انتصار ابيي والتحدي الأكبر أمام “الشريكين” والمعارضة
محمد المكي أحمد
27 July, 2009
27 July, 2009
محمد المكي أحمد
modalmakki@hotmail.com
شكلت المواقف التي أعلنها قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم بقيادة الرئيس عمر البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة النائب الأول للرئيس الفريق سلفاكير ميارديت فور اعلان حكم محكمة التحكيم الدولي في لاهاي يوم الأربعاء الأروع (الثاني والعشرين من يوليو 2009) بشأن النزاع حول أبيي، انتصارا رائعا للارادة السودانية، و لقيم التعايش بين السودانيين .
المواقف المعلنةعبرت عن نبض سوداني يستحق الاحترام والتقدير، لكن المحك الحقيقي يكمن في مدى الدقة في تنفيذ حكم محكمة لاهاي على أرض الواقع.
في ندوة أقيمت في قطرقبل أشهر اشدت باحالة قضية ابيي الى التحكيك الدولي، وأعتبرت أن ذلك يعكس حرصا على التعايش وحل المشكلة كبديل للاقتتال والصراع الدموي .
رائع جدا أن يبادر "الشريكان" بتأكيد ترحيبهما والتزامهما بقرار محكمة لاهاي، وأهمية التعايش بين السودانيين، وأعتقد بأن "الشريكين" أرسلا رسائل مهمة للداخل والخارج، وعبرا عن نبض سوداني أصيل ، واتمنى أن يفتح ذلك دروب التلاقي والتوافق بين جيمع " الفرقاء" السودانيين.
أية مواقف ,وأية خطوات ايجابية من قادة الحكم في الخرطوم وجوبا ينبغي أن تجد الدعم من كافة السودانيين ، وخاصة من القوى السياسية المعارضة التي عبرعدد من قادتها عن مواقف سودانية وطنية أصيلة بعد اعلان حكم محكمة التحكيم الدولية.
في هذا السياق أنوه على سبيل المثال بتصريحات أدلى بها الامام السيد الصادق المهدي رئيس حزب الامة القومي ، والسيد محمد ابراهيم نقد سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني لتلفزيون السودان.
مواقف المهدي ونقد في مجملها تحمل تهنئة حيوية للشعب السوداني بحكم ابيى، مع تشديد على قيم التعايش الذي كان وسيبقى بعون الله أبرز ملامح الحياة بين الدينكا والمسيرية ، كما يشكل التعايش سمة من أنبل سمات المجتمع السوداني، على رغم كثرة الجراح وتعدد المآسي والمشكلات التي تسببها الديكتاتورية والحكم الاستبدادي الذي يبطش بالناس وقيم التعايش.
رغم كل تلك الأحزان والمواجع مطلوب من القوى السياسية وغير السياسية السودانية ، وخاصة قوى المجتمع المدني أن تعبر عن مواقف داعمة لحكم محكمة لاهاي، لأنه انتصار للتعايش بين السودانيين، ولأنه انتصار للوطن.
ليس مطلوبا أو معقولا ان يتقوقع أي سياسي أو أي وطني مهموم بهموم الوطن في دائرة رد الفعل الأناني الذي يفكر بطريقة ضيقة ترى أن حكم ابيي يصب في مصلحة المؤتمرالوطني أو الحركة الشعبية لتحرير السودان، لأن هذا الحكنم يدعم التعايش والاستقرار والسلام.
الموقف الوطني السليم كما أرى يتطلب مواقف وسلوكيات من قوى المعارضة تؤكد الدعم اللامحدود لحكم محكمة لاهاي ، لأنه حكم متوازن وتاريخي ، ويمكن أن يطفيء النار في حال الالتزام بتنفيذ الاتفاق تنفيذا شاملا من دون مماحكات أو مزايدات سياسية.
أهمية حكم لاهاي تكمن أيضا في أنه لم يكن في مقدور السودانيين المتصارعين حول أبيى أن يتوصلا الى خارطة طريق دقيقة لحل الأزمة، التي كانت مرشحة لتدمير مسيرة السلام التي حققتها اتفاقية نيفاشا في عام 2005 ، والتي أشاعت سمات مناخ جديد في السودان وفتحت هامشا معقولا من هوامش التعددية والحريات ، رغم الانتقادات المشروعة للاتفاق "الثنائي".
لا ينبغي أن يتنكر أحد لأهمية وايجابية حكم محكمة لاهاي ، على رغم الغبن الدفين في اوساط سودانية ، بسبب ممارسات أهل الحكم على مدى سنوات طويلة ، وعلى رغم الكوارث المتعددة التي تسببت فيها حكومة "الانقاذ" على مدى سنوات عدة، فمازالت هناك مظالم وانتهاكات صارخة للحقوق .
أعتقد بأن المحكات الصعبة تكشف دوما أصالة معدن الشعب السوداني، وتؤكد قدرة شعبنا المعلم في تجاوزالمشكلات والتحديات، من أجل بناء وطن مستقر آمن، يستظل أبناؤه بظلال التعايش والحرية والعدالة والمساواة.
هذا معناه أيضا أن حكم محكمة لاهاي قد نزع فتيل انفجار مدمر في ابيي، لكن صدور الحكم وحده لا يكفي، ولا يعني أن الأزمة قد انتهت ، كما لايكفي أ ن يعلن شريكا الحكم (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) ترحيبهما بحكم التحكيم الدولي.
مثلما نجح "الشريكان" في التوجه الى لاهاي لحسم الخلاف في محكمة دولية، فان التحدي الأكبر يكمن في التطبيق الدقيق للحكم من خلال ترسيم حدود أبيى، واعادة المشردين الى مواقع سكنهم بعدما دفعوا ثمنا غاليا في الفترة الماضية، بسبب الخلاف الحاد والمواجهات الدموية الساخنة بين "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية لتحرير السودان".
المناخ الايجابي الجديد الذي أدخله حكم محكمة لاهاي في فضاء الحياة السياسية والاجتماعية في السودان حاليا يتطلب استثمارا ذكيا من قادة الحكم في السودان، وتحركا نشطا في اتجاهات عدة داخلية وخارجية.
داخليا جاء حكم لاهاي في ظل أزمة شد وجذب بين الحكومة وعدد من أحزاب المعارضة التي رأت أن الحكومة غير شرعية بعد التاسع من يوليو ، 2009 بسبب عدم اجراء الانتخاب في موعدها الذي حددته اتفاقية السلام حسب رؤية المعارضة.
الفرصة مناسبة حاليا لتحرك حكومي باتجاه المعارضة للتوافق حول قضايا السودان الكبرى، ومنها قضايا الانتخابات والتعداد السكاني، لأن "الطرب" السياسي وهو طرب مشروع بقرار لاهاي يجب أن لا ينسينا أن مناخ العمل السياسي في السودان محتقن الآن، وقابل لمزيد من الالتهاب، وتسوده الكثير من الشكوك والمخاوف حول السعي الحكومي بشأ ن اجراء انتخابات عامة يريدها السودانيون أن تكون حرة ونزيهة.
كل تلك المخاوف تؤشر الى أهمية ان تشهد الساحة السياسية تواصلا بين الأطراف الحكومية والمعارضة، حتى لا تنقطع خطوط التواصل ويشتد الصراع حول قضية اجراء الانتخابات وغيرها من القضايا الخلافية.
أعتقد بأن "الرئاسة" تتحمل أكثر من غيرها مسؤوليات استئناف الحوار بين قادة الحكم والمعارضة رغم حديث المعارضين عن فقدان الحكومة لشرعيتها بعد 9 يوليو 2009، لأن من يده في الماء ليس كمن يده في النار.
هناك أيضا أدوار مطلوبة من قادة المعارضة وأحزابها ، وهناك ضرورات وطنية تتطلب أن يحرص قادة المعارضة أيضا على استمرار الحوار مع قادة الحكم حول القضايا الخلافية، في سبيل تحقيق انتصار سوداني أكبر بعد حكم ابيى،و من أجل دعم أجواء الارتياح التي سادت المجتمع السوداني بعد حكم لاهاي بانتصار أكبر يتمثل في دعم جماعي لخطوات التحول الديمقراطي الحقيقي الذي يشكل التحدي الأكبر لقادة الحكم والمعارضة معا.
مناخ ما بعد صدور حكم محكمة لاهاي يفتح أمام قادة الحكم في السودان فرصا ثمينة لاعادة النظر في كيفيات اصلاح علاقات السودان مع أطراف دولية مهمة، وخاصة مع الادارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس باراك اوباما .
كتبت غيرة مرة أن أوباما رئيس يتمتع برؤى جديدة تشدد على قيم التعاون والتفاهم لحل مشكلات عدة في العالم، والسودان ليس استثناء في هذا المجال.
التحركات الايجابية لمبعوث الرئيس الأميركي السيد سكوت غرايشن في السودان عشية صدور حكم محكمة لاهاي حول ابيي ، وفي سياق الدور الأميركي للتوصل لحل لأزمة دارفور، تعكس مواقف أميركية تحتاح الى قراءة سودانية عميقة ومواقف حكومية عملية لا كلامية.
أميركا مهتمة بالشأن والهم السوداني، وتسعى لمساعدة السودانيين على حل أزماتهم، وخاصة أزمة دارفور، وهي ايضا مهتمة بقضايا حقوق الانسان في السودان والحريات.
حديث أوباما قبل أيام عن استمرار "الابادة" في دارفور يحمل رسالة ساخنة ومهمة، وتحتاج أيضا الى عمل سياسي كبير وتسريع للخطى على طريق معالجة شاملة لأزمة دارفور وفقا لمرتكزات عادلة، تشيع مناخ الاستقرار في مناطق سودانية أخرى مرشحة للتمرد أيضا إذا لم يحرص قادة الحكم في السودان على الحلول الشاملة للأزمات السودانية .
الحلول الثنائية تفجر أزمة هنا وأزمة هناك في ظل خلل واضح في معادلة الحقوق والواجبات ، وهذا أدى لصراع محموم و مشروع، في سبيل تحقيق قسمة عادلة للثروة والسلطة بعدما اكتشف السودانيون في مناطق مهمشة أن حقوقهم مهدرة ومسلوبة فلجأوا لحمل السلاح لأنهم رأوا نتائج التمرد الايجابية في جنوب السودان، وسيرون نتائجه في دارفور طال الزمن أو قصر.
برقية: تقدير وتحية لكل من يسعى لتحويل أبيي الى جسر محبة وتواصل بين السودانيين
عن صحيفة ( الأحداث ) 25-7-2009