انتبه أيها الوزير.. فما حولك قذر !!

 


 

فضيلي جماع
8 September, 2019

 

 

-1-

بإعلان ميلاد الحكومة الإنتقالية في سبتمبر الجاري تكون ثورة ديسمبر السودانية قد دخلت مرحلة بناء الدولة. تلك مرحلة تختلف آلياتها كثيراً عن مرحلة تفجير الثورة، وما استخدم الثوار لقيادة الصراع اليومي فيها من تكتيك. وفي الحالين - ميلاد الثورة وبناء الدولة - فإنّ الوعي هو المفتاح المشترك. يقول الجنرال الفيتنامي فون جياب صاحب خطة معركة "ديان بيان فو" التي هزم فيها الفيتناميون قوات الغزو الفرنسي - يقول : (الثورة التي لا يقودها الوعي تتحول إلى إرهاب.) لأنها تتحول إلى فوضي.
ولعلّ العامل الأهم الذي تميزت به ثورة ديسمبر أنها حملت الوعي سلاحاً أول في معركتها ضد نظام استبدادي إنفرد بالسلطة لثلاثين سنة. إنّ الوعي الذي تميزت به الثورة - وخاصة فصيل الشباب الذي قاد الشارع - ظلّ وقود حراكها لقرابة العام. فالثورة التي ابتكرت سلاح "السلمية" وحافظت عليه في تظاهراتها بطول البلاد وعرضها ، أدخلت الآلة العسكرية لنظام الأخوان المسلمين في محنة. فقد لجأ النظام بكل ما عرف به من خبث إلى استخدام الرصاص الحي ضد المسيرات السلمية، بل حاولت قوات أمنه وشرطته ودفاعه الشعبي وكتائب ظله أن تقتحم البيوت مستخدمة شتى أنواع البطش والتنكيل بالثوار والثائرات ، بقصد انفراط عقد الثوار ، حتى يحمل البعض منهم السلاح، وبذا يسهل على النظام إدخال البلاد في الفوضى.كانوا يسعون لجر بلادنا للنموذج الليبي. لكن الوعي هو الذي قاد تالثورة في الخط السلمي الذي رسمه لها الثوار. كان تلاحم لجان الأحياء مع المكون الشعبي ، قد إرتفع بوعي الجماهير عالياً. فما أقدم نظام القمع على مجزرة إلا وانبرت قيادة الشارع لتسيير تظاهرة مليونية تغطي شوارع وأزقة المدن، منادية بالسلمية. أحبط هذا الوعي مخطط الدولة العميقة في أكبر مجزرة يقترفها نظام ضد متظاهرين سلميين في تاريخ السودان- اعتصام الثوار أمام مبنى قيادة الجيش. ولأن الثورة الحق لا تعرف الهزيمة فقد قامت مليونية 30 يونيو التي غطت شوارع وأحياء العاصمة الخرطوم ومدن وقرى السودان والتي ادرك سدنة النظام المنهار ومجلس أمن نظامهم من بعدها أن نظام "الإنقاذ" صار في ذمة التاريخ. إن الحقيقة التي ينبغي على أعوان نظام الأخوان المسلمين ومن يقف خلفهم من دول ومحاور أن يعوها هي أن ثورة ولدت بهذا الزخم ، لا يمكن إعادة عجلات قطارها إلى الخلف. يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: ((إن الولادة عملية غير قابلة للإنعكاس. والعودة إلى الرحم هي أولى المستحيلات)!

-2-
والآن كما قلنا نبدأ مرحلة بناء الدولة. وهي المرحلة التي تتطلب رفع وتيرة الوعي حتى يصبح ثقافة في الشارع. ولعلّ من أكثر ما جعل شعبنا يطمئن على مسار المرحلة الجديدة - مرحلة بناء مؤسسات الدولة - أنّ قيام الجهاز التنفيذي استغرق وقتاً وجهداً نحمده لرئيس الوزراء الجديد كطرف مسئول عن القيادة ، وقوى الحرية والتغيير كطرف مشارك في تسمية الوزراء. ذاك الجهد الذي أعطى ثماره ميلاد حكومة كفاءات نالت رضا معظم أبناء وبنات شعبنا. ولأنّ شعبنا ينتظر مرحلة العمل ، فإنّ العبء الذي ينتظر الدكتور حمدوك وطاقمه الوزاري عبء تنوء بحمله الجبال. ولا نحتاج لنقول لهم ما الذي يجعل مهمتهم شاقة، فالكل يعلم أنّ من أهم مسببات الثورة استشراء الفساد في كل مؤسسة حكومية طيلة ثلاثين سنة. لترث حكومة الثورة بلداً بحاجة ماسة إلى خطة إسعافية في كل مؤسساته. أظن أن رئيس الوزراء الجديد كان فطناً وهو يقول في أول مؤتمر صحفي له بعد اعتماده رئيساً للحكومة الإنتقالية بأنه لا يحمل عصا موسى "السحرية"! وبذات الفهم فإننا لا ننتظر منه ومن وزرائه أن يصنعوا المعجزات في 39 شهراً لبلدٍ جاءوا إلى إدارته وهو حطام. لكننا نعرف أن في إمكان حكومة الدكتور حمدوك - بمضاعفة الجهد والإصرار - أن تضع بلادنا في الطريق الصحيح.

-3-
لست بناصحٍ لأحد في هذا المقال ، فقد اكتظت الصحف بمقالات لمن يعرف ومن لا معرفة لديه بالنصح ، بدلاً من أن نعطي الفرصة للكفاءات التي اختيرت كي يبدأوا عملهم أولاً. وإذا كان لي من تنبيه فإنني أضعه نصب كل وزير،بقولي له : تلفت أيها الوزير يمنة ويسرة قبل أن تجلس على كرسيك . فالنظام الإسلاموي المباد ما كان له أن يحكم بلادنا ثلاثين سنة لو لم يستخدم مخططاً أمنياً صرف عليه جل ميزانية البلاد. نظام يصل الهوس الأمني بقادته مرحلة تجسسهم على بعضهم البعض مستخدمين أحدث أدوات التصنت الإليكتروني. ومن نافلة القول أن تعرف أن وزارتك تحتاج كنساً من الخفير حتى وكيل الوزارة، كنساً لا هشاشة فيه أو مجاملة. واعلم أن أرواح شهدائنا في عليائها بانتظار أن نقتص لها، حتى يكون في ذلك حياة لأجيال من حقها أن تنعم بوطن رفعنا في ثورته شعار: حرية سلام وعدالة. لا نقول للوزير أن يفقد الثقة في كل من حوله. نعرف أنّ في مؤسسات الدولة على خرابها سودانيون وسودانيات بنقاء الثلج. إبحث عنهم بهدوء. ستجدهم. وربما يكونون عوناً لك في كنس وزارتك وتنظيفها.
ثمة همسة أخيرة لوزير ادعي أنني أعرفه: فيصل محمد صالح- هكذا بدون ألقاب ومقدمات. كاتب هذه السطور من أكثر من فرحوا باختيارك، لأنه يثق أنك الشخص المناسب لهذه الحقيبة الوزارية بما أعرفه ويعرفه عنك الكثيرون من شجاعة رأي ومهنية عالية في مجال الإعلام . إنّ الوزارة التي أوكل إليك شأنها من أخطر الوزارات في بلدان العالم الثالث. وقد استخدمت أوعية الثقافة والإعلام فيها لكل ما يقود إلى صناعة الكذب والدجل والنفاق. الوزارة التي أوكل إليك رئيس الوزراء إدارتها من أكثر الوزارات قذارة (عفواً.. بحثت عن كلمة أكثر تأدباً فلم أجد أفضل من كلمة "قذارة".) ذلك لأن أجهزة الإعلام تعج بضاربي الطبول وماسحي الأحذية والقوادين على مدى ثلاثين سنة. وأنا حين أكتب هذا الكلام القاسي فإنني استثني دون شك القلة من أصحاب وصاحبات الضمير الحي ، بل والشجعان منهم ، في الصحف والتلفاز ووكالات الأنباء وغيرها من المؤسسات الإعلامية. هؤلاء جاء الوقت ليعينوك على تنظيف مؤسسات الإعلام. إن بلادنا تحتاج منابر ثقافية وإعلامية حرة وقادرة على صناعة الوعي. خصصتك بهذه النصيحة دون سواك لأني وإياك ننتمي لنفس قبيلة الثقافة والإعلام. ولأني فوق ذلك كله أعرف فيك – دون مجاملة – ما يعرفه عنك غيري من شجاعة رأي وصدق ونقاء ثوري. وأنت تعرف جيداً أن كاتب هذه السطور لا غرض له في إحقاقك الحق . بل سينقلب عليك إن خنت شعبك ولم تقم بتنظيف بيت الثقافة والإعلام الذي رضيت بخدمة شعبنا في تولي حقيبته.

فضيلي جماع

fjamma16@yahoo.com

 

آراء