النخبة في مواجهة الذات : نقد السرديات المفقودة في تحليل منصور خالد

 


 

إبراهيم برسي
3 December, 2024

 

ابراهيم برسي

‏١٧ ديسمبر ٢٠٢٣

كتاب ( النخبة السودانية وإدمان الفشل ) للدكتور منصور خالد ليس مجرد أطروحة تحليلية عن الواقع السوداني، بل هو مرآة تعكس تاريخًا مضطربًا من الإخفاقات السياسية والاجتماعية.
بهذا العمل، تجرأ الكاتب على فتح الجروح الغائرة في جسد الأمة السودانية، مستعرضًا دور النخب في تشكيل هذا الإرث المثقل بالأزمات.
ورغم قوة الطرح وجرأته ، يظل الكتاب بحاجة إلى تفكيك نقدي أعمق من ذلك، يبرز مكامن قوته، ويُعري مواطن ضعفه، مع تسليط الضوء على المساحات التي يمكن أن تُغنى لتوسيع دائرة التأثير .
و قد كان لمحمد إبراهيم نقد دور المبادرة و الريادة في ذلك و كان محمد ابراهيم نقد معروفاً بنقاشاته النقدية العميقة مع الأفكار التي تعبر عن مسارات الفكر السياسي والاجتماعي السوداني، خاصة تلك التي تتقاطع مع الماركسية وتحليل الطبقات الاجتماعية
كتاب منصور خالد يشد القارئ أولًا بلغته الأدبية الأنيقة التي تفيض بالبلاغة والرقي. لغته ليست فقط وسيلة لنقل الأفكار، بل هي ذاتها أداة تشريح فكري، تُغرق القارئ في رحلة تأملية مفعمة بالجمال اللغوي والعمق الفلسفي.
الصور البلاغية الدقيقة والنبرة التحليلية التي تتشابك مع السرد التاريخي تجعل من الكتاب تجربة أدبية وفكرية استثنائية.

كذلك، ما يميز الكتاب هو جرأته في نقد الذات الوطنية، وهي خطوة قلّ أن يتخذها كاتب من أبناء النخبة التي يتناولها بالنقد.
يعترف خالد ضمنيًا، وهو جزء من هذه النخبة، بأن الفشل ليس طارئًا، بل هو نتاج منظومة أوسع شارك فيها الجميع. ومن هنا، يتجلى التزامه الأخلاقي بالتصدي للمشكلة من الداخل.

أما من الناحية التاريخية، فإن خالد يُبدع في ربط الحاضر بالماضي، مستعرضًا جذور الأزمات التي امتدت عبر العقود منذ الاستقلال.
هذا السياق التاريخي الذي يتشابك مع التحليل السياسي يمنح القارئ فهمًا معمقًا للأسباب المتراكمة التي أدت إلى حالة التكلس الوطني.

لكن رغم كل هذا الإبداع، يظهر الكتاب وكأنه يُطارد الأشباح الفردية أكثر مما يُصارع الوحوش المؤسسية.
اذ يركز خالد على نقد الأفراد، متغافلًا في كثير من الأحيان عن الديناميكيات المؤسسية التي أنجبت هذه النخب وأعادت إنتاج الفشل جيلاً بعد جيل.

الفكر السياسي الحديث، كما في أطروحات نعوم تشومسكي وفرنسيس فوكوياما، ينبّه إلى أن النقد الحقيقي لا يستهدف الأشخاص، بل يستهدف المؤسسات التي تشكل هؤلاء الأشخاص و تعمل علي إنتاجهم .
فالأفراد زائلون، بينما المؤسسات هي التي تترك بصمتها على التاريخ.

لو أن خالد أدار سهامه النقدية نحو مؤسسات مثل الجيش و الذي افرز هذه الأزمة الحالية ، اوالنظام التعليمي و الذي كان في معظم الأحيان يخدم قضايا ايديولوجية ضيقة تعمل كحالة من غسيل المخ الجمعي للأجيال ، او لو ركز علي البيروقراطية الحكومية، لكان خطابه أكثر شمولية وعمقًا.
هذه المؤسسات، لا الأشخاص، هي التي تُعيد إنتاج ثقافة الفشل، وتضمن استمرار حلقة الإخفاقات السياسية والاجتماعية.

يبدو أن الكتاب يقع في فخ تضييق النقد على النخب السياسية التقليدية، بينما يغفل عن دور النخب الثقافية والدينية والاجتماعية في ترسيخ الأزمات الوطنية.
هذه النخب كانت، ولا تزال، شريكًا أساسيًا في تعقيد المشهد السوداني، سواء من خلال إنتاج خطاب الهوية المتشظية، أو تعميق الانقسامات الاجتماعية.

النقد السياسي الشامل يجب أن يطال كافة أوجه السلطة الناعمة، بدءًا من الإعلام والمؤسسات الدينية، وصولًا إلى الفضاءات الثقافية والتعليمية.
فهذه الفضاءات لا تقل أهمية عن المؤسسات السياسية في تشكيل هوية الأمة ومستقبلها.

في هذا السياق، يقدم الفكر العالمي نماذج مميزة لنقد مؤسسي يمكن أن يلهم قراءة جديدة للمشهد السوداني:

نعوم تشومسكي:
في نقده للنظام السياسي الأمريكي، ركز تشومسكي على المؤسسات الإعلامية والسياسية التي تُعيد إنتاج الهيمنة، معتبرًا أن الشخصيات ليست سوى واجهات لنظام أعمق.

فرنسيس فوكوياما:
يركز فوكوياما على أهمية بناء مؤسسات قوية وديمقراطية كسبيل لتحقيق الاستقرار والازدهار، مشيرًا إلى أن الفشل المؤسسي هو العدو الأكبر لأي تقدم.

إدوارد سعيد:
في نقده للاستشراق، لم يكتفِ سعيد بمهاجمة الأفراد، بل وجه نقده للمؤسسات الأكاديمية والثقافية التي أنتجت المعرفة المهيمنة على الشرق، مُظهراً كيف أن هذه المؤسسات تُعيد إنتاج التصورات عبر الأجيال.

رغم هذه المآخذ، يظل جهد منصور خالد مقدرًا. فكتابه يمثل محاولة جادة وشجاعة لفهم تعقيدات الأزمة السودانية. لقد اختار الكاتب أن يكون في قلب المعركة الفكرية، مقدّمًا رؤية ناقدة من الداخل، وهو موقف يتطلب شجاعة فكرية وأخلاقية.

كتابه ليس فقط دعوة لإعادة التفكير، بل هو أيضًا صرخة استغاثة تدعو النخب السودانية إلى مراجعة الذات والاعتراف بمسؤوليتها عن هذا الإرث المثقل بالفشل.

إن كتاب ( النخبة السودانية وإدمان الفشل ) يفتح الباب أمام خطاب نقدي جديد، خطاب يتجاوز الأفراد ليصل إلى المؤسسات. فالمستقبل لن يتغير ما لم نُغير البنى العميقة التي تُعيد إنتاج نفس الأنماط من السلوك والفكر.

إن منصور خالد وضع حجر الأساس، لكن البناء الحقيقي يتطلب رؤية أوسع وأكثر شمولًا، رؤية لا تتوقف عند حدود تشخيص المرض، بل تمتد إلى رسم معالم العلاج.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الفلسفي الأعمق: هل نستطيع تحرير أنفسنا من إرث الفشل المؤسسي؟
وهل نستطيع أن نعيد صياغة الحاضر بروح جديدة تنبثق من أنقاض الماضي؟

zoolsaay@yahoo.com

 

آراء