الناظر عبد الجبَّار حسين زاكي الدين (1903-1999م)

 


 

 


أحد رموز الإدارة الأهليَّة في كردفان
ahmedabushouk62@hotmail.com
في يوم الخميس الرابع عشر من يناير 1999م شيَّعت مدينة الأُبَيِّض وأبناء نظارة البِديريَّة وزعماء عشائر كردفان في موكب مهيب جثمان الناظر عبد الجبَّار حسين زاكي الدين، بعد عمر ناهز ستة وتسعين عاماً، قضاها في خدمة الإدارة الأهليَّة والعمل الوطني. شيَّع الفقيد قلَّة من أتراب الصبا الذين أفناهم القدر، وكثرة من أبنائه وأحفاده الذين عاش بين ظهرانيهم شيخاً لقرية أم صِميمَة معقل أسرة زاكي الدين محمد حلو، ثم عمدة لعمودية أبي حراز محط رحال أولاد حليب، وأخيراً ناظراً لنظارة البِديريَّة في وسط كردفان. وإلى جانب أعمال الإدارة الأهليَّة كان الناظر عبد الجبَّار رئيساً لمجلس دار البِديريَّة لثلاث دورات متعاقبة (1959-1970م)، وعضواً دائماً بمجلس المديرية، ورئيسا لاتحاد زعماء عشائر كردفان، ووكيلاً لإمام الأنصار السيِّد عبد الرحمن المهدي، ثم ابنيه الصديق والهادي تباعاً. وفوق هذا وذاك كان أجواداً من الطراز الأول، حيث لمع في مجالس الديَّات بدار البِديريَّة، ومحافل المؤتمرات القبلية، ولجان الصلح في كردفان ودارفور وبحر الغزال.
 بهذه الخبرة الواسعة والمواهب المتعددة والإنجازات الرائدة كان رحيل الناظر عبد الجبَّار في نهاية الألفية الثانية رحيل جيلٍ بكامل ملامحه، جيل تفتحت عيناه في عهد الاستعمار البريطاني (1898-1956م)، وتربى في كنف آباء كان ولاؤهم متنازعاً بين السُخط على حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885-1898م) والإيمان الراسخ الذي لا يقبل نقداً في المهدية، ويلتزم التزاماً حرفياً بنصوص البيعة الأولى للإمام المهدي. كان وقع هزيمة المهدية على أبناء ذلك الجيل صدمة رهيبة وحدثاً مروعاً، إلا أن المعارضين منهم سرعان ما تخلَّصوا من آثار الصدمة، ووضعوا كل إمكاناتهم في خدمة العهد الجديد الذي تسنموا فيه أعلى مراتب القضاء، والإدارة المحلية، والتعليم. والشاهد في ذلك أن شاعر المهدي الفطحل محمد عمر البنا أصبح مفتشاً للمحاكم الشرعية، والمجاهد محمد عثمان أبوقرجة عمدةً لمنطقة القطينة، والشيخ بابكر بدري مفتشاً للتعليم بمصلحة المعارف. أما أهل البيعة الذين أذهلتهم الهزيمة وعدُّوها نهاية الدنيا والتاريخ فقد آثروا الهجرة من بقعة الإمام المهدي (أم درمان) إلى معاقلهم التي هجروها في الريف، إما رغبةً في التبرك بصحبة الإمام المهدي، أو رهبةً من سيف الخليفة عبد الله. فقد شكل هؤلاء العائدون إلى أوطانهم معارضة صامتة في وجه البريطانيين وحضارتهم، بيد أن معارضتهم لم تفقدهم تقديرهم للمستعمر واحترامه لهم، لأنه وعدهم بعدم التدخل في شؤونهم المحلية، وبسط الأمن وسيادة القانون، واحترام تقاليدهم المحلية وأعرافهم المرعية. هكذا روَّض البريطانيون المعارضين، وجعلوهم يتصالحون مع النظام الجديد، الذي خدموه بصدق طويَّة واعتقاد بأن خدمة المستعمر تصب في وعاء خدمة الوطن والعشيرة. ومن أمثال هؤلاء الشيخ حسين زاكي الدين محمد حلو، الذي عاد مع أفراد قبيلته من أمدرمان ومنطقة ود الترابي بالجزيرة إلى دار البِديريَّة بكردفان، حيث انخرط هو أعيان قبيلته في خدمة مؤسسات الإدارة الأهليَّة. وفي أولى سني هذا التصالح الاستراتيجي رُزق الشيخ حسين زاكي ابناً ذكراً أطلق عليه اسم "عبد الجبَّار".
الخلفية التاريخية
ينتمي عبد الجبَّار إلى أولاد حليب، أحد بطون قبيلة البِديريَّة في كردفان. كان جَدُّه زاكي الدين محمد حلو عُهدة (أو عمدة) لمنطقة أم صميمة في العهد التركي المصري (1820-1881م)، وعم أبيه الشيخ عبد الله محمد حلو أول أمير عقد له الإمام المهدي لواء راية البِديريَّة، التي اشتركت في حصار مدينة الأبيض وتحريرها عام 1883م، وأسهمت في تحرير الخرطوم، وتأسيس حاضرة الدولة المهدية بأمدرمان عام 1885م. ثم بعد ذلك التحق نفر من أعيانها بجيوش الأمير حمدان أبو عنجة المرابطة على الحدود الحبشية، حيث استشهد ثلاثة من قادتها الأوفياء للمهدية، وهم الشيخ النصري عالم، والشيخ صالح عبد الجبَّار، والشيخ سلامة عبد القادر.
 وبعد هزيمة الأنصار في كرري عام 1898م عاد الشيخ حسين زاكي الدين وأفراد أسرته إلى معقل أجدادهم بقرية أم صميمة شمال غربي الأبيض، وبعد أربعة أعوام من تاريخ عودتهم (1903م) احتفل عيال زاكي الدين بميلاد عبد الجبَّار، الذي وُلد بعد عام من ميلاد أخيه أحمد المصطفى وقبل اثني عشر عاماً من ميلاد أخيه ميرغني. هكذا وُلد عبد الجبَّار كسائر أبناء جيله الذين أطلق عليهم الأستاذ الشاعر محمد المكي إبراهيم "أحفاد الهزيمة"، لأنهم لم يشهدوا الهزيمة الكبرى في كرري، ولم يكونوا على قدر كافٍ من الوعي يؤهلهم لفهم معناها في سنوات الغزو الأولى، بل أسدل الزمن بينهم وبينها حاجزاً تاريخياً سميكاً، حدث فيه تبدل في الولاء، حيث بدأ المعاصرون ينشدون على أنغام الإعجاب بالغزاة الذين أشاعوا الأمن وسيادة القانون على عرش المهدية السليب، ويقتدون بهم "اقتداء المغلوب بالغالب"، كما يقول ابن خلدون، والشاهد في ذلك أن نفراً من أبناء ذلك الجيل تعلموا في مدارس المستعمر، وتشربوا بثقافته، وأضحوا أكثراً إلماماً بشؤون الحكم والإدارة الحديثة في السودان، والنظم السياسية السائدة في العالم المتحضر.
 أما الصبي عبد الجبَّار فقد اكتفى بدراسة الخلوة، وحفظ جزءاً من القرآن وراتب الإمام المهدي، الذي كانت تعدُّ حيازته جريمة يعاقب عليها قانون المستعمر بالسجن. وبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة بالخلوة لازم مجالس والده الذي كان يحظى باحترام أعيان البِديريَّة، ويتمتع بثقة الإداريين البريطانيين في مديرية كردفان. كانت تلك الفترة تمثل مرحلة من مراحل إعداد عبد الجبَّار ليكون الساعد الأيمن لوالده في إدارة شؤون القبيلة، وخليفة له من المستقبل. فلذا قد وصفه السيِّد إسكيد، مفتش مركز الوسط (أو الأبيض) بأنه: "خير مثال لشاب نشأ في بيئة بدوية ذات تقاليد إسلامية"، وتنبأ أنه "سيكون خير خلف لوالده" الناظر حسين زاكي الدين. وبالفعل تحققت فراسة السيِّد إسكيد، عندما عُين العمدة عبد الجبَّار ناظراً لنظارة البِديريَّة خلفاً لوالده عام 1948م.
عبد الجبَّار والإدارة الأهليَّة
كانت الإدارة الأهليَّة تمثل امتداداً طبيعياً للنظام القبلي الذي فرضته ظروف الاستقرار الجماعي في الريف، وطوَّره الساسة البريطانيون في شكل أجهزة محلية ترعى نشاطات الأفراد والمجموعات القبلية، وتعمل على بسط الأمن والاستقرار، وحماية البيئة المحلية وفق تقاليد وأعراف موروثة. وسنَّ الإداريون البريطانيون حزمة من القوانين واللوائح التي أسهمت في تنظيم وظائف تلك الأجهزة المحلية من الناحية الإدارية والأمنية والقضائية، ويمكننا أن نجمل تلك القوانين واللوائح فيما يلي:-
قانون سلطات مشايخ الرحل لسنة 1922م.
قانون سلطات المشايخ لسنة 1927م وتعديله لسنة 1928م.
قانون المحاكم القروية لسنة 1925م وتعديله لسنة 1930م.
قانون المحاكم الأهليَّة لسنة 1932م.
قانون الحكم المحلي لمناطق الأرياف لسنة 1937م. 
وبموجب هذه القوانين أضحى رجال الإدارة الأهليَّة يتمتعون بثقل سياسي وإداري وقضائي في مناطق ثقلهم القبلي، ويمثلون حلقة وصل بين الحكومة المركزية ورعاياهم في الأرياف والبوادي، لأن أنشطتهم الوظيفية كانت تتجلى في تقدير الضرائب المحلية وتحصيلها، وحفظ الأمن والنظام العام، والفصل في معظم قضايا الحقوق والجنايات. 
بدأت علاقة عبد الجبَّار الرسمية بنظام الإدارة الأهليَّة في يوليو 1927م، عندما عُين عمدة لمنطقة أم صميمة خلفاً لوالده الذي نُصِّب عمدة عموم لمركز وسط كردفان بصلاحيات إدارية وأمنية وقضائية. وبعد اجتياز سنتي الاختبار وصفه السيِّد إسكيد، مفتش مركز الوسط، بأنه "شاب يفيض حيوية، ومحصل ضريبة ناجح. يتمتع باحترام أهل عموديته أكثر من أن يكون محبوباً بينهم في هذه اللحظة، لأن خلف والده الذي يعدُّ شخصية متفردة في مجتمع أم صميمة، وأجواداً مسموع الكلمة في منطقة أبي حراز". في عام 1930م كُلف العمدة عبد الجبَّار بإدارة عمودية أبي حراز بعد إقالة عمدتها أحمد محمد الكنون، وفي عام 1933م ضُم إليه جزءٌ من عمودية أم دومة بعد إلغائها ورفع عمدتها الشيخ يعقوب النصري عالم، وبهذه التعديلات الإدارية الرامية لتقوية نفوذ أولاد زاكي الدين أضحى العمدة عبد الجبَّار عمدةً لأكبر عمودية في نظارة البِديريَّة، إذ تعادل مساحتها وربطها الضريبي ربع مساحة دار البِديريَّة بعموديتها الاثنتي عشرة.
في ضوء سياسة الحكومة الرامية لتعزيز نفوذ أولاد زاكي الدين وصى السيِّد أوكلي، مفتش مركز الوسط، بمنح الشيخ حسين زاكي الدين لقب ناظرٍ بدلاً من عمدة عموم، ورفع سلطاته القضائية إلى سلطات قاض من الدرجة الثانية. وبناءً على هذه التوصية أصدر السير سايمز استيورت، حاكم عام السودان، في 18 يوليو 1934م قراراً يقضي بتعين الشيخ حسين زاكي الدين ناظراً لنظارة البِديريَّة، ورئيساً لمحكمة كبرى ذات سلطات أولية واستئنافية في المنطقة. وأقيمت مراسم الاحتفال بهذه الترقية في قرية أم صميمة، وبعدها انتقلت رئاسة نظارة البِديريَّة إلى المنطقة التي تُعرف حالياً بحي الناظر غرب مدينة الأبيض. وتتويجاً لهذا التعيين منح الناظر حسين زاكي الدين كسوة شرف من المرتبة الأولى في يوم عيد ميلاد الملك جورج الخامس لسنة 1935م، وذلك تقديراً لجهوده الإدارية واعترافاً بدرجته العالية عن أهل السلطان والجاه. وبعد ثلاث سنوات من تنصيب الناظر حسين اعترفت الحكومة بالنحاس التاريخي لقبيلة البِديريَّة، الذي ورثه الناظر من أسلافه، ومنحته أيضاً نحاسين آخرين لتكملة طاقم النظارة. وبذلك اكتملت شارات النظارة في دار البِديريَّة، وأضحى أولاد زاكي الدين أهل سلطان سياسي وجاه عريض، معترفاً به محلياً ومؤيداً رسمياً.
في ظل هذه التطورات الإدارية المتلاحقة عُين العمدة عبد الجبَّار وكيلاً عاماً لوالده، وأخيه ميرغني وكيلاً ثانٍ بسلطات إدارية محدودة، أما أخيهما الأكبر أحمد المصطفي فقد خلف العمدة عبد الجبَّار على إدارة عمودية أبي حراز. وبعد أن تقاعد الناظر حسين زاكي لكبر سنِّه عام 1948م، عُين العمدة عبد الجبَّار ناظراً لنظارة البِديريَّة، وأخيه أحمد المصطفى وكيلاً عاماً. ومنذ ذلك التاريخ تولى الناظر عبد الجبَّار إدارة شؤون نظارة البِديريَّة بعمودياتها الاثتني عشرة، ومشيخاتها التي يربو عددها على الثلثمائة مشيخة. وبعد فترة توليه النظارة وصفه السيِّد قوين بل، مفتش مركز الوسط، بأنه: "ناظر وفي، يُعوَّل عليه، وشخصية بشوشة، يدير شؤون قبيلته بحكمة وثبات، إداري كفؤ، وحاذق متطلع لرفاهية قومه". وبموجب هذه التوصية تمَّ منح الناظر عبد الجبَّار كسوة شرف من المرتبة الأولى، ووسام تتويج الملك أليزبيث، وذلك في عام 1952م.
هكذا ترقى الناظر عبد الجبَّار في سُلّم إدارة نظارة دار البِديريَّة، وشهد له الإداريون البريطانيون بالكفاءة الإدارية، والحنكة المهنية في تصريف شؤون الدار، وبفضل ذلك العطاء المشهود ظل في منصبه ناظراً لنظارة دار البِديريَّة إلى أن حُلت الإدارة الأهليَّة عام 1970م، وذلك بموجب قرار أصدره مجلس قيادة "ثورة مايو" الذي برر إجراء الحل بجملة من التهم والأسباب الطاعنة في كفاية مؤسسات الإدارة الأهليَّة، والتي يمكننا أن نجملها في يلي:-
إن الإدارة الأهليَّة أسلوب حياة جامد، بنى مجده على جهل رعاياه وعزلهم عن الحركة العامة في المجتمع.
إنها امتداد طبيعي للتربية الاستعمارية، ووسيلة متخلفة للحكم فات أوانها.
إن نفوذ رجالها الإداري والقضائي والأمني يؤثر سلباً على التجربة الديمقراطية.
إنها أداة استعمارية تقوم على الاستبداد الفردي ومعاداة الوعي العام في المناطق الريفية.
إن تاريخها ارتبط بالرشاوى والأتاوات واستغلال الموارد المحلية.
وبناءً على هذه المبررات جاء قرار الحل الذي أفضى إلى توزيع سلطات الإدارة الأهليَّة بين مجالس الحكم المحلي، والمحاكم الشعبية، ولجان تطوير الريف، ووحدات الاتحاد الاشتراكي. إلا أن الممارسة العملية أثبتت عجز هذه المؤسسات البديلة من سد الفراغ الذي أحدثه قرار حل الإدارة الأهليَّة في مديرية كردفان ودارفور بصفة خاصة. وتمَّ حصر أوجه القصور في القضايا التالية:-
أولاً: مجالس الحكم الشعبي المحلي بحكم الفلسفة التي وضعها الدكتور جعفر محمد علي بخيت لم تكن بديلاً عملياً لأجهزة الإدارة الأهليَّة، بقدر ما كانت أوعية إدارية-سياسية لتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في مناطق الحضر والريف.
ثانياً:  الضباط الإداريون بحكم تأهيلهم الأكاديمي وثقافتهم لم يكونوا بديلاً مناسباً لزعماء العشائر، بل كانوا موظفي خدمة مدنية، يتصرفون بحرفية القوانين، ويخضعون للنقل من مكان إلى آخر، الشيء الذي جعلهم أقل استيعاباً لدقائق البيئات المحلية التي كانت تحكم مسارات حركة المجتمعات الريفية.
ثالثاً: إقرار مبدأ الفصل بين السلطتين القضائية والإدارية بالرغم من وجاهته النظرية لم يسهم في تحقيق العدالة المرجوة، بل أبطأ بسيرها، وأفقد المحاكم الشعبية والأجهزة الإدارية مصداقيتها في نظر إنسان الريف الذي لا يدرك كنه القيمة الكامنة وراء مبدأ الفصل بين السلطات.
رابعاً: استبدال العرف والسوالف بالقوانين الوضعية ضيق دائرة الإقناع الطوعي الذي يحقق الود والتعاون، ويضمن لمجتمع الريف أمنه وسلامته، علماً بأن الأحكام القضائية والإدارية التي تستند إلى قوة الإلزام النابعة القيمة العقابية الوضعية لم تحظ بقبول مواطني الريف.
خامساً: سوء المواصلات ووسائل الاتصال عاق سير أعمال مجالس الحكم الشعبي المحلي وأقعدها عن رسالتها التي تنادى بتوسيع دائرة المشاركة الشعبية.
واستناداً إلى هذه الأسباب وغيرها فقد انفرط عقد الأمن القبلي من مناطق الرحل وشبه الرحل، وتدنت إيرادات الضرائب المحلية والعوائد، وزادت مصروفات الفصل الأول (مرتبات الموظفين وأجور العمال) على حساب الفصل الثاني الخاص بالخدمات والتنمية. ومن ثم فإن هذا الواقع قد دفع حاكم إقليم كردفان آنذاك، الفاتح بشارة، إلى إعادة مؤسسات الإدارة الأهليَّة عام 1984م تحت اسم "الإدارة الذاتية في ظل الحكم المحلي"، وبموجب هذا الإجراء الاستثنائي الذي وافق عليه السيِّد رئيس الجمهورية، جعفر محمد نميري، أُعيد تعيين الناظر عبد الجبَّار معاوناً إدارياً لمنطقة وسط كردفان بصلاحيات وأمنية محدودة، وشأنه في ذلك شأن زملائه من زعماء الإدارات الأهليَّة في كردفان.
وبعد سقوط حكومة مايو عام 1985م، أجمعت أحزاب الحكومة الديمقراطية على ضرورة إعادة بناء الإدارة الأهليَّة بسلطات إدارية وأمنية وقضائية في مناطق الرُّحَل وشبه الرُّحَل والحدود، وبسلطات إدارية وأمنية وشبه قضائية في المناطق الريفية المستقرة. وفي إطار هذه التعديلات تمَّت إعادة تعيين الناظر عبد الجبَّار حسين زاكي الدين ناظراً على نظارة البِديريَّة، بصلاحيات إدارية وأمنية وشبه قضائية. وقبل أن يمارس الناظر مهامه الوظيفية سقطت الحكومة الديمقراطية، ثم جاءت حكومة الإنقاذ وأقرت تعيين الناظر عبد الجبَّار، إلا أنها عدلت لقبه الوظيفي إلى أمير لإمارة البِديريَّة، تمشياً مع مصطلحات المشروع الحضاري، وعينت ابن أخيه الأستاذ الزين ميرغني حسين زاكي وكيلاً للإمارة. وكسباً لود الناظر ونفوذه الواسع في المنطقة، منحته حكومة الإنقاذ وسام الجدارة والخدمة الطويلة الممتازة، وميدالية ذهبية في مؤتمر تنمية محافظة شيكان. وبهذه الكيفية اختتم عمنا الناظر، كما يخاطبه أهل نظارته، سيرته مع الإدارة الأهليَّة برتبة أمير لإمارة البِديريَّة في وقت كان الساسة السودانيون يتصارعون حول السلطة المركزية وكيفية تحديد مساراتها السياسية في الريف وفق أنساق جديدة تكون الكفَّة الراجحة فيها للتنظيمات السياسية الموالية لحكومة الإنقاذ.
الناظر عبد الجبَّار والحكم المحلي
تزامن تعيين عبد الجبَّار ناظراً للنظارة البِديريَّة مع سياسة الحكومة الجديدة، الرامية إلى توظيف مؤسسات الإدارة الأهليَّة في إطار حكم محلي يرضي تطلعات الحركة ا لوطنية الوليدة في مناطق الحضر ويكسب تأييد زعماء العشائر في الأرياف والبوادي. انتدب لهذه المهمة الخبير البريطاني لشؤون الحكم المحلي الدكتور مارشال الذي وضع تقريراً ضافياً عام 1949م عن المبادئ الأساسية التي يجب أن يقوم عليها نظام الحكم المحلي في السودان. وعلى هدي هذا التقرير صدر قانون الحكم المحلي لسنة 1951م، والذي بموجبه نُظمت العلاقات الرأسية والأفقية بين الإدارات الأهليَّة ومجلس الحكم المحلي خلال فترة تربو على عقدين من الزمان.
 وبموجب هذا القانون ألغى الحاكم العام السلطات التنفيذية والمالية التي مُنحت للناظر عبد الجبَّار في إطار قانون إدارة مناطق الأرياف لسنة 1937م، ثم تمَّ تأسيس مجلس دار البِديريَّة بسلطات استشارية وتنفيذية محدودة. وعُين الضابط الإداري محمد عبد الحفيظ سكرتيراً ورئيساً للمجلس، والناظر عبد الجبَّار نائباً للرئيس، أما أعضاء المجلس فكان جلهم من رجال الإدارة الأهليَّة. وفي هذه المرحلة التأسيسية كانت مهمة رئيس المجلس وسكرتيره تتبلور في السيطرة التدريجية على السلطات التنفيذية والمالية التي كان يمارسها الناظر تحت قانون 1937م، وتنوير أعضاء المجلس بفن الحكم المحلي ومزاياه الديمقراطية، إلا أن سطوة رجال الإدارة الأهليَّة على الجهازين التنفيذي والتشريعي قد أقعدت الضابط التنفيذي عن أداء الدور المناط به، أو الأحرى وجد الضابط نفسه في صراع مع الناظر ومعاونيه. ولم يكن مثل هذا الصراع قاصراً على مجلس دار البِديريَّة، بل واجه معظم الضباط الإداريين السودانيين الذين بدأوا حياتهم العملية رؤساء وسكرتيري مجالس محلية ناشئة في مناطق يكثر فيها ثقل الإدارة الأهليَّة. ففي دار حمر مثلاً هاجم مفتش المركز عبد القادر حاج الصافي رجال الإدارة الأهليَّة، وانتقد عضويتهم في المجالس الريفية، بحجة أنها تعارض سياسة الحكومة المحلية الرامية إلى توسيع دائرة المشاركة الشعبية، وإقرار مبدأ الفصل بين السلطات الإدارية والتشريعية، بل ذهب أبعد من ذلك عندما نادى بحل الإدارة الأهليَّة تدريجياً بدعوى أن المستقبل يجب أن يكون لصالح المجالس المحلية وديمقراطية العمل الإداري من المناطق الريفية.
 بعد أن نال السودان استقلاله عام 1956م وجد اقتراح الضابط الإداري عبد القادر حاج الصافي وبعض رصفائه في الأرياف نوعاً من القبول عن القيادة السياسية في الخرطوم، لكن قبل أن يوضع موضع التنفيذ سقطت الحكومة الديمقراطية وتولت حكومة نوفمبر 1958م زمام الأمور السياسية والإدارية في البلاد. وسعياً وراء كسب سند شعبي لها في الأقاليم أبدى المجلس العسكري الحاكم تعاطفاً واضحاً مع زعماء الإدارة الأهليَّة الذين فقدوا الثقة في "أفندية الخرطوم".
 وفي ظل الحكم العسكري الجديد رُفِّع مجلس دار البِديريَّة إلى مجلس ذي سلطات تشريعية وتنفيذية، ثم انتخب الناظر عبد الجبَّار رئيساً للمجلس لثلاث دورات متعاقبة (1959-1970م)، وأوكلت إليه أيضاً رئاسة اللجنة المفوضة، واللجنة المالية، ولجنة شؤون العاملين والأفراد. أما عضوية المجلس فكان قوامها رجال الإدارة الأهليَّة مع قلَّة من الموظفين والمعلمين والتُجَّار. وبهذه النقلة النوعية أضحى الناظر عبد الجبَّار رئيساً للسلطة التشريعية والقضائية والإدارية في دار البِديريَّة. وظل جالساً على قمة السلطات الثلاث إلى أن حُلت الإدارة الأهليَّة عام 1970م، وقُسم مجلس دار البِديريَّة إلى ثلاثة مجالس ريفية، شملت مجلس شعبي ريفي أم عشيرة، ومجلس شعبي ريفي أبوحراز، ومجلس شعبي ريفي كازقيل.
الناظر عبد الجبَّار وقيادة الأنصار
شهدت الفترة بين 1915م و1926م مسلكاً متسامحاً من الإدارة البريطانية تجاه كيان الأنصار، ويعزي البروفسور حسن أحمد إبراهيم هذا التحول إلى مجاهدات السيِّد عبد الرحمن المهدي ومراوغته للحكومة لتحقيق بعضاً من طموحاته السياسية، وإلى الواقع السياسي الذي فرضته ظروف الحرب العالمية الأولى وإفرازاتها السياسية في المنطقة. وقد تجلى استغلال السيِّد عبد الرحمن لهذا الانفراج السياسي في إنشاء شبكة من الوكلاء (أو المناديب) في أماكن ثقله السياسي في مديريات كردفان ودارفور والنيل الأبيض والنيل الأزرق، وكانت هذه الشبكة بمثابة الأداة التنظيمية الأساسية التي أسهمت في مد جسور الترابط بين الأنصار وتعزيز الهيكل السياسي لحزب بالأمة لاحقاً.
 وفي ظل هذا التحول السياسي تمَّ تعيين الناظر حسين زاكي الدين رئيساً لشبكة مناديب كردفان، ثم خلفه على المنصب ذاته ابنه عبد الجبَّار الذي استطاع أن يوظف هذه العلاقة الرأسية مع إمام الأنصار والأفقية مع زعماء عشائر كردفان في تمكين نفوذ أولاد زاكي الدين على الصعيدين المحلي والقومي. ولا يعني ذلك أن الناظر عبد الجبَّار كان طامعاً في تولي المناصب القومية كناظر عموم المسيرية بابو نمر على ا لجلة، بل كان حريصاً على توظيف هذه العلاقة الرأسية في أحكام قواعد اللعبة السياسية داخل البِديريَّة التي كان دائماً يشبهها بـ "جلد النمر"، لأنها كانت تتكون من مجموعات قبلية وأقليات عرقية مختلفة، ليس بينها رباط دم مباشر سوى عصبية الدار وعقيدة الرباط المهدوي.
 وبفضل نفوذ الناظر عبد الجبَّار في المنطقة وعلاقته الرأسية مع الإدارة البريطانية وإمام الأنصار حصل أخيه ميرغني على أغلبية أصوات الناخبين للجمعية التشريعية بمديرية كردفان عام 1948م، ومنذ ذلك الوقت أضحى ميرغني مرشحاً دائماً لدائرة البِديريَّة في أية انتخابات ديمقراطية عقدت في السودان، وعلى المنوال ذاته كان الممثل السياسي لحزب الأمة في وسط كردفان. في الخرطوم قام النائب ميرغني بدور محوري في مفاوضات حزب الأمة مع الحكومة المصرية، وكان من ضمن الأصوات القوية التي كانت تنادى بـ "السودان للسودانيين"، داخل أروقة الجمعية التأسيسية، وهو صاحب الاقتراح الشهير الذي أفضى إلى قيام الحكم الذاتي وتقرير المصير. ولا عجب أن هذا الدور أهلَّه ليكون نائباً دائماً لحزب الأمة في دار البِديريَّة، ووزيراً للزراعة والغابات لمدة عامين (1967-1969م). وبعد المصالحة الوطنية انتُخب نائباً لمجلس الشعب القومي لدورتين، ثم اختير رئيساً لمجلس الشعب الإقليمي بكردفان.
 وبهذه الكيفية كان السيِّد ميرغني حسين زاكي الدين يمثل حلقة وصل فاعلة بين أخيه الناظر وقيادة الأنصار من جهة، وبين الناظر والجهاز التنفيذي من وجهة أخرى. فلا جدال أن هذه الوضع قد أكسب الناظر ثقلاً إدارياً وسياسياً داخل النظارة، وجعل له اليد العليا في حسم صراعاته السياسية مع خصومة التقليديين أمثال العمدة الزين عبيد الحاج زعيم البِديريَّة الدهمشيَّة، والعمدة البدوي مدني الطاهر أحد وجهاء البِديريَّة أولاد نعميَّة. 
الناظر عبد الجبَّار واتحاد زعماء العشائر
بعد الاستقلال واجه زعماء العشائر انتقادات حادة من النُخبة المثقفة في الخرطوم، والتي وصفتهم بالأمية والجهل بأصول الإدارة وأهدافها، ووصفت مؤسسات الإدارة الأهليَّة بالتخلف وعدم مواكبة بناء الهيكل الوظيفي لدولة السودان المستقلة. وعند هذا المنعطف انقسمت النخبة المثقفة إلى تيارين، أحدهما متشدد ينادي بالحل الفوري لمؤسسات الإدارة الأهليَّة، لأنها من وجهة نظره عقبة كأداء في سبيل بث الوعي السياسي وسط القطاعات الجماهيرية في الريف، وآخر معتدل ينادي بفصل السلطة القضائية من السلطة الإدارية، وبموجب ذلك يتم حرمان النُظَّار من الاشتراك في عضوية مجالس الحكم المحلي بصفتهم قضاة لا إداريين، والعُمد من رئاسة المحاكم الأهليَّة لمراعاة لوضعهم الإداري.
 فلا غرو أن هذا التوجه أحدث ردود فعل متفاوتة الأثر في الأرياف والبوادي، وكان أشدها وقعاً رد فعل زعماء عشائر كردفان الذين عقدوا مؤتمراً قبلياً بمدينة الأبيض في العاشر من فبراير 1957م، وناقشوا فيه وضع الإدارة الأهليَّة في ظل النظام الديمقراطي الذي كان قائماً آنذاك، وخلصت مداولاتهم إلى تكوين اتحاد زعماء عشائر كردفان برئاسة الطيب هارون، ناظر عموم الجوامعة، وسكرتارية الطيب آدم جلي، مك جبال تقلي. وفي الوقت نفسه بعث المؤتمر مذكرة لزعماء العشائر في مديريات السودان كافة، حثهم فيها على ضرورة عقد اجتماع عام في الخرطوم لمناقشة مستقبل الإدارة الأهليَّة، ومعارضة توجهات أفندية العاصمة القومية المعادية لمؤسسات الإدارة الأهليَّة. فضلاً عن ذلك رفد المؤتمر إلى الخرطوم وفداً رفيع المستوى من النُظَّار الآتية أسماؤهم:
منعم منصور، ناظر عموم دار حمر
الطيب هارون، ناظر عموم دار الجوامعة
حسن على التوم، ناظر عموم دار الكبابيش
بابو نمر على الجلة، ناظر عموم دار المسيرية
محمد تمساح سيماوي، ناظر عموم دار حامد
عبد الجبَّار حسين زاكي، ناظر دار البِديريَّة
الطيب آدم جلي، مك جبال تقلي
الأمين علي عيسى، ملك منطقة الدلنج.
في الخرطوم اجتمع هؤلاء النُظَّار مع رصفائهم من المديريات الأُخرى، وناقشوا معهم مستقبل الإدارة الأهليَّة، ثم سجلوا اعتراضهم الصريح للحكومة والمعارضة حول الدعوة إلى حل الإدارة الأهليَّة، أو تقطيعها إلى أوصال بين القضائية والحكم المحلي. وحسب رواية الناظر عبد الجبَّار أن السيِّدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني قد أيَّدا موقف رجال الإدارة الأهليَّة، وكذلك القيادة السياسية لحزبي الأمة والشعب الديمقراطي. إلا أن هذا التأييد كان مشروطاً بمساندة زعماء العشائر لحزب الأمة والشعب الديمقراطي في الانتخابات عام 1958م. قبل النُظَّار الرهان وعادوا إلى مناطقهم بروح معنوية عالية، لكنها كانت مشوبة بالحذر تجاه تصرفات السلطة الحاكمة في الخرطوم ومواقف الحزب الوطني الاتحادي والقوى الحديثة (الحزب الشيوعي والنقابات) المعارضة لمؤسسات الإدارة الأهليَّة.
وتعضيداً لهذا التحالف القبلي الطائفي ضد القوى الحديثة والحزب الوطني الاتحادي قامت الحكومة الائتلافية بتعديل قانون الانتخابات العامة ولوائحها التنظيمية على النحو التالي:-
إلغاء شرط الإلمام بالقراءة والكتابة للناخبين في دوائر مجلس الشيوخ، بحيث يحق لأي سوداني ذكر فوق الثلاثين من العمر التصويت لمقاعد مجلس الشيوخ.
تعديل قانون الجنسية لاستيعاب بعض الفئات حديثة الهجرة إلى السودان ضمن قوائم الانتخابات.
إنشاء مراكز اقتراح متحركة في مناطق الرحل لزيادة مناسيب التصويب في أوساط القبائل الرعوية.
 إلغاء مقاعد الخريجين الخمسة التي فاز بها الوطن الاتحادي والجبهة المعادية للاستعمار في انتخابات عام 1953م.
وبموجب هذه الإجراءات السياسية ذات الصبغة القانونية حصل تحالف القوى التقليدية (الطائفية والإدارة الأهليَّة) على تمثيل واسع في البرلمان في انتخابات عام 1958م وذلك على حساب الحزب الوطني الاتحادي والقوى الحديثة التي كانت تنادي بتصفية الإدارة الأهليَّة.
وبعد اندلاع ثورة أكتوبر 1964م ظهرت الدعوة إلى تصفية الإدارة الأهليَّة كواحد من الشعارات التي رفعها الشفيع أحمد الشيخ، ممثل العمال في حكومة جبهة الهيئات الانتقالية، بحجة أنها لا تمثل رغبات الشعب، لأنها خليق استعماري كان الهدف منه إخماد الحركة الوطنية، ومساندة المؤسسات الدستورية الرجعية (المجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية) التي أسسها المستعمر في أربعينيات القرن العشرين، وبعد الاستقلال ورثته الحكومات الوطنية، ولم تغير فيه شيئاً، ودعمته الحكومة الدكتاتورية العسكرية واستفادت منه لأبعد الحدود. وتأسيساً على ذلك وصى السيِّد وزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء، بضرورة "إلغاء الإدارة الأهليَّة في شمال السودان، وتوزيع كافة سلطاتها للجهات القضائية والتشريعية والإدارية." وتكوين "لجان تحقيق على مستوى كل مديرية للتحقيق مع نُظَّار ومشايخ وعُمد هذه الإدارات الأهليَّة الذين ارتشوا وأفسدوا واغتنوا، ومصادرة كافة ممتلكات من تثبت ضدهم هذه التهم وإرجاعها للشعب في مناطقهم." فالدعوة إلى تصفية الإدارة وفق المُسوِّغات التي صاغها الشفيع أحمد الشيخ كانت تهدف إلى تفتيت السلطة البيروقراطية القبلية، وإلغاء التحالف القائم بينها وبين القوى الطائفية، وبذلك تستطيع القوى الحديثة أن تسهم في بث "الوعي الديمقراطي" على الصعيد الجماهيري، وتنشيط عملية الانتقال إلى مرحلة "الاشتراكية الديمقراطية" التي يتولى قيادتها الخريجون، والعمال، والمزارعون، لأنهم يمثلون المد الجماهيري الثوري والسند الشعبي لشعارات ثورة أكتوبر 1964م. فلا جدال أن تلك الدعوة قد وجدت تأييداً في أوساط الأحزاب السياسية التي ينحصر نفوذها في المدن والمناطق الحضرية (الحزب الشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي والوطني الاتحادي)، لأن تلك الأحزاب كانت ترى في التحالف القائم بين القوى القبلية والقيادة الطائفية عقبة كأداء في سبيل بث نفوذها السياسي في المناطق الريفية، إلا أن هذا التأييد قد اصطدم بواقع المجتمع السوداني القبلي، الذي صورته بعض مذكرات محافظي المديريات الرافضة لقرار التصفية. ونستشهد في هذا المقام بموقف السيِّد سليمان وقيع الله، محافظ مديرية كردفان آنذاك، الذي وضَّح وجهة نظره حول قرار التصفية في خطاب بعثه إلى السيِّد وكيل وزارة الداخلية، وجاء في إحدى فقراته:
إنني أعارض هذا الاتجاه معارضة شديدة، لأن أي إجراء كهذا في نظري سيكون سبباً في انهيار أجهزة الأمن والإدارة بهذه المديرية. وإن زعماء القبائل في هذه المديرية [...] في حالة قلق شديد، وهم يعقدون اجتماعات متوالية، كما أن دولاب العمل الإداري يكاد يكون في حالة توقف بالنسبة لهم. وأما الحفاظ على الأمن في مناطقهم فيسير بقوة الدفع السابق، وقد يأتي الوقت الذي ينهار فيه تماماً بانهيار مقومات الجهاز القبلي، خاصة في مديرية شاسعة ككردفان، تكوِّن القبائل فيها أكثر من 95% من سكانها. 
وفي الاتجاه ذاته تحرك زعماء الإدارة الأهليَّة وعقدوا اجتماعاً طارئ بمدينة الأبيض في يوم الجمعة الموافق 12 فبراير 1965م، ولخص محافظ مديرية كردفان وقائع ذلك الاجتماع في رسالة تلغرافية لوزارتي الداخلية والحكم المحلي، جاء فيها:-
زعماء العشائر الذي حضروا لاحتفالات جلالة الملكة بالأبيض وعددهم 27 وضعوا اللمسات الأخيرة لاتحادهم وكونوا لجنة من 27 عضواً برئاسة عبد الجبَّار حسين الزاكي الدين، ناظر البِديريَّة، وسكرتارية الطيب هرون، ناظر الجوامعة – قف- الاتحاد يمثل كل قبائل كردفان- قف- سيقوم وفد منهم باكر لرفع مذكرة للسيد رئيس الوزراء وللمسئولين في الحكومة بوجهات نظرهم ومطالبهم فيما يتعلق بتصفية الإدارة الأهليَّة وفصل القضاء عن الإدارة- قف- أرسلوا مذكرات لزعماء القبائل في المديريات الأخرى لتكوين اتحادات مماثلة وربطها باتحاد عام.
أما مذكرتهم للسيد رئيس الوزراء فقد كانت شديدة اللهجة، حيث وضعوا النقاط فوق الحروف بقولهم:-
إنهم يمثلون الإقليم، ويتكلمون باسم قبائله ومواطنيه، وإن غرضهم هو استقرار القبائل وإسعادها.
إنهم يشكلون أهم عنصر بالنسبة للدولة في جمع الضرائب، وحفظ الأمن، وخلق الطمأنينة بين المواطنين، وإن هذه الأعمال يستحيل تأديتها دونهم.
إن المواطنين يثقون فيهم، وأظهر دليل على ذلك إن رئيس القبيلة ينتخب رئيساً في كل مجلس، وفي أغلب الأحيان دون منافس.
إن العرائض التي قدمت ضدهم لا تخدم أي غرض خلاف إثارة الضغائن، وإنها لا تحمل سوى أغراض حزبية ضيقة.
إنهم لا يمكنهم تأدية واجباتهم على الوجه الأكمل ما لم يطمئنوا لوضعهم، وإن زعزعة الثقة المتبادلة الآن بين زعماء القبائل وأفرادها، أو التقليل من قيمة الزعماء، ستكون نتيجته الأضرار بالوطن وخسارة لا يمكن تعويضها.
إنهم يعارضون فصل القضاء عن الإدارة، لأنه سيخلق بلبلة تتسبب في انهيار الجهاز الإداري، ويرون إجراء الدراسة أولاً في ضوء واقع القبائل.
إن وقت تصفية الإدارة لم يحن بعد، حيث إن بعض القبائل لا زالت تعيش في انعزال تام عن باقي المجتمع.
وفي خاتمة مذكرتهم طالبوا السيِّد رئيس مجلس الوزراء أن يرد عليهم في مدة أقصاها شهراً من تاريخ تسليمها، وفي حالة العدم سيقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة، وطالبوه أيضاً بإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها المحدد دون تأخير.
في أثناء فترة إقامتهم بالخرطوم التقى زعماء عشائر كردفان بوفود المديريات الأخرى، وكوّنوا سوياً اتحاد زعماء السودان، الذي تكونت لجنته التنفيذية من خمسة عشر عضواً. وانبثقت عن تلك اللجنة أربع لجان فرعية كلفت بمناقشة ما جاء في بنود مذكرة اتحاد زعماء عشائر كردفان مع الحكومة وقيادة الأحزاب السياسية. وكُلفت اللجنة التي يرأسها الناظر عبد الجبَّار حسين زاكي الدين بطرح ما جاء في مذكرة زعماء العشائر على الإمام الهادي المهدي، وتلك التي يرأسها الناظر سرور محمد رملي بطرح الموضوع على السيِّد علي الميرغني، والتي يرأسها يوسف العجب بالتفاكر مع السيِّد الصادق المهدي، والتي يرأسها الطيب هارون بمناقشة السيِّد إسماعيل الأزهري. فحسب إفادة الناظر عبد الجبَّار جاء رد السيِّدين مؤيداً لطرح لزعماء الإدارة الأهليَّة، ووعداهما بتوجيه نوابهما في البرلمان للتصويت ضد اقتراح حل الإدارة الأهليَّة أو فصل السلطة القضائية عن السلطة الإدارية، أما السيِّد الصادق المهدي فوعدهم بتطوير مؤسسات الإدارة الأهليَّة، أما السيِّد إسماعيل الأزهري فكان أقل تجاوباً مع مطالبهم الفئوية.
وعلى حد قول الناظر عبد الجبَّار، إن الخطوة الثانية التي اتخذها الاتحاد ضد موقف الحكومة المتذبذب كانت تتمثل في إضراب رجال الإدارة الأهليَّة عن تقدير الضرائب المحلية وتحصيلها، وعدم التعاون في ضبط الأمن والنظام العام، وتجميد أنشطتهم في المجالس المحلية. فلا شك أن هذه الخطوة كانت ذات أثر فاعل في مديرية كردفان على سبيل المثال، حيث أنها ولَّدت نغمة قوية في أوساط الضباط الإداريين الذين عارضوا اقتراح حل الإدارة الأهليَّة، أو فصل السلطات القضائية عن السلطات الإدارية، وحسبوه اقتراحاً غير ناضج ومدروس. وقد ساند هذا التوجه كبار الإداريين بوزارة الحكومة المحلية في الخرطوم وبعض العاملين في وزارة الداخلية، وخاصة عندما شعروا بتدهور الوضع الأمني في بعض مديريات السودان، وتدني التحصيل الضريبي في المجالس المحلية. ونتيجة لهذه الضغوط أصدرت الحكومة في الخرطوم عدداً من القرارات بشأن موضوع الإدارة الأهليَّة، اتسم معظمها بالتراجع والاستجابة إلى ضغوط زعماء العشائر الذين كانوا يمثلون السند السياسي للأحزاب التقليدية في الأقاليم. وتبلور آخر هذه القرارات في تكوين لجنة قومية لتقوم بإعداد دراسة علمية بشأن تطوير مؤسسات الإدارة الأهليَّة وتحديثها. وبعد أن فرغت تلك اللجنة من مهمتها، ظلت توصياتها قيد الدراسة والتمحيص إلى أن سقطت الحكومة الديمقراطية في 25 مايو 1969م، وحُلَّت الإدارة الأهليَّة في العام الذي يليه.
الناظر عبد الجبَّار ومؤتمرات الصلح القبلي
كان الناظر عبد الجبَّار أجواداً حاذقاً لمع في محافل المؤتمرات القبلية، ولجان الصلح القبلي في كردفان ودارفور، وذلك لإلمامه الواسع بالأعراف والسوالف التي اصطلح الناس عليها في تنظيم علاقة الفرد بالقبيلة، وعلاقة القبيلة بأجاويدها والغرباء القاطنين في كنفها، وقضايا الأرض والنزاعات التي كانت تدار حولها. هكذا كان العرف مرجعاً لأهل الريف في فض الخصومات، يحفظه الأجاويد عن ظهر قلب، ويحتكم إليه الأفراد في تنظيم شؤونهم الحياتية، بما في ذلك تنظيم حق المرعى والترحال نشوقاً أو دمراً، وحق استعمال الأرض وحيازتها وتعاقب الحائزين عليها، وحق الاستفادة من موارد المياه، وقضايا الأحوال الشخصية والديَّات.
 كان الاحتكام لهذه الأعراف والسوالف يعتمد على قوة الإقناع الطوعي ومكانة الأجواد بالنسبة لطرفي الخصومة. ومن شروط الأجواد أن يكون ملماً بأعراف المنطقة، و"فسلاً" في إصدار أحكامه، أي عدلاً يسعى لنصرة أي من طرفي الخصومة ظالماً ومظلوماً، ظالماً يرده عن ظلمه، ومظلوماً يعيد إليه حقه المسلوب. وبمثل هذه المؤهلات استطاع الناظر عبد الجبَّار أن يشترك في معظم مؤتمرات الصلح القبلية التي عُقدت بمديرية كردفان والمديريات المجاورة لها، ونذكر منها:
مؤتمر الصلح بين الدينكا والمسيرية، أبيي.
مؤتمر الصلح بين فرعي المسيرية الفزاريا وأولاد هيبان، الفولة.
مؤتمر الصلح بين الحمر والزريقات، الدلنج.
مؤتمر الصلح بين أولاد حميد والأحامد، رشاد.
مؤتمر الصلح بين أولاد حميد وسليم، أم روابة.
مؤتمر الصلح بين التعايشة والسلامات، نيالا.
مؤتمر الصلح بين فلاتة وقمر ومماريت، نيالا.
مؤتمر الصلح بين قبائل شمال غرب كردفان وشمال شرق دارفور، مليط.
مؤتمر الصلح بين المسيرية والكواهلة، أبوزبد.
مؤتمر الصلح بين حمر والمجانين، النهود.
مؤتمر الصلح بين الزريقات والجلابة الهوارة، العديد.
مؤتمر الصلح بين بين ا لمسيرية والنوبة، لقاوة.
مؤتمر الصلح بين المعاليا والرزيقات، الضعين-نيالا.
خاتمة
يمثل هذا المقال طرفاً من سيرة الناظر عبد الجبَّار حسين زاكي الدين وأبناء جيله من "أحفاد الهزيمة" الذين تجسد فيهم الصراع بين قيم المجتمع الرعوي-الزراعي والمجتمع المتحضر الذي تعددت أساليب الحياة فيه وتباينت الولاءات السياسية. وبمرور الزمن تشعب هذا الصراع ونما تبعاً لنمو القوى القطاعية (الرعاة، المزارعين، التجار، العمال، المهنيين، الطائفية) التي استطاع المستعمر أن ينظم مسار حركتها داخل مداراتها الوظيفية، يخضعها خضوعاً مباشراً لسلطانه السياسي ورقابته النافذة.
 بيد أن فترة ما بعد الاستقلال شهدت ارتباكاً في مدارات هذه القوى القطاعية، وزادت حدة هذا الارتباك عندما عجزت القيادة السياسية الجديدة عن خلق قنوات تفاعل بين القديم الموروث والجديد المستحدث، ثم إفساح المجال لتبادل الخبرات بطريقة تسهم في خلق نوع من الشعور بالرضا الذي يجعل جميع أطراف الصراع يحسون بأنهم شركاء في المسؤولية التضامنية وصياغة القرار. فلا جدال أن غياب مثل هذه الآليات أدى إلى تقوقع النظام الديمقراطي الوليد، وعلى النسق ذاته أفضى إلى تصفية الإدارة الأهليَّة دون بديل مناسب. لهذا فقد كان قرار التصفية ضرباً من ضروب التخبط السياسي غير المدروس. ثم جاء قرار إعادة الإدارة الأهليَّة في أقاليم السودان التي انفرط فيها عقد النظام والأمن القبلي مؤشراً آخر للتخبط في صياغة القرارات الإدارية أيضاً.
 الآن أُعيدت الإدارة الأهليَّة لتعمل جنباً إلى جنب مع المؤسسات الإدارية والقضائية والضبطية البديلة، إلا أنها لم تفلح في سد الفراغ الأمني والقضائي والإداري في مناطق الرُّحَل وشبه الرُّحَل. فهل يُعزى هذا الفراغ الإداري والأمني والقضائي إلى عدم فاعلية مؤسسات الإدارة الأهليَّة بوضعها الحالي؟ أم إلى عجز المؤسسات البديلة عن أداء الدور المناط بها؟ أم إلى ضعف البناء الهيكلي الذي ينظم طبيعة العلاقات الرأسية والأفقية بين هذه الأجهزة البديلة ويحكم مسارات اختصاصاتها الوظيفية؟ أم إلى ضعف تأهيل العاملين في الحقل الإداري والأمني والقضائي الذين حجبهم الولاء السياسي عن فهم دقائق البيئات المحلية التي تحكم حركة المجتمع الريفي وتوجهاته؟ وتأتي هذه التساؤلات في خاتمة هذا المقال بمثابة دعوة إلى الحوار الموضوعي والهادف من أهل الخبرة والدراية بشؤون الحكم المحلي ليدلوا بدلوهم فيه، ويسهموا في تثقيف هذه القضية المحلية ذات البُعد المركزي، ومركزيتها تتجلى في أن حل الإدارة الأهليَّة كان واحداً من الأسباب التي شكلت طرفاً من سيناريوهات مشكلة دارفور العصية التي ألقت بظلالها على هيبة الدولة القُطرية في السودان.  

 

آراء