النبوءة

 


 

 

د. عمر عباس الطيب

umeraltayb248@hotmail.com
قالوا بكم؟
- 550 لا زيادة ولا نقصان.
- اتوكل على الله ، قلتها والعبرة تأبى أن تبارح سقف حلقك، ترى ما الثمن الذي يجب أن يدفعه أحدنا ليصل إلى حقيقة الأشياء وجوهرها؟ طاف ذلك بخيالك في لحظة تجلي نادرة، بعد أن جلب الألم عليك بخيله ورجله، وأنت ممدد في تلك المساحة البيضاء كبياض رأسك؛ بعد أن ضُرب عليك سجن الجسد، ها أنت تنشد اللطف، .. قابع في تلك البقعة بين سراب الأمل وقيعة القنوط، مشوش الفكر ..كيف ترفع يديك إلى السماء وأنت من أنت!.. لكنك تستدرك بعد أن تطرد وساوس اللعين.. وكيف لا تدعوه وهو من هو؟

محاولاتك اليائسة لكبح جماح رغبة ملحة بالبكاء تكسرت نصالها، تذكر ذلك اليوم حين رأيتها في أحضان سوق السبت، لفت انتباهك طائر القمري بعد أن حط على ظهرها؛ والذي طالما تفاءلت به، وورثت محبته من عيني جدتك وابتسامتها ، لكنك لا ترى أي منطق أن تناجيه وتحاوره كما تحاور أبناء جلدتها، قال أقرانك في السوق إنها صفقة لا طائل منها، فهي ليست بالتي تسر الناظرين بعد أن استطالت أظلافها، وكدت أن تعود أدراجك، لكنك ما أن رأيت ذلك البريق في عينيها ، كأنه انعكاس للشمس على صفحة النيل، حتى سارعت بإتمام الصفقة دون تلكؤ، وكأن ذلك البريق هو ما دفعك للانعتاق من رحم الغابة الاسمنتية، والذهاب مغاضبا إلى أحضان الريف.
هناك على تخوم النيل وعبق جروفه، تلك البقعة التي طالما غاصت عميقاً في عقلك الباطن ، بثوب يستر منتصف ساقيك الطفوليتين، وتحت السدرة العملاقة التي تتخلل أغصانها أشعة الشمس؛،كأنها شلال ضوء في لوحة سريالية، تملأ مخابئ ثوبك من حبات النبق الذهبية، فتقسمها مناصفة هذه للجدة وهذه لي ولأمي، يزعجك انغراس بعض الأشواك الصغيرة؛ فتطلق صرخة مكتومة، يعبس وجهك لبرهة، وحين تذكر وجه الجدة بجتاحك الفرح من جديد، تنشد في غبطة أغنية لبابكر ود السافل(الليلة البنات حفلن.. ستات الصفات.. فوق الحرير جلسن.. زادن ناري) تقفز منتشيا بعدها في الهواء؛ كأنك أحد فرسان كوش العظماء، ملوحا بيدك عاليا بعد أن يفرقع الصوت بين سبابتك والوسطى؛ فتتناثر حبات النبق بعد أن سكرت نشوة ووجدا.
ها أنت هناك تنتظر الجدة بشغف الطفولة، تحدق بصبر نافذ تجاه الغابة الكثيفة، يتراءى لك الطيف العلوي لقفتها من على البعد، تستطيل قليلاَ على مشطي قدميك، وحين تتأكد أنها هي، يراودك ذلك التشبيه من جديد، تضحك في صمت؛ تبدو جدتك من بعيد كنملة ينوء كاهلها عن ذلك الحمل الثقيل، تحملك قدمي البراءة نحوها مسرع الخطى، لكن رأسها المدفون أسفل تلك القفة؛ لا يستجيب راداره حتى تقترب منها، وحين تبصرك وتتعرف على سحنتك؛ يسطع ذلك االبريق من عينيها، كأنهما فردوس فسفوري، ويسفر محياها عن تلك الابتسامة التي تنظرها، فتضيء أخاديد وجهها ونتؤاته، فتغمرك سعادة تسع كل الكون، تسير في غبطة أمامها ،لكن وجهك مثبت على محياها، تعتقد جازما أن السعادة هي جدتك ذاتها.
تفتح باب الفناء الخارجي فينفتح قلبك على مصراعيه، تقفز في مرح طفولي تبشر النسوة بقدومها، بعد أن أعددن متكئا لقهوة منتصف الظهيرة، في تلك البرنده الفسيحة ذات السقف المنسوج من جريد النخيل، والتي تعلوها فتحات بلا نوافذ، تسمح لطائر القمري بالوقوف عليها ومناجاة الجدة، فتخرج عليهن وهي في كامل ابتسامتها، وتطلق قهقهتها المجلجلة،.. متبوعة بلسان حمد يقول : (الحمد آلاف والشكر آلاف، محمود القوي)، فتبادلها النسوة القهقهة في نشوة وسعادة، تفسح لها النسوة المجلس فتتخذ مجلسها، وتتخذ مجلسك في أحضان حجرها، تناوشك إحداهن فتبتدر سؤالا:
- أما زلت على رأيك في الاقتران بمن تشبه وجه جدتك؟
ترفع هامتك باتجاه وجه الجدة؛ بالكاد ترى ذقنها المدبب وأخاديد الشيخوخة على صفحة وجهها، فتنقلب ببصرك ناحية السائلة، تفتح حدقتيك عن آخرهما وتومئ بالايجاب.
- سيطول بحثك لا محالة، وستقضي بقية حياتك بلا أنس ولا متعة، فما حاجتك إلى عجوز شمطاء!؟
فتنفجر ضحكة هستيرية من أفواه النساء، تشيع في المكان أجواء البهجة والسرور.
تسابق أقرانك عند شجرة اللالوب، تقف على خط متعرج خطته قدم صغيرة على أديم الأرض، وعند إشارة الانطلاق تعدو على ظل الريح، بالكاد تلامس الأرض قدماك، وحيدا تنفرد بالصدارة، يغمرك شعور بالسعادة يملأ الأفق، تضحك لا شعوريا على الصبية الذين لم يصلو بعد لنقطة النهاية، يحاول الصبية وأد فرحك، يتهمونك بالغش، يحزنك ذلك فيصبح وجهك حياديا، لكنك تستعيد كبريائك بابتسامة البطل؛ بعد أن تجردهم من ادعائهم، تحمل قميص بشارة النصر لجدتك في زهو، لكنها تحذرك أن تقترب من شجرة اللالوب، تقول الجدة أن الخطر جاثم هناك من آلالاف السنين، استوطن غياهب اللالوبة ككائن اسطوري، وعليك أن لا تقترب منها أبدا.
المطر الأسود يهطل بغزارة على الأموات، لكنك لا تراه في حلكة الليل، منهمك في عملك الدؤوب كنحلة، تفتح المسارب لماء الحياة، تتسارع نطفه لتروي رحم الأرض، وأنت من أنت كشجرة موات ،لم تجد نفسك الأخرى في المودة والرحمة،.. تمني النفس بمحصول وفير، روحك تجتهد أكثر لتقاوم رهق الجسد وكبده،.. القرابين تذبح عكس اتجاه القبلة، يُنجس الدم القاني المنبجس من أضحية سوداء، يُفتح أحد الأجداث، يخرج دخان ناري يتكاثف أعلى اللالوبة، يتشكل كدهمة سوداء، الخطر ينزلق اتجاهك، ..يقترب أكثر..ومن ثم صرخة مدوية قطعت نياط قلب الليل؛ وأفزعت سكان الشجر.
في لحظة يأس أردت أن تحرر روحك، أن تستريح من عبء هذا الجسد، دار بخلدك سؤال:هل نحن أحرار؟ إذا كنا أحرارا كيف لا نستطيع دفع معاناة الألم! وما معنى أن نبقى أحياء بعد أن تجردنا الحياة من أسلحتنا؟ وأنت محاط بذلك القلق الوجودي، كان الغسق يعكس سطوة أشعته الصفراء المتعبة على النافذة المواربة ، كل العوامل المحيطة بك تتواطأ لتزيد من عزلتك وكآبتك النفسية، في تلك اللحظة المهيبة تسلل طائر القمري، دار دورتين في فضاء الغرفة، ثم حط رحاله ورأسه باتجاهك، كنت ترقبه بكل حواسك، لكن مما أدهشك تحول رأسه تدريجيا إلى وجه الجدة، عينيه الصغيرتين تحولت لعينيها، منقاره الصغيربدأ في التشكل كأنه ذقنها المدبب، ومن ثم كانت صلعة الجدة وجبهتها الناتئة تتشكل أعلى رأس الطائر، وجهك المتجهم العريض بدأ في الإنفراج، حاجباك الغزيران يتباعدان عن بعضها، ابتسامة مخبوءة تتشكل لا إراديا فتضيء سحنتك السمراء، ينفتح عقلك الباطن؛ فيطلق قهقهة مجلجلة يردد لسانك(الحمد آلاف والشكر آلاف، محمود القوي).
د. عمر عباس الطيب

 

آراء