النهاية (7).. تخريب ممنهج للذاكرة الجمعية !!

واحدة من أكبر مكاسب الشعب السوداني من هذه المحنة القاسية التي أبتلي بها، استعادته لروحه التي سعى المتأسلمون/ تجار الدين – بعد أن اختطفوا الدولة بليل خيانة – لسرقتها وإعادة صياغتها على نحو مزيف، حتى كدنا أن ننكر أنفسنا.
ننظر لوجوهنا في المرآة، فتطالعنا وجوهاً ننكرها لقبحها، ويكاد يصيبنا الجنون ونحن نسأل أنفسنا برعب: هل ما نراه على المرآة هو حقاً "نحن"، أم هو قرين ؟. هل نحن بالفعل بهذا الشكل ؟. هل نحن حقيقة بهذا القبح والتشوّه ؟.
هل ظللنا عبر كل تاريخنا نخادع أنفسنا وندعي زوراً عكس ما نراه في المرآة من جبن وخسة ونفاق، وأنانية وحشية، لا تدانيها وحشية أشرس الضواري فتكاً ؟.

(2)
لقد بلغت صدمة "تغريب" الانسان السوداني عن نفسه ذراها خلال ثلاثة عقود أحكم فيها المتأسلمون قبضتهم على أعناقنا، وتحكموا في قيادتنا، مدججين بكل أدوات سلطة الدولة وآليات عنفها الضاربة، من جيش وقوى أمنية مسلحة وإعلام ومساجد وملاعب. لم يتركوا لنا فضاءً نتنفس فيه غير دخانهم السام، تغلغلوا بسلطتهم حتى في الشوارع وأزقة الأحياء، وبين وداخل البيوت.
لقد فعلوا ذلك بذكاء شيطاني منذ اليوم الأول لاغتصابهم السلطة بخدعة، ومن ثم أعلن علي عثمان محمد طه برنامج تغريب الشعب السوداني عن نفسه، بإنشاء وزارة شؤون اجتماعية تختص بتنفيذ هذا البرنامج الشيطاني وهدفها كما أعلن بنفسه أكثر من مرة هو، إعادة صياغة الإنسان السوداني بما يتوافق مع ما سمي المشروع الحضاري.

(3)
لا يمكنك هنا بالطبع أن تتجاهل حقيقة أن كل الأنظمة الأُلغارشية التسلطية المافوية الديكتاتورية تتوارى خلف ستارة هذه اللافتة الاقصائية الحربائية، وأنها تسعى بالفعل "لإعادة صياغة" أمة أو حياة شعب بأكمله وفق نموذج في رأس هذه الأقلية من الشعب والأمة.
بديهي تفهم بأنهم يريدون "إعادة صياغة" شعبهم لأنهم "منبتون"، وغرباء عنه.
هم لا ينتمون للشعب والأمة ولهذا يريدون "إعادة صياغتهما" على ما هم عليه، ليصبح الشعب مثلهم، ويتقبلون بعدها أنفسهم فيه.
وإعادة الصياغة في هذا السياق لا تعني سوى نقض غزل المجتمع وتفكيكه وتمزيقه ذر مذر، ثم إعادة نسجه وفق ما يهوى المنبت، هو والأقلية المنبتة التي تماثله في اغترابها عن الواقع الحقيقي.
هدم ... فبناء. على أسس جديدة مغايره (وقد تكون مناقضة).

(4)
وقد نجحوا في إعادة "هيكلة" الدولة بالطريقة التي تسمح نظمها وقوانينها بتنفيذ هذا البرنامج لإعادة صياغة الإنسان السوداني بجدارة. إذا تمت أولاً "أخونة" الجيش والأجهزة الأمنية لأنها الذراع الأقوى للدولة، بامتلاكها السلاح وشرعية استخدام العنف.
وحال جيشنا اليوم و واقعه شهادة لا تخطئها العين على مدى نجاحهم في إعادة هيكلته !.
وكذلك فعلوا في الخدمة المدنية والتعليم والاقتصاد والاعلام والفكر والفن، وفي كل مجال من شأنه المساس بحياة المواطن.

(5)
وتحت غطاء الإسلام وفقه الضرورة استخدموا – وبمكيافلية عارية وقحة في تجردها – كل الوسائل القذرة: بدءاً بالقتل غيلة وخسة، بطرق لم تألفها أو تعرفها الفطرة السودانية، ومن الترويع وأحط وسائل التعذيب، والتآمر والكذب والنفاق والخيانة والنهب والانحراف السلوكي، ما غطى على وجه الدولة وقياداتها، وتسرب من رأس الدولة إلى خلايا المجتمع وتقاليده وقيمه السلوكية، وتدخل في تشكيل مفردات حياة الناس اليومية. وعلى سطح حياة المجتمع والناس تفشى فيروس "الترابية" (1)، التي صارت مرتكزاً لأسس البناء الجديد للفرد والمجتمع والدولة بصياغته الجديدة. وسرى سم فسادها وانحطاط قيمها وانحرافاتها بين كل الطبقات والشرائح والفئات.
جرف تيار حصار الخبز والحرية مستصحباً معه القتل والترويع والتشريد والسجن والتعذيب والاخفاء القسري، الحياة في السودان، وأحالها جحيماً لا يطاق.

(6)
ورغم أن زلزال ثورة سبتمبر العظيمة وغير المسبوقة في تاريخنا الحديث استطاع أن يطيح برئيس النظام الإسلاموي وطاقم قيادتها. إلا أن: "دولة الترابي التي أقامها فينا لا زالت قائمة لم تسقط بعد.
"ليس لأن أقوى حرس بوابتها قائمون ببنادقهم ودباباتهم يذودون عنها بكل ما ملكوا من إيمان وولاء وإخلاص بمبادئها. بل أيضاً لأنها غرست بذرتها عميقاً في تربة ومفاصل مؤسسات الدولة. وأكثر من ذلك لأنها أشاعت الترابية ثقافة، ونشرتها قيماً تشَّربتها عقول ونفوس الناس بمختلف طبقات المجتمع السوداني لا فرق في ذلك بين النخب العالمة والعامة، حتى كاد ما نشرته من قيم وأخلاقيات وقواعد سلوكية يصبح من المسلمات والبديهيات. فهو القاعدة، وما عداه شذوذ" (2).

(7)
وما يدعو للدهشة أن أحداً لم ينتبه إلى أن القاعدة المبدئية التي أسس عليها بناء الدولة، وبموجبها تمت إعادة صياغة الإنسان والمجتمع، كانت – في مجملها وفي تفاصيلها – ليست نقيضاً لمبادئ الإسلام فحسب، بل كانت نقضاً للإسلام ذاته.
كانت حذوٌّاً لمبادئ الإسلام النعل على النعل ... ولكن بـ "الإستيكة". تمحو بها مبدأ إسلامي وتحل مكانه المبدأ النقيض. ولعل هذا يفسر تفشي وشيوع وانتشار ظاهرة الإلحاد والبحث عن مرجعيات فكرية وسلوكية بديلة للدين بين الشباب.

(8)
ما أحدثته عقود الإسلام السياسي في حياة المجتمعات والأفراد كان زلزالاً عنيفاً، أحدث "صدمة" وجدانية/ نفسية، وفكرية وأخلاقية سلوكية، لم ينج من تأثيراتها سوى قلة آثرت الانزواء، وحتى هذا الانزواء كان واحداً من آثار الصدمة. وإلا فقد تعددت مظاهرها.
لقد أصيب البعض بالجنون المطبق، وتعددت أشكال الأمراض النفسية. وفي حين لجأ البعض إلى الهجرة – شرعية وغير شرعية – وركبوا المخاطر في مغامرات يائسة مميتة هرباً من البلاد. لجأ غيرهم إلى مخدر الغيبيات والخرافات، لتروج سوق الدجل والشعوذة ويتصدر خشبة المشهد الاجتماعي – والسياسي من ثم – أمثال بلة الغائب والأمين وغيرهما من "الشيوخ".

(9)
دع عنك انتشار المخدرات من مختلف الأنواع والتي تطال تهمة استيرادها بعض متنفذي وقيادات النظام الإسلاموي، سياسيين وعسكريين. وتعددت تحذيرات وشكاوى الاجتماعيين والاصلاحيين من تهتك نسيج المجتمع وقيمه الأخلاقية، ومن ظواهر بدأت تطفو على السطح، تدل على انتشار الانحلال والتفسخ. وإذا كان كم نزلاء مجمع المايقوما لرعاية الأطفال مجهولي الوالدين يعتبر الجزء الظاهر من جبل الجليد، فأن الدراسات والاستطلاعات التي ترصد انتشار تعاطي المخدرات بين طلبة وطالبات المدارس. وتصاعد نسبة قضايا الطلاق وأسبابه وما يماثلها من القضايا في المحاكم الشرعية. يكشف لك عن مدى وعمق كارثية ما يسمى بالمشروع الإسلامي.

(10)
فهل حقق هذا الجهد التدميري الممنهج نتائجه المرجوة ؟!!.
هذا ما سنراه لاحقاً حين نستعرض دلالات هذه الحرب اللعينة – وهي كما قلنا في الحلقة السابقة – آخر فصول تراجيديا السردية الإسلاموية. وهي في الوقت نفسه آخر ما يمكن أن يبلغه قطار السودان القديم من محطات بقائه في التاريخ.

مصادر وهوامش
(1) حول "الترابية" كنهج مبتدع في التدين، وفي الفكر، والسياسة والسوك ارجع إلى: " الترابية والترابيون: عن دولة استعصى تفكيكها"،12 أبريل، 2022.
(2) حول الترابية، مصدر سابق.

izzeddin9@gmail.com