انبلاجُ فجرِ الشعوب وانجلاءُ ليلِ النخب

 


 

 

 

صحيفة التيار 24 يونيو 2020

ظلت البشرية تكافح منذ أن عرفت السلطة والتسلط، لكي ترفع عن رقبتها نَيْر القهر. عانى الفرد البشري ما عانى، منذ أقدم العصور، وهو يحاول نيل حريته وكرامته. فذاق في هذا الطريق الشاق، الطويل، مرارة الاستعباد، وقهر الملوك والأباطرة، وتسلط رجال الدين، وظلم الاقطاعيين الذين جعلوا من الضعفاء عبيدَ أرض. وبعد أن اشتعلت ثورات الشعوب على الملوك في أوج عصر التنوير، لم ينته القهر والظلم، وإنما أُعيد انتاجهما في صيغٍ جديدة. جرَّبت البشرية في القرن العشرين الاشتراكية على يد النظام الماركسي اللينيني في الجمهوريات السوفيتية والصين وكوبا، وغيرها. صادرت الماركسية اللينينية الحرية من أجل أن تحقق الاشتراكية، ففشلت في تحقيق كليهما. وجربت البشرية، قبل ظهور الشيوعية، النظام الديمقراطي الرأسمالي، الليبرالي، فأوصلت أزمته، رغم التعليم والرفاه النسبي الذي تحقق، إلى حالة الاختناق التي نشهدها عليه حاليًا في نموذجه الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية. تبخرت وعود التحرير التي طرحها عصر التنوير والثورات التي أعقبته. وتبخرت وعود الاشتراكية التي طرحها النموذج الشيوعي. وأبقت النخب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان متخفِّيًا في أثواب جديدة.

احتلت النخب السياسية والاقتصادية الحديثة مقاعد الأباطرة والملوك الذين سادوا حقب الماضي. وعملت بدأبٍ لكي ينحصر الثراء وسط قلِّةٍ قليلة، ويعم الفقر الكثرة الغالبة. أكثر من ذلك استتبعت هذه النخب المثقفين، الذين أغرتهم بالثراء والوجاهة، فابتعدوا عن دور المثقف الثوري، وتحولوا إلى خبراء ومستشارين لها. هذا الحلف النخبوي الذي يضم رجال الاقتصاد، ورجال السياسة، ورجال الدين المتماهين مع السلطة، هو الإمبراطور الجديد، المسيطر اليوم. وفقًا لهذه التوليفة أمكن لشخص يفتقر إلى أبسط مقومات القيادة من المعرفة والخبرة والمسلك المتزن والانضباط الأخلاقي، أن يصبح رئيسًا لأكبر قوة في الأرض. هذه هي خلاصة الخلاصات في طفح حقبة النخب التي أخذت شمسها في الأفول. ولو نظرنا إلى حالنا في السودان عبر تقلباته منذ مؤتمر الخريجين وإلى صراعاتنا الجارية في هذه اللحظة، لوجدنا أننا نمثل نموذجًا مصغَّرًا لهذا المخاض الذي سينبثق به فجر عصر الشعوب، ولأول مرة في التاريخ.

من جوامع الكلم، وجوامع المعني، وجوامع المعرفة بمجريات التاريخ، في هذا الصدد، ما سطره قلم الأستاذ محمود محمد طه، منذ ستينات القرن الماضي، حين كتب: "إن عصرنا الحاضر يمكن أن يوصف بأنه عصر الذرة. ويمكن أن يوصف بأنه عصر استكشاف الفضاء الخارجي. ولكن ينطبق عليه أكثر، كونه عصر رجل الشارع؛ عصرُ الرجل العادي المغمور، الذي استحرَّت على مضجعه شمس الحياة الحديثة. فنهض وحمل عصاه على عاتقه، وانطلق يسير في الشعاب، يبحث عن حياته، وعن حريته، وعن نفسه، بعد أن أُذهل عن كل أولئك طوال الحقب السوالف من تاريخه المكتوب وغير المكتوب. ذلك التاريخ الذي أخذ يُراجع اليوم، ويُكتب على هدى قيمٍ جديدة. وهذه القيم الجديدة هي التي ستوجه المدنية الغربية الآلية الحاضرة وجهتها الجديدة".

نحن، حاليًا، لا نزال داخل سيرورة ثورة ديسمبر العظيمة. وهذا يحول بيننا وبين رؤيتها كما ينبغي. هذه الثورة التي كان قوامها الشباب من أبنائنا وبناتنا، والتي تقاوم الآن التفاف حبال النخب حول جيدها الأغيد، لهي ضوعةٌ من ورود رياض عهد الشعوب المقبل، الذي آذن فجره بانبلاج وشيك على مستوى الكوكب كله.

 

آراء