قرأت ضمن مطالعاتي " أن وزير الخارجية البريطاني، أرنست بيفن، أدلى في مجلس العموم، في 26 مارس 1946م، بتصريح جاء فيه بأن الحكومة ترى ان الهدف الأوحد من إدارتها للسودان هو تحسين حال الشعب السوداني، ولن يحدث أي تغيير في وضع السودان إلا بعد استشارة السودانيين عبر قنوات دستورية". ثم تشاء الأقدار بأن أقرأ في مكان أخر بأن " خبير حكم محلى غربي خاطب إدارياً سودانياً ابتعثته الحكومة السودانية في دورة تأهيلية شارحا له حدود مسؤوليته و قائلا "أنت مسئول عن المواطن قبل أن يولد بتوفير الرعاية الطبية الأولية إلى أن يعود من حيث أتى ويجد مستقرا أبديا في باطن الأرض بعد موته" . فسأل الإداري السوداني الخبير الغربي " ليه أنا أبوه" فرد الخواجة "بل أنت أكثر من ذلك." نعم "ياهداك الله" الوزير البريطاني سيء الذكر بيفن يتكلم في عام 1946م عن تحسين حال الشعب السوداني و"الخواجة" خبير الحكم المحلي يتكلم عن دور كل مسؤول سوداني في توفير الخدمات من رعاية طبية أولية وغيرها للمواطن السوداني. بينما يصرح المسؤول السوداني بأن ذلك ليس من واجب الدولة بل هو واجب الاب !!! نجد نفس تلك العقلية التي يتمتع بها الإداري السوداني بل قمتها عند الاستاذ علي عثمان طه أحد أهم رموز نظام الانقاذ والذي صرح بعد أن مضى على حكومة الانقاذ 25 عاما من السطو على السودان والتمكين للانقاذيين والاسلاميين الطفيليين أن يصرح في شهر يونيو 2015م قائلاً " الحكومة لن تستطيع أن تؤمِّن للناس "قفة الملاح" -ضروريات الحياة- ولو بقيت خمسين عاما". مبررأ بأن " ... ذلك...ليس شأنهم ولا هدفهم الأساسي في إشارة الى أن هدفهم الاساسي هو المشروع الحضاري وليس " قفة الملاح". ولعله من المدهش والمثير للغثيان المقارنة بين مايقوله ويحس به الوزير البريطاني والخبير الاجنبي نحو المواطن السوداني ومايقوله المسؤول السوداني وفوقه نائب رئيس الجمهورية الاسبق. !!! وزير الخارجية البريطاني في ذلك الزمان وهو المستعمر يحدد الهدف بأنه "تحسين حال المواطن السودان.." وبرضا المواطن السوداني عبر إستشارته عبر قنوات دستورية .
ثم يأتي بعد قرابة النصف قرن من الزمان أحد أبناء الشعب والذي أعتلى كثير من المناصب السيادية ويرفض ذلك الهدف ويحدد إن الهدف هو المشروع الحضاري وليس قفة الملاح!!! أما عن رضا الشعب فيمكن إيراد ماقاله نفس نائب رئيس الجمهورية الأسبق في شهر يوليو 2011م حين "...تعهد بقطع من اسماهم المتطاوليين على النهج والشعب والرئيس عمر البشير بحد السيف" !!!.
ولا أجد تشبيه لقول الاستاذ علي عثمان إلا في الدعاية السودانية التى تعمل "للعدس" مع إظهار شوكة وسكين بجانب العدس !!! وهذه الدعاية تستدعى إلى ذاكرتي ما يبشر به هذه الايام الدكتور الترابي ويزيده عطراً "محلبية" الاستاذ كمال عمر بالدعاية للنظام الخالف أو "تدوير الاستهبال السياسي" !!! ولعلهم لو ذهبوا في التسمية بعيدا وقالوا النظام الخالف للنظام التالف لكانت هناك بعض المصداقية والإعتراف بالفشل وإنهم أهدروا ربع قرن من الزمان من حياة الشعب السوداني في التبشير بأن الناس ستستبدل أكل العدس بأكل "الهوت دوق" فأذا بالناس لا تجد ما تسد به رمقها من القوانص أو من "البوش" -موية فول بموية جبنة -. بل لاتجد الماء "الموية" نفسها !!! رغم وجود النيل والامطار والسيول في السودان. يبقى أنه بعد العشرية الاولى 1989م -1999م للانقاذ التي "تحكر "و تمكن فيها الترابي وحكم فيها بإستبدادية وثورية إخوانية عنيفة فكان الفصل للصالح العام وكانت بيوت الأشباح وغيرها من المخازي، ثم جاءت العشرية الثانية 2000م - 2010م ، التي إنقلب فيها المريدون على "شيخ حسن"، بقيادة علي عثمان طه ونافع علي نافع مستظلين بغطاء القصر الجمهوري ومستقوين بالبشير فبشروا بالحكم الراشد، فلم يكن الامر إلا مزيداً من الحروب والدماء والفساد، ثم مضت نصف العشرية الثالثة بعد أن "تفرعن" فيها البشير وعساكره بكري وعبدالرحيم وأصبحوا يبشرون بأن القادم أحلى !!! أولى بشاراتهم هي الإكتشاف المعجزة للسيد وزير الداخلية الأسبق ثم وزير الدفاع السابق ووالي الخرطوم حالياً الفريق عبدالرحيم محمد حسين بأن أراضي الخرطوم أو "الحتات" كلها باعوها، وقبله الإكتشاف المذهل لنائب البشير السيد بكري حسن صالح بأن الفساد ينخر الدولة من رأسها لقدميها وقوله بأنه "تاني مافي زول بلقى ليه عضة". وكذلك الإكتشاف المدهش للسيدة بدرية سليمان رئيسة اللجنة القانونية بمجلس الشعب والتي يقارب عدد سنين خدمتها مع العساكر والاخوان المسلمين الثلاثين سنة، وتحدثها عن رؤيتها بإم عينيها للأموال "القروش تحمل بالشوالات" ولا تورد لخزينة الدولة !! هذه البشارات وإالاعترافات الخجولة بالفشل من قبل من هم على قمة السلطة لن يغير من الأمر شيء !!! لأنها ليست سوى سيوف خشبية مهترئة أخرجت في هذا الوقت لتصفية حسابات شخصية ولتهديد كل جوقة "من الحرامية" بأن لا تنس نصيب الذين هم في الحكم الأن وأصحاب القرار هذه الأيام من قطعة "الجاتوه" أو الخيرات السودانية المسروقة!!! الذي يهمنا ويهم الشعب السوداني اليوم هو وقف الحرب وإسكات جروح الوطن النازفة بدماء أبنائه و الإجهاض على الفتنة القبلية التي أحيت نارها حكومات الانقاذ بشهادة دكتور عبدالحليم المتعافي والي الخرطوم الأسبق. ثم فك الإرتباط التام بين هذه المجموعة الانقاذية الفاشلة بكل مسمياتها الداخلية كجبهة إسلامية أو أخوان مسلمين أوغيرها وأجهزة الدولة. هذا الأمر لن يتم ما لم يكن لهؤلاء الاسلاميون الانقاذيون بقية من نخوة ورجولة ووطنية سودانية تمكنهم من قبول نصائح أبنائهم من لدن المرحوم يسن عمر الإمام وإنتهاء بقولة د. عبدالوهاب الأفندي "ينبغي على الاسلاميين الاعتراف بالفشل والانصراف ". لقد إقترحنا في مقالات كثيرة سابقة بأن أول ما يجب فعله هو وقف الحرب مما سيؤدي لإيقاف نزيف الدماء الهادر وذلك بإعلان وقف إطلاق النار التام الفوري. والتنادي في حرية وشفافية وفي أمن وأمان تام للحلول التوافقية والمفاوضات وهذا يحتاج أول ما يحتاج لإطلاق الحريات وتفريغ السجون من كل السياسيين وأصحاب الأراء المخالفة للنظام الحاكم. ثم حل الحكومة وتعيين حكومة من كفاءات بنسب يتفق عليها بين حكومة الانقاذ و الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية. مع إبعاد الانقاذيين التام عن كل الوزارات السيادية من خارجية وداخلية ومالية ودفاع وأجهزة عدلية كالقضاء وديوان النائب العام وغيرها وإلا فلن يحدث فك الارتباط بين الدولة وحزب المؤتمر الوطني.
لعل جميع الشعب السوداني على قناعة بأن وقف الحرب وإطلاق الحريات وتشكيل حكومة وطنية حقيقية هو أول خطوة للحفاظ على السودان وشعبه الفضل وإلّا فإن مصير اليمن والعراق هو مستقبل السودان القادم والغاتم إن بقيت حكومة الإنقاذ التي لم تنجح في شيء سوى بث الكراهية و إشعال الحروب وإراقة الدماء و بذر الفتنة القبلية التي تمددت حتى وصلت أطراف أم درمان!!!
أنشدت إحلام مستغانمي "بإستطاعتنا أن نبكي: حتي الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة. ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يُضمر حريقاً لكل من ينتسب إليه؟ وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. أنه يولد بيننا في أدغال الكراهية".