الهجرات العربية إلى السودان قبل الاسلام …. بقلم: د أحمد الياس حسين
2 February, 2009
ahmed.elyas@gmail.com
2 - 4
بعض ما ورد في المؤلفات الحديثة
وننتقل إلى نموذج آخر من النصوص الواردة في المراجع الحديثة للاستدلال على عروبة السودان وهو ما ورد عند (دروزة ص 13 الذي نقله عن د. حسن كمال تاريخ السودان القديم: "أن المصريين والسودانيين من أصل واحد وقد جاؤا إلى وادي النيل من بلاد العرب عن طريق الصومال على ما تدل عليه البحوث والاستقراءات"
فالمؤلف تناول أصل شعبين ساهما بدور فعال في التراث الحضاري القديم منذ عدة قرون قبل بداية الحضارة في شبه جزيرة العرب، وقرر بكل بساطة أصلهما كحقيقة تاريخية ثابتة، مستدلاً عليها بمتخصص في التاريخ القديم دون أن يذكر لنا كيف توصل ذلك المؤرخ على تلك الحقيقة؟ وما هي البحزث والاستقراءات التي استند إليها؟ والسبب هو أن ما أورده مجرد روايات وآراء لا تستند إلى أدلة تاريخية أو علمية.
ولم يوضح المؤلف كالعادة كيف كانت أوضاع وادي النيل وقت وصول تلك الهجرات وغيرها من الأسئلة التي تثار في مثل تلك الأحداث. ويبدوا لي أن أولئك المؤلفون افترضوا أن وادي النيل أو السودان – وهو المقصود في الدراسة – كان أرضا بورا لاساكن فيها ، أقصد لا حياة بشرية عليها، وأن تك الهجرات استقرت على تلك البقاع الخالية من البشر فأسست شعب وحضارة السودان.
وكعاد مثل هذه النصوص العامة التي لا تقبل كحجة في أحداث التاريخ قررت أن العرب جاءوا عن طريق الصومال إلى وادي النيل الذي يمتد من البحر الأبيض شمالاً حتي إقليم البحيرات في وسط افريقيا جنوبا، وكون أولئك المهجرون سكانه! هل هذه اسطورة أم حقيقة تاريخية؟ رغم أن المؤلف لم يوضح ذلك صراحة ولكن سياق الأحداث - وكونه لم يقل ان هذه اسطورة - يجعلنا نحكم أنه ذكرها كحقيقة أو حدث تاريخي. كيف يمكننا إثبات ذلك؟ في الواقع لا ينتظر منا المؤلف طرح مثل هذا السؤال بل ينبغي التسليم بذلك كما أورده.
وربما قصد المؤلف من أصل السودان العربيٍ نفس ما دونه د. شوقي الجمل عن استيطان العرب قبل الاسلام في بلاد النوبة الذي ورد التعليق عليه. وإذا كان ذلك هو المقصود فيكون الكاتب قد استخدم بلاد النوبة للدلالة على السودان. وهذا تعميم يؤدي إلي الخلط وسوء الفهم المقصود في أغلب الأحيان، لأن مدلول كلمة السودان الآن يختلف اختلافا تاما عن المدلول القديم لكلمة بلاد النوبة، ولو أراد المؤلف الاستشهاد بما قيل عن بلاد النوبة ينبغي عليه الاشارة إلى سكان بلاد النوبة ولا يطلق الحكم على كل السودان.
وقد ورد نص آخر قريب من هذا عند ماكمايكل (تاريخ العب في السودان، ج1ص4) الذي وضح المصدر الذي استند اليه وهوبليني الذي نقل الرواية كما هو مذكور عن (جوبا Juba) جاء في النص أن: "المصريين أصلهم عرب، أما عن جيرانهم على النيل من أسوان حتى مروي فهم ليسوا اثيوبيين(يعني سوداً) بل هم عرب، وحتى معبد الشمس – الذى لا يبعد كثيراً عن ممفيس يقال إن العرب أسسوه"
وربما المقصود بجوبا هنا الملك النوميدي الذي امتدت مملكته في مناطق تونس والجزائر الحاليتين. وقد حكم جوبا الثاني آخر القرن الأخير قبل الميلاد وهو ما يرجح نقل بليني منه - إذا كان هو المقصود - بالرغم من حكمه على أصل سكان مصر والنوبة فيه بعض الغرابة أولاً لبعده عن النطقة، وثانيا لترجيح عدم وجود صلات قوية بيه وبين مصر وبلاد النوبة للدرجة التي تمكنه من الحكم على أصولهم العرقية.
ومن ناحية ثانية فقد سبق وأن ذكرنا أن كلمة عرب في مفهوم بليني في ذلك الوقت لم تكن تعني جنسا بعينه بل كانت تطلق على البدو، فإشارة بليني هنا بالعرب مقصود بها البدو، وهو ما يجعل فهم النص متعذراً إذا صح نقله عن جوبا وقصد بجوبا ملك النوميديين. ولعل جوبا النوميديين أو جوبا آخر قصد البدو الذين كانوا يتجولون في الصحراء الشرقية أو الغربية.
ويتطابق هذا مع الفرضية التي تقول بأن توحيد مصر وبداية عصر الأسرات أتي نتيجة طبيعية للصراع الذي كان دائراً بين سكان الصحراء الافريقية الكبرى والنيل تماما كما حدث – علي سبيل المثال – في الصراع الذي كان دائراً بين بدو صحراء شبه العربية وكان حوضي نهري دجلة والفرات وأدى إلى قيام وتطور أغلب حضارات بلاد ما بين النهرين.
وقد ذكر ماكمايكل هذه الرواية في سياق ما ورد عن فرضية الغزاة الأجانب الذين أتوا من الجزيرة العربية ووحدوا مصر وبدأوا الحضارة المصرية. ثم عرج إلى السودان ليدعم وجهة نظره والتي جعلت من سكان مملكة مروي عرباً أتو من اليمن.
وقد أشار ماكمايكل (ج1ص7-8) إلى الأثر العربي في بلاد النوبة عن طريق ما أوردته المصادر العربية المبكرة عن غزو ملوك حمير افريقيا. وأورد مثالاً على ذلك الملك ذو المنار الذي جعل ولادته 134 ق م، والملك افريقش أو ابنه والذي أرخ لغزوه المغرب نحو عام 46 ق م. وأضاف أن المك ذو المنار أغار على السودان في طريقه إلي المغرب. وهذا ما لم أعثر عليه في المصادر العربية رغم اجتهادي في البحث عنه.
والملكين اليمنيين الذين ذكر – ماكمايكل - أن عصرهما يرجع إلي القرنين الثاني والأخير قبل الميلاد ذكرت المصادر العربية التي نقل عنها انهما حكما في عصري النبيين موسى وسليمان عليهما السلام، ومن الثابت في التاريخ أن عصر هذين النبيين يبعد مئات السنين من الزمن الذي يتحدث عنه ماكمايكل.
وقد أتي ماكمايكل في هذا الصدد أيضا برواية لم أعثر على أثرها في المصادر العربية نقلها عن (Caussin de Perceval) - ولم يذكر مصدره – جاء فيها: "أبا مالك الحميري الأصلي قد قاد حملة إلى بلاد البجة بحثا عن الزمرد، إلا أنه وجيشه قد هلكا." وجعل تاريخ هذه الحملة العقود الأولى من القرن الميلادي الأول.
ومن بين ملوك حمير الذين ذكروا في المصادر العربية لم أجد من حمل لقب "أبا مالك" غير الملك الحمير أبا مالك بن حمير بن سبأ الملك الرابع في سلسلة ملوك حمير، اي قبل عصري ذي المنار وافريقش، فعصره بناءاً على ذلك قبل القرن الأول الميلادي بمئات السنين. ولم أجد في تلك المصادر ما يشير إلى غزو أبا مالك السودان أو افريقيا. ولا أعتقد أن ما كره ماكمايكل من أن "معبد الشمس قد أسسوه العرب لأنهم كانوا يعبدون الشمش" يحتاج إلى أيضاح، فكم من الشعوب القديمة قد عبدت الشمس قبل عرب الجنوب مثل قدماء المصريين وشعوب بلاد ما بين النهرين، ومن الابت أن هذا النعبد أسس في الفترة الأخيرة لدولة مروي.
وإذا اردنا معرفة السبب وراء تلك التوجهات العربية لأولئك الكتاب والذين سعى بعضهم للوي عنق الزجاجة – سواء العرب منهم أو السودانيين أو الأوربيين – لإثبات عروبة وادي النيل رأينا أن لكل غرضه الذي يسعى إلي تحقيقه. فإخواننا المصريون - منذ النصف الأول من القرن العشرين الذين سايروا دعوة القومية العربية شرعوا في العمل لطبع وادي النيل كله بالطابع العربي لتحقيق هدفهم القومي وفي نفس الوقت لربط السودان بالرباط العربي لدعم حقوقهم التي تبنتها الحكومات المتتالية في مصر.
والسياسة الخارجية لحكام مصر الأتراك منذ بداية القرن التاسع عشر كان من بين أهدافها الكبري وضع يدها على السودان، ودخلت من أجل ذلك في صراعات ومنافسات مع المستعمرين الأوربيين مبررة حقها في السيادة على السودان بما عرف "بحق الفتح". ومع تغير الأوضاع الدولية بعد الحرب العالمية الأولي استخدمت عروبة السودان إلى جانب حق الفتح لتـُُعزز حكومات مصر حقوقها في السودان خاصة وأن بريطانيا – التي قوي نفوذها في مصر – أصبحت منافسا قويا في مسألة السيادة على السودان.
وبعد قيام ثورة يوليو 1953 في مصر وتبني عبد الناصر الخط القومي العربي لم يطرح قادة الثورة حق الفتح لضمان السيطرة على السودان، بل طرحت مسألة عروبة السودان ووافق قادة الثورة على استقلال السودان العري لكي ينضم إلى حامعة الدول العربية وليس إلى الكمنولث البريطاني، ويتمكن قادة الثورة من توقيع اتفاقية مياه النيل مع السودان وبناء السد العالي بعيدا عن مشاركة البريطانيين. ولذلك أصبحت مسألة عروبة السودان بالنسبة للكتاب المصريين قضية قومية ينبغي الدفاع عنها ليس عن طريق لوي عنق الزجاجة فقط بل وعن طريق طمس الحقائق واستخدام كل الأساليب التي تخدم قضيتهم.
وقد صادف ذلك التوجه تيارا قوميا عربيا في السودان سواء كان هدفه الحقيقي قوميا أو هدفه الوقوف ضد بريطانيا وتحقيق الأستقلال فانخرطوا في تيار العروبة. وربما ساعدت الظروف في ذلك الوقت هذا التيار لأن افريقيا كانت مهضومة الحقوق ومطموسة الهوية يسود الظلام جميع مرافق حياتها. ولذلك اتجه الكثير من السودانيين – الشماليين بالطبع – وهم يبحثون عن الهوية نحو التوجه العربي وصدّقوا أو جاروا الكتاب المصريين في ما دبروه لعروبة السودان.
هذا ما يخص المؤلفين المصريين والسودانيين، فماذا عن البريطانيين الذين من المفترض ووفقاً لسياسات ذلك الزمان الوقوف ضد التيار العربي الذي سيقود السودان إلي أحضان مصر منافسهم الأولى على السودان. في واقع الأمر كانت هنالك قضية أخرى وعلى درجة عالية أيضا من الأهمية سيطرت على العقل الأوربي فيما يتعلق بافريقيا منذ بداية القرن التاسع عشر.
وترجع جذور تلك القضية إلى بداية تعرف أوربا على الحضارة الافريقية. فقد كانت افريقيا في أعين الأوربيين قبل القرن الثامن عشر قارة سوداء، يسود الظلام كل شي فيها بما في ذلك تراثها. فهي قارة لا تاريخ لها، وشعبها عاش متخلفا منذ أن وجد على تراب تلك الأرض، لم يساهم بشي في الحضارة الانسانية. وتأسست نظرية الاستعمار ورسالة الرجل الأبيض الحضارية في افريقيا على ذلك لمفهوم. ولكن عندما بدأت أوربا تتعرف علي التراث الافريقي وبخاصة بعد دخول نابليون مصر رأوا التراث الحضاري لمصر الفرعونية، وبدأت أفكارهم القديمة بارتباط الحضارة وتقدم البشرية بأوربا فقط يهتز.
فقد لمس الأوربيون أمكانية تطور حضاري سابق للعصور اليونانية الرومانية، وكلما ازدادوا قربا وبحثا عن ذلك التراث تأكد لهم أن أوربا ليست سيدة العالم في التراث القديم، وأن تلك السيادة ربما – بل وكل الأدلة تشير إلى أنها – تمت على أيدي المصريين القدماء. فمن هو ذلك الشعب العظيم الذي خلف كل ذلك التراث؟ المشكلة التي واجهتهم هو المفهوم القديم الذي كان سائدًا في الأوساط العلمية عن شعوب افريقيا والذي يقسم سكانها إلي ساميين وحاميين وزنوج.
وقد ارتبط تصنيف الحاميين في ذلك القت باللون الأسود، وكان المصريون وفقاً لتلك التقسيمات ابناء كوش الذي ينتمي اليه كل السود في افريقيا. فكيف يعقل أن يرتبط الجنس الأسود بهذا التراث الحضاري؟ وبدأت الفرضيات والتفاسير التي جعل بعضها الشعب المصري شعبا ساميا لا صلة له بالسود، وقد رأينا كيف حاولت الفرضيات ربط قيام الحضارة المصرية بهجرات من شبه الجزيرة العربية.
ويبدو أن البعض الآخر لاحظ سمات العنصر الزنجي واضحة في بعض الآثار المصرية وبخاصة العناصر السوداء التي تقطن جنوب مصر، فتطورت النظرية التي فصلت الجنس الحامي من الجنس الزنجي. وأصبح سكان افريقيا في نظر الأوربيين ثلاث سلالات رئيسة: كان افريقيا من غير لسود وهم السلالة السامية والسلالة الحامية ونسب اليهما كل التطور والانجاز الحضاري الذي عثروا عليه في القارة السمراء. ثم السلالة الثالثة وهم السود باقي سكان افريقيا الذين طلوا في النفهوم الأوربي في مرحلة التخلف وفي حاجة إلى خدمة الرجل الأبيض ينتشلهم من دنيا الظلام والهمجية إلى عالم النور والحضارة.
ولذلك دأب المؤلفون البريطانيون في كتاباتهم عن السودان منذ مطلع القرن العشرين – وأغلبهم خدم في السودان ورأى بعينه آثار التراث الحضاري القديم - علي مسايرة التيار العربي في السودان، وأصبحت كتاباتهم لا تختلف كثيرا عن كتابات المصريين فيما يتعلق بعروبة السودان. وقد رأينا كيف أن ماكمايكل يستدل علي عروبة السودان قبل الاسلام بالغزو الحميري.