ومحايدة، نهجهم وممارساتهم، ويُفَرِّقُون من خلالها ما بين الفضيلة والإنحطاط.
وقفت بنفسي في إحدى منصات الحوار بالسوشال ميديا، على قضية مطروحة، كان الناس فيها يبدون إستياءهم من خطل لا جدال عليه تمثل في قيام سلطات الإنقاذ إبان حكم الإسلاميين للسودان، بفصل بروفيسور ذائع الصيت، من العمل بإحدى الجامعات رغم طول باعه في الأوساط الأكاديمية، وقد حدث ذلك كرد فعل لما رشح عنه من معارضة دائبة للنظام الحاكم في الخرطوم. ليس ذلك فحسب بل قام النظام بتعيين أحد الموالين من الطلاب اليافعين، من تلاميذ البروفيسور نفسه، وفي مكانه. ربما كان الأمر على فظاعته شيئا راتبا وعاديا متوقعا من نظام إستبدادي أصولي، لكن ما لم يكن عاديا هو دخول أحد الأصدقاء المشتركين، الموالين وقتها لنظام الإسلاميين لغرفة الحوار، ودفعه لتبرير الخطوة، ليس استنادا على جزئية تقدح في كفاءة البروف، أو ترفع من قدر تلميذه، إنما على حجة غيبية خدّاعة، مفادها أن "ربما كان التلميذ أكثر قربا إلى الله من هذا البروف"!!.
لقد كان ورود تلك الحجة من قبل صديقي بمثابة صدمة لي، ربما لإفراطي المتكرر في إحسان الظن فيه ضمن كثيرين من شيعته.. فما المنطق الذي يجعل التكهُّن بمصائر الناس يوم يقوم الحساب، واحدا من أسانيد تقرير مهني لمقاربة فنية لمؤهلات شخصيتين تتنافسان على أداء مهام أكاديمية، أحدهما التلميذ والثاني مرشده. وكيف يتأتى لإحدنا النفاذ وعبور حُجُبِ الغيب للإطلاع على صحائف الناس. من منّا يمكنه ان يتنبأ بدرجات العباد بعدا وقربا من معية الله.. من هم أحباء الله، ومن هم خصومه. لماذا يحتاج الإنسان لكل ذلك الفضول والتطفل فيما لم يكلفه الله به ولم يؤهله له.. في التعاطي مع مسألة فنية بحتة.
٢/ فساد العدالة (التطفيف)
كثيرة هي النماذج التي تؤكد ان تعاليما ونصوصا سماوية وأخرى متواترة، قد تم العبث بها وتطويعها لإثارة الشكوك في المسلمات ومنطق الأشياء، وفي إضعاف نفاذ أحكام القانون وبسط العدالة. ظل ذلك يحدث بصفة راتبة حينما يتورط مقربون من النظام الحاكم في جرائم معتادة تكررت فيها عمليات إستيلاء على أصول وأموال عامة. فبالرغم من ان جرائم من هذه الشاكلة عادةً ما تُواجه بالصرامة اللازمة ويُعاقبُ مرتكبوها بلا رأفة حينما يكون الجُناةُ مواطنين عاديين لا يتمتعون بسند من النظام ومن أعيانه..
في الوقت الذي يتم فيه إجتراح النصوص والأسانيد للتأكد من أن يتمكن مقربون من النظام من الإفلات دون محاكمة في جرائم أشدُّ فداحةً. يتم التعاطي معها بفقه مختلف، ويُضرب عليها بستار كثيف من العُتمة مدعوم بحملات من التذرع بالدين ومن الإعلام التشكيكي المضلل. لتتم معالجتها بعناية فائقة أو بالإستعانة بنفوذ لشخصيات رفيعة في العصابات الحاكمة. تبذل تلك العصابات المتنفذة جهدا جبارا لمحاصرة المعلومة في دوائر موالية وضيقة، حتى لا تتسرب المعلومات والحقائق فتطرق آذان أصحاب المصلحة الحقيقيين.
هذا المسلك تتم مساندته في الدوائر الداخلية لاتخاذ القرار، من خلال اجتزاء نصوص فقهية لتبريره والتعامل معه كواحدة من زلات يبتلي الله بها مقربيه وأحبابه ومناصريه ومن هم من أصلابهم، ليتسنى بذلك الإفلات من العقاب لمجرمين موالين للعصابات المتدينة الحاكمة.. حداً يضمن في الوقت نفسه لمتورطين رفيعين في الحزب أو الجهاز التنفيذي ألا تتم دحرجتهم لصالات المحاكم كالعوام، إذا ما حدث انفجار إعلامي تطرح بسببه الملفات نفسها أو أخرى من شاكلتها، أمام منصة تحقيق قضائي.
على الرغم من أن الكتب السماوية لا تقبل تبني المعايير المزدوجة تجاه قضايا الناس المتجانسة، ولا تقبل تطفيفا في الأحكام إعتمادا على انتماءات المتخاصمين عقائدهم، إثنياتهم أو ولاءاتهم السياسية، لا يستثني ذلك بالطبع القران الكريم. لكن كل ذلك لم يمنع أن يظل العوام من الناس على الدوام، ضحايا لعدالة ذات معايير مزدوجة.. أقل ما تكون مُناصَرةً للضعفاء والضحايا.. عدالة النُخَب والأقوياء ذوِي البأس.
٣/ الدم أم الإيمان
إن المغالطة الكبرى تتمحور حول إدعاء العديد من العصابات الحاكمة أن الدين هو الدافع الأوحد لتمسكها بأهليتها في الوصاية على الناس وتولي الأمارة فيهم من دونهم. إدعاؤهم أن في ذلك مناط تفردهم وتكليفهم، لكنه مقتلهم في نفس الوقت، ذلك لإنطوائه على تناقض ساطع، وهو ان الإيمان قناعة وحالة عقلية، لا صفة وراثية سائدة تتناقلها سلالات نبيلة عبر الأجيال، إنما هو يقين يتمثل في حالة معرفية تركن بصاحبها للإيمان بالله وتوحيده ثم الخضوع بموجب ذلك لتعاليم السماء ورسالاتها. إن الأفكار لا تـُوَرَّث، فليس من الضروري والسائد أن يتطابق الأحفاد والآباء في الافكار والقناعات أو أن يتناسخونها فيما بينهم، ليس لشئ إلا لشراكة ولوحدة في الدم تجمعهم، فإن عهد الله لا يناله الظالمون.
على الرغم من ان ما تقدم يمثل حقيقة واقعية يتعذر إنكارها أو تحاشيها، لكن الدارس لتاريخ الإمبراطوريات الدينية لا يغفل حقيقة أن الإنتماء لأحزاب الوصاية الدينية والعصابات الحاكمة، وأن الأحقية في الثروة والعرش، صارت جميعها، كظاهرة سائدة، إمتيازات يتم توارثها وتجتاز الأجيال عبر خيط الدم المنحدر من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد. حكرا لهم ولأبنائهم الذين هم من أصلابهم دون سواهم من عامة الناس، ذرية بعضها من بعض، لا يفُضّها إلا السيف أو نوائب الدهر، وأنها رغم كل ما تتباهى به من الأكاذيب، غارقة حتى مناكبها وآذانها في مأدبةٍ مُتعطٍنةٍ ومُفرطة في الإستئثار وشُحِّ الأنفس، لا تعبأ بقرب من الله ولا ببعد عنه.
٤/ خلاصة
إن الإستكانة للظن رغم دروس التاريخ وعبره، ورغم التجارب الماثلة أمامنا للعيان، بأن الإيمان والإعتقاد كمبادئ لا مساومة عليها في أوساط العصابات الدينية المتمسكة بالوصاية والحكم، إنما هو إفراط في إحسان النوايا، وكذبة كبيرة يبطلها الغالب الأعم لوقائع التاريخ وعبره المتكررة، بل تبطلها التجارب المعاصرة والماثلة أمامنا في تجربة حكم الأسلاميين في السودان، الذين استولوا على الحكم في السودان بحجة الوصاية الدينية وانتهوا خلال ثلاثين عاما من الحكم بإستيلاء الجيل الثاني والثالث من أبناء العصابة الحاكمة على معظم أصول البلاد ركازها ومواردها النقدية. وقد تم لهم ذلك بعد أن أفلح تحالف الإسلاميين مع جماعات وظيفية من التكنوكراط والطفيليين في ختام العشرية الأولي من عمر حكومة الإنقاذ، في تمكينهم من تحييد شيوخهم وقادتهم المتشددين.. الإستقواء والغَلَبَة عليهم والزج بمن تمنّعَ منهم في غياهب السجون وبيوت الأشباح، أسوة بمصائر خصومهم الألِدّاء من الجماعات العلمانية.
ليست القيم ولا المشاريع الحضارية المقدسة هي ما يتم دفع الناس لحتوفهم من أجله، إن ما تُراقُ في سبيله الدماء، هو السعي للاستئثار بثروات الشعوب صاحبة الأرض وحصر مواردها في خيوط الدم المنحدرة من السلالات المتفوقة الغالبة.. ربما بدا الأمر جليا اذا ما لاحظنا أن شرارة الحروب المقدسة لا تندلع إلا في مواقع تعتبر الأكثر ثراءً بالموارد في محيطها الجغرافي، كالموصل وكركوك في العراق، ومسراطة في ليبيا، وحقول الغاز الطبيعي في كابو دلغادو في شمالي موزمبيق، أما في السودان شماله وجنوبه، فإن المعارك المقدسة قد تصادف أن إندلع معظمها في مواقع النفط في حقول بانتيو (ولاية الوحدة سابقا) وحول مناجم الذهب واليورانيوم بجبل عامر وجبل مون ومؤخرا في حفرة النحاس على حدود جنوب السودان مع أفريقيا الوسطى.
لا شئ هناك يحدث بالصدفة!!.
إنتهى
nagibabiker@gmail.com
"إن ما يدفعهم لإضطهاد الناس حتي الموت هو الإحتفاظ بمجوهراتهم وأوارقهم المالية، وكل ذلك المتاع البائس الذي يمكنهم من التسلَّطِ علي الناس. إنهم لا يدافعون عن حياتهم حينما يقتلون الناس ويشوهون أرواحهم، ليس ذلك في سبيل ذواتهم، بل في سبيل مقتنياتهم الثمينة يفعلون كل ذلك"
مكسيم غوركي "الأم"
النص:
الناس في العديد من الدول الأفريقية، بالأخص تلك التي تشكل الثقافة الإسلامية العروبية قدرا من خليطها الإثني والمعرفي، طالما يكونون ضحايا للحيل والمكائد التي جعلت تفتلها العصابات المتفوقة الحاكمة وتعمل على ترويجها، سعيا من خلالها للإحتيال والإستئثار بثروات تلك الشعوب ومواردها.
١/ التعقل والجدل المنطقي
من ضمن تلك الحيل التي تبرع فيها تلك العصابات هي العمل على إفساد التسلسل المنطقي للجدل والأفكار، ذلك من خلال بث زخات من المفاهيم والتكهنات، تهدف آخر الأمر لتعكير الذاكرة ولإفساد القيم والمعايير المرجعية والأخلاقية، التي يُقوِّم الناس ويقيمون على أساسها، بصورة عادلة ومحايدة، نهجهم وممارساتهم، ويُفَرِّقُون من خلالها ما بين الفضيلة والإنحطاط.
وقفت بنفسي في إحدى منصات الحوار بالسوشال ميديا، على قضية مطروحة، كان الناس فيها يبدون إستياءهم من خطل لا جدال عليه تمثل في قيام سلطات الإنقاذ إبان حكم الإسلاميين للسودان، بفصل بروفيسور ذائع الصيت، من العمل بإحدى الجامعات رغم طول باعه في الأوساط الأكاديمية، وقد حدث ذلك كرد فعل لما رشح عنه من معارضة دائبة للنظام الحاكم في الخرطوم. ليس ذلك فحسب بل قام النظام بتعيين أحد الموالين من الطلاب اليافعين، من تلاميذ البروفيسور نفسه، وفي مكانه. ربما كان الأمر على فظاعته شيئا راتبا وعاديا متوقعا من نظام إستبدادي أصولي، لكن ما لم يكن عاديا هو دخول أحد الأصدقاء المشتركين، الموالين وقتها لنظام الإسلاميين لغرفة الحوار، ودفعه لتبرير الخطوة، ليس استنادا على جزئية تقدح في كفاءة البروف، أو ترفع من قدر تلميذه، إنما على حجة غيبية خدّاعة، مفادها أن "ربما كان التلميذ أكثر قربا إلى الله من هذا البروف"!!.
لقد كان ورود تلك الحجة من قبل صديقي بمثابة صدمة لي، ربما لإفراطي المتكرر في إحسان الظن فيه ضمن كثيرين من شيعته.. فما المنطق الذي يجعل التكهُّن بمصائر الناس يوم يقوم الحساب، واحدا من أسانيد تقرير مهني لمقاربة فنية لمؤهلات شخصيتين تتنافسان على أداء مهام أكاديمية، أحدهما التلميذ والثاني مرشده. وكيف يتأتى لإحدنا النفاذ وعبور حُجُبِ الغيب للإطلاع على صحائف الناس. من منّا يمكنه ان يتنبأ بدرجات العباد بعدا وقربا من معية الله.. من هم أحباء الله، ومن هم خصومه. لماذا يحتاج الإنسان لكل ذلك الفضول والتطفل فيما لم يكلفه الله به ولم يؤهله له.. في التعاطي مع مسألة فنية بحتة.
٢/ فساد العدالة (التطفيف)
كثيرة هي النماذج التي تؤكد ان تعاليما ونصوصا سماوية وأخرى متواترة، قد تم العبث بها وتطويعها لإثارة الشكوك في المسلمات ومنطق الأشياء، وفي إضعاف نفاذ أحكام القانون وبسط العدالة. ظل ذلك يحدث بصفة راتبة حينما يتورط مقربون من النظام الحاكم في جرائم معتادة تكررت فيها عمليات إستيلاء على أصول وأموال عامة. فبالرغم من ان جرائم من هذه الشاكلة عادةً ما تُواجه بالصرامة اللازمة ويُعاقبُ مرتكبوها بلا رأفة حينما يكون الجُناةُ مواطنين عاديين لا يتمتعون بسند من النظام ومن أعيانه..
في الوقت الذي يتم فيه إجتراح النصوص والأسانيد للتأكد من أن يتمكن مقربون من النظام من الإفلات دون محاكمة في جرائم أشدُّ فداحةً. يتم التعاطي معها بفقه مختلف، ويُضرب عليها بستار كثيف من العُتمة مدعوم بحملات من التذرع بالدين ومن الإعلام التشكيكي المضلل. لتتم معالجتها بعناية فائقة أو بالإستعانة بنفوذ لشخصيات رفيعة في العصابات الحاكمة. تبذل تلك العصابات المتنفذة جهدا جبارا لمحاصرة المعلومة في دوائر موالية وضيقة، حتى لا تتسرب المعلومات والحقائق فتطرق آذان أصحاب المصلحة الحقيقيين.
هذا المسلك تتم مساندته في الدوائر الداخلية لاتخاذ القرار، من خلال اجتزاء نصوص فقهية لتبريره والتعامل معه كواحدة من زلات يبتلي الله بها مقربيه وأحبابه ومناصريه ومن هم من أصلابهم، ليتسنى بذلك الإفلات من العقاب لمجرمين موالين للعصابات المتدينة الحاكمة.. حداً يضمن في الوقت نفسه لمتورطين رفيعين في الحزب أو الجهاز التنفيذي ألا تتم دحرجتهم لصالات المحاكم كالعوام، إذا ما حدث انفجار إعلامي تطرح بسببه الملفات نفسها أو أخرى من شاكلتها، أمام منصة تحقيق قضائي.
على الرغم من أن الكتب السماوية لا تقبل تبني المعايير المزدوجة تجاه قضايا الناس المتجانسة، ولا تقبل تطفيفا في الأحكام إعتمادا على انتماءات المتخاصمين عقائدهم، إثنياتهم أو ولاءاتهم السياسية، لا يستثني ذلك بالطبع القران الكريم. لكن كل ذلك لم يمنع أن يظل العوام من الناس على الدوام، ضحايا لعدالة ذات معايير مزدوجة.. أقل ما تكون مُناصَرةً للضعفاء والضحايا.. عدالة النُخَب والأقوياء ذوِي البأس.
٣/ الدم أم الإيمان
إن المغالطة الكبرى تتمحور حول إدعاء العديد من العصابات الحاكمة أن الدين هو الدافع الأوحد لتمسكها بأهليتها في الوصاية على الناس وتولي الأمارة فيهم من دونهم. إدعاؤهم أن في ذلك مناط تفردهم وتكليفهم، لكنه مقتلهم في نفس الوقت، ذلك لإنطوائه على تناقض ساطع، وهو ان الإيمان قناعة وحالة عقلية، لا صفة وراثية سائدة تتناقلها سلالات نبيلة عبر الأجيال، إنما هو يقين يتمثل في حالة معرفية تركن بصاحبها للإيمان بالله وتوحيده ثم الخضوع بموجب ذلك لتعاليم السماء ورسالاتها. إن الأفكار لا تـُوَرَّث، فليس من الضروري والسائد أن يتطابق الأحفاد والآباء في الافكار والقناعات أو أن يتناسخونها فيما بينهم، ليس لشئ إلا لشراكة ولوحدة في الدم تجمعهم، فإن عهد الله لا يناله الظالمون.
على الرغم من ان ما تقدم يمثل حقيقة واقعية يتعذر إنكارها أو تحاشيها، لكن الدارس لتاريخ الإمبراطوريات الدينية لا يغفل حقيقة أن الإنتماء لأحزاب الوصاية الدينية والعصابات الحاكمة، وأن الأحقية في الثروة والعرش، صارت جميعها، كظاهرة سائدة، إمتيازات يتم توارثها وتجتاز الأجيال عبر خيط الدم المنحدر من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد. حكرا لهم ولأبنائهم الذين هم من أصلابهم دون سواهم من عامة الناس، ذرية بعضها من بعض، لا يفُضّها إلا السيف أو نوائب الدهر، وأنها رغم كل ما تتباهى به من الأكاذيب، غارقة حتى مناكبها وآذانها في مأدبةٍ مُتعطٍنةٍ ومُفرطة في الإستئثار وشُحِّ الأنفس، لا تعبأ بقرب من الله ولا ببعد عنه.
٤/ خلاصة
إن الإستكانة للظن رغم دروس التاريخ وعبره، ورغم التجارب الماثلة أمامنا للعيان، بأن الإيمان والإعتقاد كمبادئ لا مساومة عليها في أوساط العصابات الدينية المتمسكة بالوصاية والحكم، إنما هو إفراط في إحسان النوايا، وكذبة كبيرة يبطلها الغالب الأعم لوقائع التاريخ وعبره المتكررة، بل تبطلها التجارب المعاصرة والماثلة أمامنا في تجربة حكم الأسلاميين في السودان، الذين استولوا على الحكم في السودان بحجة الوصاية الدينية وانتهوا خلال ثلاثين عاما من الحكم بإستيلاء الجيل الثاني والثالث من أبناء العصابة الحاكمة على معظم أصول البلاد ركازها ومواردها النقدية. وقد تم لهم ذلك بعد أن أفلح تحالف الإسلاميين مع جماعات وظيفية من التكنوكراط والطفيليين في ختام العشرية الأولي من عمر حكومة الإنقاذ، في تمكينهم من تحييد شيوخهم وقادتهم المتشددين.. الإستقواء والغَلَبَة عليهم والزج بمن تمنّعَ منهم في غياهب السجون وبيوت الأشباح، أسوة بمصائر خصومهم الألِدّاء من الجماعات العلمانية.
ليست القيم ولا المشاريع الحضارية المقدسة هي ما يتم دفع الناس لحتوفهم من أجله، إن ما تُراقُ في سبيله الدماء، هو السعي للاستئثار بثروات الشعوب صاحبة الأرض وحصر مواردها في خيوط الدم المنحدرة من السلالات المتفوقة الغالبة.. ربما بدا الأمر جليا اذا ما لاحظنا أن شرارة الحروب المقدسة لا تندلع إلا في مواقع تعتبر الأكثر ثراءً بالموارد في محيطها الجغرافي، كالموصل وكركوك في العراق، ومسراطة في ليبيا، وحقول الغاز الطبيعي في كابو دلغادو في شمالي موزمبيق، أما في السودان شماله وجنوبه، فإن المعارك المقدسة قد تصادف أن إندلع معظمها في مواقع النفط في حقول بانتيو (ولاية الوحدة سابقا) وحول مناجم الذهب واليورانيوم بجبل عامر وجبل مون ومؤخرا في حفرة النحاس على حدود جنوب السودان مع أفريقيا الوسطى.
لا شئ هناك يحدث بالصدفة!!.
إنتهى
nagibabiker@gmail.com