انتفاضة الوعي هي تشاؤم الفكر وتفاؤل العزيمة …. حوار مع الدكتور عبد الله علي إبراهيم
6 April, 2009
حاوره : مؤيد شريف سراج النور
هذه أسئلة وضعها أمامي الصحفي النابه مؤيد الشريف ونشر اجاباتي عليها بجريدة "أجراس الحرية". ولما ارتاحت نفسي للاسئلة الذكية عدت إلي تلك الاجابات أحررها أزيد وأنقص فيها طمعاً في أن أوفيها بياناً حتى تسوغ للقاريء. وهاهي. وأنا ممنون لمؤيد الذي زارني وصبر على هذا الحديث وفرغه من الأشرطة بصبر وحمله من الشفاهة إلى الكتابة ثم الكتابة الأخرى.
عناوين الحوار:
ــ أثمن وأقيم الجهادات المختلفة لأهل الأقاليم في دارفور والشرق وكلها نهضت لأنها تريد أن تكون بعض هذا الوطن كمواطنين.
ــ واحدة من أكبر متاعب النظام تتصل بانعدام ثقة الناس في القضاء.
ـــ لا يجب أن نكون علي نموذج من قال طه حسين بلسانه :"أنت شكاء بكاء كأختك الصغيرة".
ـــ الديمقراطية تحتاج الي صراع من أجلها وأن تحرسها بالجمهرة.
ـــ يجب أن نخلق الوعي بالانتخابات، فهي السكة غير اللاعب
نحو انتفاضة الوعي بتشاؤو الفكر وتفاؤل العزيمة
لما لم يبن الترابي مشروعه على الحرية انتهى إلى الغبائن التي
ترونها
المزاج السوداني أمزجة وخصوصيته خصوصيات
دارفور من ذيول الحرب الباردة ايضاً
صفوة دارفور حملت "القبيلة" محامل لا قبل لها بها
التسوية الدرافورية بلا عربها قنبلة موقوتة
إذا كان الناس يجمعون علي حراجة الإنحشار الذي يعيشه النظام ، وما ينسحب من هذا الوضع علي الوطن ، وأنت تقول وتصفه بأنه "منعطف ولود!!" ، فما هو باعثكم لهذا التفاؤل ؟
حاصل ترتيب في البيت السوداني استغرق سنين عددا.، ترتيب داخلي شاق ودموي. ولكنه ترتيب لامهرب منه لبناء وطن مستحق للجميع. وأنا دائما ما أشير إلى أنه عبر تاريخنا منذ الاستقلال، وفي السنين الأخيرة بوجه خاص، اتفقت لنا مجموعة مواثيق في قسمة السلطة وقسمة الثروة . والحق أني لا أنظر اليها كتقسيم مجرد للسلطة والثروة بل أعتبرها خطوات باتجاه نشر المواطنة علي مواقع ومناطق واقاليم كانت مستبعدة من المواطنة وتشتكي من انعدام أثرها في السلطة. أفتكر نحن الان نسير في طريق المواطنة "السابغة" أي الشاملة للجميع. وتم هذا عن طريق صراع عنيف . وأنا أثمن وأقيم الجهادات المختلفة لأهل الأقاليم في دارفور والشرق والجنوب وكلها نهضت لأنها تريد أن تكون بعض هذا الوطن كمواطنين . وأختلف معهم في التكتيكات وأرى أنه كان بامكاننا، وبديمقراطية 1986م، أن نصل الي هذه الغايات بشكل برلماني، بشكل ليبرالي، بشكل سلمي. ولكن أحاطت بهذا الطريق السلمي ملابسات ومتاعب وتفرقت السبل. وما لم نبلغه بالسلم وبالنظام البرلماني بلغناه بالحرب والاقتتال ، وهذا ثمن باهظ ، ولكنه الثمن الذي يتوقع دفعه كل من يريد أن يبني أمة سوية. وأنا افتكر أن هذا سببي للتفاؤل بالوطن الجديد وهو أنه اكتملت عندنا معاني المواطنة السودانية. فالمواثيق المؤدية الي ذلك تحت تصرفنا ، بعضها لم يكتمل في دارفور . ومع ذلك انطبق علينا قول القائل نعرش على كده. فلم تبق سوى مرحلة تشطيب الوطن للجميع. والانتخابات التي قررت دخولها لمقعد الرئاسة داخلة في مرحلة التشطيب. وهي تمثل فرصة للسودانيين أن يختاروا مقاولي تشطيب من الدرجة الأولى. لأنه اذا استمرت الانقاذ، وهي عند الكثيرين فاقد مواثيق أو قادة مواثيق بمعنى بؤس إئتمانها عليها ، ومورطة في تواريخ مذكورة وسلبية ، فستعود حليمة لقديمها. فإذا نحتاج لفتح صفحة جديدة بالانتخابات تأتي بطواقم سياسية جديدة سواء علي مستوى رئاسة الجمهورية أو البرلمانات تكون في حل من تواريخ الحكم القديمة والحزازات القديمة والثارات القديمة والثوابت القديمة. وأهم ما نطلبه من هذه الطواقم أن تتصف بخلق الوفاء بالمواثيق الذي هو لب السياسة وما عداه هرج. ومن الجانب الاخر مفروض علينا دستوريا أن نجري الاستفتاء على وضعية الجنوب فأما انفصال واما وحدة عن طريق الاستفتاء. وهذه سكة خطرة نريد أن ينهض بها الأشداء على الحق منا: رجال ونساء جنوبيين وشمالين في قامة بناء وطن وليس رجال في قامة الكتال من اجله. نقدمهم لأنهم موهوبين في فن التنازل والمساومة وتخطي العقبات بالصبر ورباطة الجأش والتفاؤل بالسودانيين الذين يستحقون كل خير وما وجدوه. وعدة هؤلاء الإرادة الوطنية التي هي كل ما تبقى لنا من الاستقلال الجريح. وهنا مبعث تفاؤلي من أن الاشياء التي تنتظرنا ولود . ولكن كل حامل لجينات الخصوبة والوعد يحمل أيضاً جينات السلبية الاجهاض. امامنا طريقان شتى مستقيم وأعوج. ولا نريد أن نبكت أنفسنا تبكيت المتنبيء لنفسه حين قال: وإذ أهدى الطريقين التي أتجنب.
هناك رأي آخر قد لا يري في الاتفاقات - والتي تراها بناءاً كاملاً وأساساً صالحاً وما ينقصه فقط هو التشطيب - قد لا يري فيها هذا المعنى ويعتبرها ثنائيات جزئت المُشكل وعمقت النزاعات الطرفية ويستشهدون بأبوجا ؟
أفتكر أن هذه من ثوابت بعض الناس لتوا فيها وعجنوا فيها طويلاً. هذه ثنائية وتلك ثلاثية وهذه ثلاثية وقدها رباعي. حتاما. ومثل هذه الثابته ما أحرص في دعوة الناس للتخلص منه. فالاتفاق اتفاق وليس إمساكية رمضان. وليس فيها ما يحرم تجديده ومرحلته واستكمالا من مثل استكمال أبوجا بالتعويضات وغيره. العبرة ليست في فساد الاتفاقات التي بيدنا. العبرة في قصر قامة القيادة عندنا التي لا تنهض بالتبعة حتى غايتها. فهي قيادة العودة من الغنيمة بالإياب والشكوى مر الشكوى.
قيادة أم مؤسسية وآليات للدولة ؟
البرلمان مؤسسة وقيادة تشريعية ، ورئاسة الجمهورية هي مؤسسة تنفيذية ، والقضاء مؤسسة رقابة وصون. ونحن نريد أن نجدد هذه المؤسسات ونرسم الحدود بينها في حكم ديمقراطي تأخر طويلاً. فعلي سبيل المثال لابد أن نؤمن فصل القضاء واستقلاليته . فالواضح الان ان واحدة من أكبر متاعب الإنقاذ تتصل بانعدام ثقة الناس في القضاء. هناك شبهة أن القضاء لا يزعج الجهاز التنفيذي ولا يعقب عليهً. فأنا مستغرب جداً أنه لم تننشأ بين قضاتنا ثقافة حرية التعبير في أحكامهم مع أن الرقابات المختلفة تأخذ بخناق الصحافة. هناك ظلم سميته "جورا" في مقال أخير. ولما جابهتنا مسألة دارفور لم نجد في قوانينا ما أقنع العالم بأن محاكمنا الوطنية قد أعدت للأ مر أهبته. فمن المحرج أن يتخطانا العالم إلى محاكمه نفر منا لأننا لم نرتب بيتنا القضائي بصورة تسترد إرادة العدل لنا ولا تكون قميص عثمان غربي. وهذا قول عابر يؤكد علي أهمية تامين مسألة استقلال القضاء. وهذه تبعة للاصلاح من أجلها خلقت الانتخابات وتنافس المتنافسون لتحقيق هذا الاستقلال وتأمينه.
يمكن لك أن تشكو من الثنائيات ما وسعك. وأخشى أن يكون في ذلك مصداقاً لقول طه حسين بلسانه عن نفسه:"أنت شكاء بكاء كأختك الصغيرة". فأترك الشكوى وأبدأ النقد. فقد لاح صباح الفعل بالناس وللناس عبر الانتخابات التي لا يمكن أن تنعقد إلا في مناخ حريات مهما طففتها الحكومة. ولا احد بإمكانه أن يعطيك الضمانة للديمقراطية وبالأخص الحكومة، أي حكومة. فالديمقراطية تؤخذ غلابا وتحرسها بالجمهرة والطبع في نهاية الأمر. المعارضة الرسمية للإنقاذ قطعت أواصرها بالجمهرة وبدأت الشكوى. فأبوجا جاءت ناقصة أو ثنائية ليس بسبب الإنقاذ وحدها بل بسبب الأمريكيين بصورة كبيرة لأنهم أرادوا اتفاقاٌ مع حركة مسلحة غالبة على حساب حركات خافتة لحماية اتفاق نيفاشا مع الجنوب. فأبوجا صناعة العالم القوي الذي كان يمول معارضة التجمع نفسه في القاهرة. فالوعي بنقص ابوجا لا ينبغي أن يقتصر على بؤس الإنقاذ. إنه أكبر من ذلك وهو وعي باستضعافنا، عرباً نحن ونوبة، في ميزان العالم. فمسألة دارفور عولجت في أبوجا لا بقدر أهميتها بل لأنها ستمطر في حفل نيفاشا وتفسد زينتها كما يقول الأمريكيون.
وهذا سبب لنبعث فينا الوطنية كإرادة نصوبها نحو متاعبنا متمتعين بالنظر الشامل. وهذا سيقودنا إلى تحجيم القانونيين في السياسة العملية. فبعض اسباب غلبة الشكوى في نشاط المعارضة هو سيادة العقل القانوني في ممارسة المعارضين. فالقانوني لا يعتقد في حصول الشيء إن لم يصدر قانون بشأنه أو ان يلغى قانون يحرمه. يضيقون واسع السياسة كممارسة تجترح المعجزات (بما في ذلك الثورة) بتخفيضها إلى فقه تشريع وتشكى من مماطلة في التشريع. هذا مقبول من القانونيين ما ما رسوه في حيز المحاكم والمحاماة. ولكنهم حين ينقلونه بحذافيره إلى ساحة السياسة يصبح بعض آفات مهمة هدت في غير مكانها.
بالنظر لدولة الحزب الواحد والدولة الامنية القابضة ، أليس من الاجحاف تعليق كل اللوم العنيف علي الاحزاب وتشكيها ونترك حزب الدولة القابض بقوة القمع والسلاح ؟
دي الشكوى بذاتها وصفاتها .. ده تشكي برضو. الحكومة كعبه يعني حنقول الكلام ده كم مره . فنحن نقوله منذ جاءت في 1989. هل كتب علينا أن نكرر جور الانقاذ كل صباح جديد. دا حدو وين؟ ؟ ده كلام ما يصح. إنتو ما بتزهجوا ...
اذا ما هو المخرج من "حالة التشكي" في رأيك ؟
الإنتخابات ثم الانتخابات ثم الانتخابات. الحل هو تحكيم الشعب. فلو جاءت الإنقاذ بالانتخابات شن قولك؟ ننتظر انتخابات قادمة فصراع الديمقراطيين متنى.
وهل يمكن أن تقوم انتخابات في أجواء من الكبت والاستفراد؟ وهل الاجواء اليوم مناسبة لانعقادها حرة وشفافة ونزيهة ؟
شكوى برضو. هذه صنعة المحامين فينا. فطالما لم يصدر قانون إيجابي لصالح الشفافية فالإنتخابات مزيفة مقدماً.لا. السياسة غير ذلك. نحن ما ولاد الليلة. ولم تقع مآثر السياسة عندنا في شروط القانونيين للعمل السياسي. نشأنا في اليسار على ضرورة ربط العمل القانوني بالعمل غير القانوني لإنفاذ خطتنا وعلى المساومة في التراجع وعلى العزيمة في الهجوم. نلحف في المطالبة بالقوانين الديمقراطية ولا ننتظرها لنمارس ما نعتقد. وندفع الثمن. ودا مربط الفرس.
وكيف نخلق الجو ؟
يجب أن تقول للناس أن الانتخابات هي طريقنا الأقصر إلى حل الأزمة الوطنية العاولة. وحتى لو غفلنا عنها وزورها مزور في (في شرط نيفاشا) فهي أقل وجعاً في الوطن. فقد طال مدى إراقة الدماء. إنتو قلوبكم ما فيها رحمة. والانتخابات كذلك هي الوسيلة الوحيدة التي هي طوع إرادتنا الوطنية. أما بقية المخارج الأكامبوأوبامية فهي ملك مسجل لآخرين. ومن يملك من أمرها شيئاً فليورينا عياناً بياناً أن في طياتها شفاء لوطننا. علينا أن نكون إيجابيين وصادقين وكلنا عزيمة في خلق الوعي بأن الانتخابات هي المخرج الوحيد والذي بين أيدينا . يمكن أن نرجع لحرب التحرير ولكن النسخة التي نراها في دارفور منها على ايامنا هذه فمحزنة ولا تسر عدو ولاصليح. لقد جرب بعض الشماليين هذا الحل وعاد العائد منهم ملوماً محسورا. أنا دعوت دائماً لاسترداد قوى الأمة الحية من من العمال والمزارعين والرأسمالية الوطنية والهامش المدني قاطبة إلى الساحة السياسية بعد تفريغها من المليشيات والمسلحين في الحكومة والمعارضة . ولا سبيل لعودة هذه الجماعات (التي اختطف المسلحون منها السياسة) إلى دائرة السياسة إلا بالإنتخابات. وأعجبني قول السيد الصادق المهدي حين وصفها ب "إنتفاضة إنتخابية". فلن تعود هذه القوى إلى ساحة السياسة إلا بفوهة صندوق الإنتخابات. فقد تأذينا من معشر المسلحين الذين حكمونا أو عارضوا بنا بفوهة البندقية. بالديمقراطية تسمع كلام من يبكيك لا من يشهر البندقية فوق راسك. كفاية.
هذا يحيلنا الي مسألة أساسية جدا ، وانت تتحدث عن انعدام الفعل لقوى الشعب ، أليست هي نفسها مكبلة بترسانات من القوانين الاستثنائية والاجراءات الاستثنائية أيضا ؟
يا مؤيد أنا كل ما اخرج بك من الطين تعود بي إلى (الوب) اي إلى شكوى القانونيين ؟ كيف يختلف هذا السؤال عن السؤال الذي سبقه ؟
هذه دليل علي انها حالة مستمرة ؟ألا تؤخذ في الاعتبار ؟ الأصل أجواء طبيعية و...
الأصل أن تنتزع هذه النقابات من سدنة النظام. وليس هذا بالأمر الطاريء. تاريخ النقابات منذ عهد الاستعمار هو تاريخ استبدال ممثلي الحكومة عن النقابة بممثلين أخيار لمصالح العمال. فهذا هو الأصل في تاريخ هيئة شئون العمال في السكة حديد. اراد الإنجليز أن يكونوا لجان مصلحية بدلاً عن النقابة الي بدأ العمال في الحديث عنها. أراد الإنجليز أن تكون هذه اللجان أداة طيعة في يدهم ويبدو عليهم مع ذلك أنهم استجابوا لمبدأ تمثيل العمال. ورفض العمال هذه اللجان النقابية الزائفة. وكتب الرفيق قاسم أمين "وكشفناك يا نيومن" ليعرى خطة النقابة الكاذبة. وشهدت عطبرة في 1947 معارك جد لإنتزاع نقابة عمالية بحق وحقيق. ولو درست مصطلح "إنتهازي" في سيرة النقابة السودانية لوجدته وصفاً لعمال اختاروا صف المستخدم أو النظام الحاكم على التعبير الشجاع عن مصالح العمال. القصة قديمة لكين مين يقرأ يا مؤيد يا ابني. ولا تقول لي الإنقاذ جاءت بما لا عين رأت من صنوف السيطرة على النقابات بما يتواضع به فعل الإنجليز وعبود ونميري مجتمعين. كضباً كاضب.
اقول لك كلام. أعرف أن نقابة البوستة (المخصصة) معتصمة منذ أسابيع احتجاجاً على شروط الخصصة التي اضرت بهم. وانعقد خلال هذه المدة مؤتمران حزبيان تاريخيان. هل سمعت يا مؤيد اي قرار لصالح هؤلاء العمال والموظفين من المؤتمرين بغض النظر عن من يسيطر عليها من الحكومة أو المعارضة. لقد أبت نفسي إلا أن أغشاهم لوقت قصير في اعتصامهم واستمعت إلى نقابي منهم حول مظلمتهم بعد تعريفي بنفسي.
يشكون من سيطرة الإنقاذ على النقابات وتزوير الانتخابات ثم تضرب نقابة ضد الخصخصة البغيضة ولا معين وما زلوا يشكون من الإنقاذ التي وسعت كل شيء وأدخلت النقابات في حظيرتها. ود اسمو كلام. أما المحامون المعارضون فقد أصبح انسحابهم من انتخابات نقابتهم هو غاية همهم.
تنسحب اعتراضا علي أجواء معينة.
لا تنسحب حتى تكتب عند الناس منسحباً. تنسحب لتستعد للجولة الثانية. فالنقابيون المعارضون ينفقون الفترة بين الانتخابات في حالة بيات مهني وسياسي. فدائماً تفاجئهم نقابة فتحي خليل بالانتخابات وهاك يا شكوى. فالمعارضون لا ينتهزون فرصة ما بين الانتخابات لخلق رأي عام حول الإصلاح القانوني واستقلال القضاء وديمقراطية القانون لا بطق الحنك في ندوات مبعثرة هنا أو هناك. بل بسلاسل لنشر كتب عن هذه القضايا وسمنارات بل ومراكز للبحث في متاعب المهنة وآفاقها. فقد انحل معهد التدريب والإصلاح القانوني بجرة قلم ومحامي المعارضة غائبين عن ساحته جملة واحدة. الشاهد أن المحامين المعارضين حين ينسحبون لا يعودون لإنتخابات العام الجديد داعين إلى وعي مبتكر بالقانون وبالمهنة يجذبون به أهل المهنة على الحق. فهم يعودون يمضغون سياسة محضة كممثلين للمعارضة. لا يأتون اصالة عن انفسهم كأهل مهنة للعدل والانصاف بل ككادر معارض من نوع العشرة بقرش.
لابأس في الانسحاب ما دعت له الدواعي التكتكية. لكن لا تجعل منه سيرة.
أين ترى جذر النزاعات والصراعات في السودان؟
أولاً أنا أفتكر أنها صراعات مشروعة . لا أبدأ بالتحسر منها. وجذرها في أن في القومية الشمالية السودانية (التي ابتدرت الحركة الوطنية وافتصرت عليها لزمن طويل) نجحت في مسألة التحرر الوطني واطاحة بالانجليز لكنها فشلت في انجاز الخدمة التالية والمتمثلة في عمل إلفة في هذا البلد. فمدار الحركة الوطنية الشمالية (وحركة الخريجين خاصة) السودان النيلي المشبع بتراثه العربي الاسلامي. فقد كان من أحب شعارات هذه الوطنية أنها: (أمة أصلها للعرب ودينها خير دين يحب). فحين تتحدث عن العلاقات الأزلية مع شعب أخر فهو عن مصر وحين تنفعل بالمحن في العالم تحظى فلسطين مثلاً بقصب السبق. وحين آل الحكم بالاستقلال لهذه الجماعة لم تنتبه لوجود لغات اخرى وعقائد أخرى وعلاقات أزلية أخرى. فمثلاً العلائق الأزلية للجماعات السودانية عديدة. فقد اتضح بالتدريج أن للغرب علاقة أزلية بشاد وأن للشرق علاقة أزلية بأرتريا وهكذا. فالسودان ذو علائق أزلية لا ذا علاقة أزلية. وهذا باب رحب في التنوع السياسي. لقد جاءت هذه العلائق العديدة إلى الساحة السياسية بإطراد دخول الأقوام السودانيين غير الشماليين ساحة الممارسة السودانية.
لم تحسن حركة الخريجين سياسة تكوين الأمة- الدولة حين التزمت بما نشأت عليه من تقاليد ووجهات. ولكن سرعان ما اقتحمت قوى نسميها بالهامش ساحة السياسة تباعاً. وسارعت أخطاء صفوة الخريجين هذا الاقتحام العنيف. فقد هزت سياسات هذه الصفوة حياة الهامش فأجبرتهم على النزوح والتسيس بصورة إثنية لا قومية. فحتى قيام نظام 17 نوفمبر 1958 مثلاً وقف الانجليز حائلا دون دخول اي استثمارات رأسمالية الي مناطق جبال النوبة لتجنيبهم الانفتاح على الشمال العربي المسلم في ما عرف بسياسة المناطق المقفولة. وبدخول نظام 17 نوفمبر بدأ المعاشيون من الأفندية والضباط في شغل استثماري فتحت الحكومة لأجله أراضي جبال النوبة في هبيلة وغيرها بغير شرط أو وازع. وسهل لهم البنك الزراعي الاقتراض لأجل مشاريعهم. بل وجدوا تشجيعاً من البنك الدولي الذي رأى في مشاريع هؤلاء المستثمرين الآلية منارة للحداثة في ظلمات الهامش البدائية. هكذا بدأ إزعاج هؤلاء القرويين الأمنين لاقتصادياتهم المعيشية الطبيعية باتجاه المدن لتتشكل لهم فهوم جديدة ووعي جديد بالحق والظلم. ولذلك فبالامكان أن نعزي ما تسمى بحروب السودان الأهلية لمثل هذه السياسات الجشعة التي تدثرت بثوب الحداثة. فالريف السوداني غاضب على الحكم غضباً مشروعاً. واختلفت مع قادتهم في التكتيك العنيف لا في مشروعية طلبهم للعدل من ظالميهم. فكنت أنقد الحركة الشعبية في أنها لم تعط الديمقراطية أو البرلمان فرصة يزم رفضت أن تكون طرفا في برلمان 1986م وكان بامكانها ان تكون القوة الوحيدة في البرلمان ضامنة ديمقراطيته وعدله . وافتكر أنه ما زال للديمقراطيين منا في الشمال والجنوب نقداً مستحقاً للحركة الشعبية التي لم ترم بثقلها إلي جانب القوى الديمقراطية لتمكين الديمقراطية. بل انتهت إلى جذبها هي نفسها إلى ساحة الوغى. وحرب النظام الديمقراطي حرب سهلة.
صفوة القول إن لهذه النزاعات المشاهدة أصولاً مادية وتاريخية. فقد حصرت الحركة الوطنية الخريجية خيالها في الشريط النيلي ولم توفق إلى تضمين الهامش في خطابها او ادائها. وما تزال ترى هذه النزاعات كأوجاع مؤقتة أو مملاءة من الخارج. فهي قد تضطر إلى عقد اتفاق أو آخر مع زعمائها ولكن ما في القلب في القلب وتعود حليمة إلى قديمها. وهذا طريق الأشغال الشاقة في بناء الوطن فمتى نختصر الطريق إلى وطن حر سالم ديمقراطي.
هل تتحدث عن قومية شمالية أم ...(مقاطعاً)..
أنا أسمي الحركة الوطنية التي أدمنت الفشل بقومية الشماليين بقواها من الأفندية البرجوازية الصغيرة وأهل الإرث الطائفي والقبلي . وفي الجانب الاخر أجد حركة العمال الوطنية وهي طاقة سياسية وخيال سياسي بخلاف وطنية القوميين الخريجين. وضربت دائماً مثلاً بتهافت الخريجين على السودنة حتى نسوا الجنوبيين منها أو كادوا. وأنظر في الجانب الآخر للعمال يطلبون من الحكومة الوطنية الأولى تطبيق مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي لرفع مرتبات المستخدمين في الجنوب إلى وضع الشماليين. وكانوا يريدون السوية في الوطن لرفع تمييز الإنجليز للشماليين على الجنوبيين من حيث الأجر. وفعلوا الإنجليز ذلك لسوء ظنهم ب" الزنج" الذين إذا كثرت نقودهم سكروا وأفسدوا في الأرض. ، الحركة العمالية كانت واعية أن المسألة ليست في ان "تكبر كومك" ، بل في أن تتنازل عن كومك أو أن تقتسم كومك . وفي حال أنك لم تقم بذلك سيكون الاستقلال مفخخا بهذه المظالم التي صنعها الانجليز وسترثها وتصبح هي أنت مع أنك لم تقم بها أول مرة. وهذه ما حدث . وأصبحنا الاستعمار الذي لم ير صفوة الهامس مثله استعماراً حتى في المستعمرين الإنجليز. إن جريرة حركة الخريجين وصفوة الإرث كبيرة. ولم نبدأ بعد في فهمها على وجها الأكمل وبخاصة حين نعممها لتصبح عاراً لكل الشماليين لا لقوى من قواهم. فقد تركت الحركة الوطنية العمالية إرثاً كريماً في العلائق مع الآخر يتغاضى عنه الكاتبون العجولون.
كيف يمكن أن نفسر الاستعدادية العالية من العنف والمتصف بها النظام الحالي ؟
علينا أن نجيب أولاً على سؤال كيف يقاس الظلم ؟ وقياسا علي ماذا ؟ لماذا نخص نظام الإنقاذ بالاتصاف بالعنف العالي ونتغاضى عن نظم الفريق عبود والمشير نميري. أفضل دائماً أن أرى نظام عبود ونظام النميري وهذا النظام كنظم متصلة غير منقطعة في مادة العنف. ووصفتها من قبل بأنها جميعا خرجت من "نقتيف" واحدة. وجذر المسألة في القومية الشمالية الخريجية التي لم تستطع أن تبني الوطن بشكل عادل ومنصف. وما أن ينقلب الهامش عليها حتى يتدخل الجيش بالانقلاب لحماية بيضة الوطن . ويستمر في حكمه لست سنوات أو 17 عاما أو 20 عاما بشريعة واجبه في حماية وحدة البلاد . في رأئي لا بد من الربط بين هذه الأنظمة الثلاثة حتى نقيم سياساتها علي نحو أكثر عمقاً نتعرف به على سياسة الفئات الاجتماعية الحظية في الشمال . معلوم أن جميعها نظم عنيفة . ولكن المعارضة الضريرة للإنقاذ تميز بينها مع ذلك. فنظام عبود يا سلام موية بس ونظام نميري والله مش بطال لكين ديل جونا من وين ديل. وقاعدتهم في هذا التمييز بسيطة. فالنظام الأعنف الورانا جديد ما كان على بال هو النظام الذي يواجههم لساعتهم التي هم فيها. وحين يأفل هذا النظام الفظيع يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا تبسيط وربما ضيق خلق ولكنه ليس من السياسة في شيء. فالسياسي والمواطن ليسا ملزمين ب "العزل" بين النظم المؤذية. فحتى لو كان بين النظم المؤذية نظاماً خف ضرره فتفسير ذلك في بطنه لا في منشأ العنف وتطبقاته وما يتحقق له منه. ما الذي يجبرني كمواطن على قبول الظلم الخفيف دون الظلم الثقيل. لا هذا ولا ذاك. التمييز بين الظلمة من حيل المعارضة وتأجيجها لأنهم يريدون لنا أن نعارض النظام القائم بشروطهم لا بوعي يحاكم كل تلك النظم المستبدة محاكمة تاريخية نهائية. وربما حاكم هذا الوعي أحزاب المعارضة حساباً أعسر.
عبود لم تكن له حربا دينية تصنع شرخا اجتماعيا كبير ؟
هذا غير صحيح . من فرض يوم الجمعة عطلة علي الجنوبيين بدلاً عن الأحد ؟ من فرض عليهم دخول المعاهد العلمية كرد على مدارس التبشير؟ أول تمرد أو حركة سياسية لوليم دينق وجوزيف ادوهو تجمعت سحبها احتجاجاً على هذه الإجراءات الثقافية. وسميتها في موضع آخر ب "البلدوية" والأشارة إلى السيد علي بلدو مدير الإستوائية الذي هو أول من استخدم الدولة كجهاز للتبشير بدينه طمعاً في حل المعضلة السياسية التي واجهها.
ما قصدته أن عبود لم يصل مرحلة أن يقول أن الجنسية السودانية هي لا اله الا الله وأن وثيقة السفر السودانية هي محمد رسول الله (ص) ؟
أنت أيضا تميز بين عبارات من يظلمك بفرض تفسيره لدينه عليك. ولماذ اتسامح مع عبود لأنه لم يقل شئياً قالت به الإنقاذ مع أنه سبقهم إلى كومهم في تديين الدولة.
أنا أميز الفعل الاكثر ضررا علي وحدة البناء الوطني ؟
ليس هذا من النباهة في شيء. أن تقول من يضرالبناء الوطني أكثر هو الملام . من أعطاك حق اسقاط العفو عن الذي أضر ذلك البناء على خفيف. هناك وحدة في هذه الأضرار لا ينبغي التغاضي عنها بأسباب معارضة سياسية يخدم "العزل" بين النظم المستبدة عاجلتها المعارضة فتنسى مقتضى النظر السياسي والتاريخي السديد. فبين النظم موضوع حديثنا وحدة في التراكيب هي الأجدر بعنايتنا. اما مقادير ضررها فهذا حديث لا نفع منه. أنا شخصياً لا أحتمل أن يؤذيني نظام أذى خفيفاً كان أم ثقيلا. وكانت يا عرب.
كيف تصف الطريق إلى "انتفاضة وعي" بإمكانها أن تبطل حروب التجارة السياسية والاقتصادية المقنعة في السودان وتفتح مسارات جديدة لحلول مغايرة؟
عن طريق ما اسماه الفيلسوف الإيطالي قرامشي "تشاؤم الفكر وتفاؤل العزيمة". بمعني أن نشعر بالطمام من أفكارنا التي أوردتنا مورد التهلكة المشاهدة. أن يحس كل منا أن حمار فكره قد وقف في العقبة. أن يعيد النظر كرتين في ثوابته. فكل ما ثبت استعصى على الريح فأنكسر. وكثيراً ما كررت قانون الحفر الأمريكي لوصف فساد الفكر عندنا. فالقانون الأمريكي يقول إذا وجدت نفسك في قاع حفرة فأول ما عليك عمله أن توقف الحفر. وقد كتبت كتابي "بئر معطلة وقصر مشيد" عن إفلاس الفكر السياسي السوداني لتحذير الحافرين في الحفر أن يتوقفوا حتى لا تذهب ريحهم. ومجاز البئر والقصر قرآني كما هو معروف. وصف به الباريء كيف تنضب البئر التي بنت القصر بينما تظل حيطانه مشيدة إلى يوم قريب. أما الشق الثاني من عبارة قرامشي فهو ما أحاوله بخوضي انتخابات الرئاسة. فقد أردت تدشين ممارسة سياسية إيجابية (شاقة وربما مستحيلة ولكن أرجوك ألا تساعدني بالإشفاق عليَّ لأنك ربما اسرفت في الوصاية. ساعدني بوجوه أخرى عديدة). وقصدت من ترشيحي أن يكون رافعة لقوى التجديد والمخاطرة في فكرنا. نسترد بها السياسة من الهرج ونزيل آثار عسكرة الحياة المدنية ونبني جسورنا ببعضنا البعض نحو إلفة في الوطن. فتفاءلوا بالوطن تجدوه. و انتفاضة الوعي هذه تخلص من الفكر إلى العمل ومن العمل إلى النهضة نستبدل بها دورة الفكر الخبيثة التي تترواح بين "القطيعة" في النظام القائم التي تدمنها صفوة النادي اليساسي ونصحه على طريقة "نصحتهم نصحي بمنعرج اللوى". وهي دورة يظن المصابون بها أنهم أبطال مجهولون وما عرفوا أنهم متورطون كبار في النظام. فقد لا يكونون في واجهة النظام أو متمتعين بوظائفه ولكنهم هم مثله أيضاً مفردة في الأزمة الوطنية العامة ومن ثمار التراكيب الاجتماعية والثقافية والطبقية التي خرج منها النظام. إنهم والنظام في هذه الرحلة الخطرة في الوطن. ولربما كان هذا هو سبب عقم معارضتهم المتخيلة حتى بلغت عقدين من الزمان والجايات أكتر من الرايحات. أردت بترشيحي تجديد العزيمة للتغيير بفكر متشائل (متشائم متفائل في نفس الوقت) كما جرت العبارة.
كتبت كثيرا عن فكرة الترابي وخلعت عليه صفة "المجدد" من بين صفات اخرى . فكيف تحاكم نموذجه ، ما كان منه وما آل اليه ، في الحكم ؟
أولا لم يأت الترابي للسلطة في 1989 بطريقة شرعية . وحتى في عهد نميري جاءها بمصالحة وبعد فشل تجربة العنف والغزوة. اما المساومة فلا غبار عليها لولا ان الترابي حين عقدها لم يلتزم باشراط المساومة. فانت لا تساوم في جوهر دعوتك . فلم تكن قوانين سبتمبر الإسلامية التي فرضها النميري في 1985 أصلاً عنده. فقد اكتفى قبيل صدورها بصورة متدرجة لتطبيق الشريعة اقتصرت على " مواءمة القوانين السائدة بمقتضيات الشريعة " كان هذا حجم طموح الحركة الاسلامية وسقفها. وقد استخف النميري بجهود اللجنة التي طابقت بين القوانين والشريعة حتى أنه لم يعرضها على جمعيته التشريعية. وانقلب عليها بليل. وجاء بقوانين سبتمبر التي حرص ألا يعرف الترابي عنها شيئاً قبل إعلانها على الملأ. وكان يلزم أن يكون للترابي عند هذه الخادثة حديثاً ولم يفعل. فتحمل وحركته وزر قوانين جرى تصميمها لتمديد أجل نظام كان يترنح نحو النهاية. لقد ميزت الترابي كمفكر إسلامي لم يسعفه المؤمن القوي أو الحنيف لخدمة الحرية كغاية وفرض. فقوله في معرض كشفه لملابسات انقلاب 1989 إنه ذهب إلى السجن بينما سار البشير للقصر سيلاحقه أبداً بوصفه عبارة شاذة وشغل استغماية لا يجدر براع مسئول عن رعيته. وأتذكر لي مأخذاً قديماً على حرفته السياسية. فقد رفعته إلى مسرح كلمته المعروفة في ندوة أكتوبر 1964 التي اشترط الحرية لمسألة الجنوب. وما أن دخل البرلمان بعد الثورة ختى دعا إلى دستور إسلامي لم يراع فيه شرطه الحرية في معالجة أمر الجنوب الذي لم تجر انتخابات في أكثر دوائره بسبب انفراط الأمن فيه.
أنا معجب بمشروعه التجديدي الإسلامي ووجدت فيه مرونة لمن أراد من موقعي في اليسار أن يكون يسارياً مسلماً لا مجرد يساري يحترم الإسلام كعقيدة. ولا زلت أعجب كيف لم يجد مشروعه هذا سياسياً فيه يزكيه للناس بالصبر والموعظة الحسنة. وأنا معجب بنفاذ بصيرته في بناء حركته في كتابه عنها الذي وصف فيه نهجها وكسبها. ولما لم يبن الترابي سياسته على التزام الحرية انتهى إلى ما هو إليه الآن غبيناً من حيران جفوه أوزعيماً على قسم صغير من حركة لم تعد شيئاً مذكورا.
بعضنا يصف مشروعهم في الحكم بـ "إسلام القشور":نموذج اسلام ألوان دهانات واجهات المحال التجارية ولبس الظاهر دون الجوهر ، وليس هو بالمشروع العميق الذي يخلف اثرا راسخا علي المجتمعات ، فاين مصدر الحيوية في الحركة والذي تحدثت وكتبت عنه ؟ هل الامر فقط متعلق بشخص وكاريزما الترابي ؟
لا. كان للحركة الإسلامية وما يزال مكانها في السودان المستقل عن الاستعمار. وبخاصة أن الاستعمار ليس مجرد نظام سياسي أو اقتصادي وإنما حركة تبشيرية دينية أيضاً يطمع في حمل من استعمرهم على عقيدته أو على سوء الظن في دينهم على الأقل. فالإسلام إذاً مضاد حيوي ثقافي لا غنى عنه ضد مهمة الاستعمار التبشيرية. ولكن كريزما الترابي وعزائمه هي التي تنزلت بالدعوة والحركة إلى أرض الواقع.
من الجهة الأخرى فإن الذي صبغهم بالإسلام الذي وصفته هو مسارعتهم غير الرشيدة ولا الماكرة (بالمعنى القرآني الذكي) لتطبيق الشريعة. فقد وصفت لك في إجابتي الماضية كيف أن الإسلاميين ذوي السابقة المعروفة في محاربة الاستبداد قد حالفوا في أخر أيامهم المستبد خصماً على عقيدتهم أو كانوا هم من استبد بالانقلاب. فالانقلاب ابتذال. فبه تبدو الفكرة التي لم يأذن بعد وقتها دانية القطوف. فلا يواليها صاحبها ولا يصبر عليها بنقص الأنفس والثمرات حتى تلقح العقول والأفئدة وتقع موقعها في التاريخ مستريحة ومريحة. وقد بينت في كتابي عن البئر المعطلة والقصر المشيد كيف أن دعواهم لتطبيق الدستور الإسلامي منذ الاستقلال قد افقدتهم الحس بالتاريخ ومنازل العقائد من الناس والحياة. فلم تبلغ الحركة الإسلامية فقها الجريء عن المرأة كفاحاً. فقد احتاجت للحركة الشيوعية لتخرج من الفقه أكثر معانيه نصرةً للمرأة. فقد ضنوا على الشيوعيين أن تتحرر المرأة على يدهم كما كان الحال المشاهد في الخمسينات فغاصوا في بحر فقه الإسلام وجاءوا منه بما اجتذب النساء فأصبحن ناشطات في الحياة والسياسة على محجة الإسلام. وهذا نوع من التمرغ في الخصم يقويك لأنه لايقتلك.
كانت الحركة الإسلامية من بعد جهادها في أكتوبر قد تهيأت لقفزة كبرى. وكان الترابي هو من تغرب وتأهل وضحى ليقودها في سكة القفزة الكبرى. وصارع التربويين في الحركة ممن أردوا لها أن تكون جماعة تتربى فكراً بمعزل عن السياسة حتى يأتي يوم أن تخرج للناس بالحق. وصرعهم بحجة أن السياسة هي التربية الأمثل ومن جافاها نقصت تربيته.
إلى أي مدى تعتقد أن "مشروعه" للسلطة ملائم ومتسق والمزاج السوداني والخصوصيات الدينية عند المجتمعات السودانية ؟
للمجتمع السوداني أمزجة تاريخية. وخصوصياته التاريخية عديدة. ففي عهد الفونج اتسع للزبالعة المظنون أنهم باطنية مترخصون وخصومهم المتحنبلة الذين شنوا عليهم حرباً طويلة. واتسع للتقوى الصوفية ولتقوى الشرع الدقيق. وكان هذا مدار كتابي "الصراع بين المهدي والعلماء".هذا من جهة. أهم من ذلك كله أن لا نعطل بمثل عقيدة المزاج والخصوصية اجتهاد من يريد أن يخرج عنها إلى سكة أخرى في الدين. وها ما حاولته الحركة الإسلامية في سياق ابتلاء المسلمين بالحداثة. فخلافاً للحداثين في بلاد الإسلام أرادت الحركة الإسلامية في السودان (وهي واحدة من أذكى تلك الحركات) أن تأسلم الحداثة لا تحدث الإسلام. وهذا مطلب جديد للمسلمين ولا غبار على الاجتهاد فيه ولا يحق لمعترض أن يقول لهم إنهم بذلك إنما يخرقون ما اتفق لنا من مزاج وخصوصية. ألم ينه الإسلام نفسه عن الإنكفاء على ما وجدنا عليه أباؤنا؟ وأقول عرضاً إن القائلين بهذا المزاج المستقر الثابت للإسلام السوداني إنما يجترون قولاً قديماً للقس ترمنغهام في كتابه "الإسلام في السودان" الصادر في 1946. وقد لا نتوقف عند صفة الكاتب ولكن عام 1946 موغل في القدم يا ذووي الألباب.
اليس في تطبيع فساد وافساد الدولة واستشراءه علي نحو غير معهود بالمرة ، اليست هذه وضعية او ثقافية سياسية طارئة وجديدة ؟
أراك تصر ان تخص الانقاذ حصريا بهذه الاشياء . في مثل عمرك كنت أعتقد أن نظام عبود هو الذي أفسد واستشرى فساده وورانا جديداً ما كان على بال. مثل العقيدة المعارضة التي جاءت في سؤالك قد تصلح في باب مقاومة النظم موضوع الحديث ولكنه لن ينفعنا إذا أردنا لبلدنا النهضة فينعتق من ربقة تاريخ لفساد في الدولة أطول عمراً من الإنقاذ. وكان يضيق بي معارضو الإنقاذ الرسميين حين أقول بذلك. فهم كارهون للإنقاذ لا يريدون أن يشركوا بها أحداً. ويظنون بمثل قولي الظنون مثل إنني أخاف الإنقاذ أو اتزلف لها. وكنت اقول لها حين أضع الإنقاذ في مسلسل الحكومات عندنا فأنا إنما أكرهها بحق وحقيق. كراهية فقه وعلم ونظر وعزيمة. فطريقتي في النظر إلى الإتقاذ كأعلى مراحل النظم المستبدة التي عرفناها حتى الآن مما أكشف به جذور التركيبات الاجتماعية والطبقية الفكرية والثقافية التي ولدتها كما ولدت سابقاتها. وهذا منهج يأخذني من التركيز الأعمي على فضح نظام سياسي قائم إلى فضح هذه التراكيب في المجتمع والاقتصاد والثقافة التي ظلت تستنسخ النظم الجائرة منذ الاستقلال. الذين يقولون بان الانقاذ جاءت بما لم يسبقهم اليه الاوائل يريدون اعتقالنا في مشروعهم المعارض الذي يقتصر على تغيير الحرس في النادي السياسي ولا يريدوننا ان نفكر في مشروع معارض أفضل بمعنى أن يطوي النظم المستبدة جميعها في جناحه لينفذ إلى تراكيبها المستبدة النشطة المستقرة. هذا من نخاع السياسة.
كيف تصف ما حدث ويحدث في دارفور؟
هو نزاع معقد جدا . مثلاً هو ذيل من ذيول الحرب الباردة. فوفرة السلاح في الإقليم التي جعلت النزاعات دامية كثيرة الضحايا ترجع للمواجهة الأمريكية القذافية في أوائل الثمانينات. أقول لك حاجة. انفق القذافي ليؤمن مصالحه في تشاد نحو إثنين ونصف بليون دولاراً في الأسلحة وانفقت أمريكا لصالح حلفائها ومن حلفائها مبلغ بليون جنية. وصار السلاح شائعاً حتى قدروا أن بالولاية قطعة سلاح لكل بالغ من الرجال. وأرخص هذا بسعر السلاح في المنطقة حتى قدر أحدهم في الثمانينات ثمن الكلاشنكوف في أسواق دارفور بنحو 75 دورلاراً. ولما كثر الموت نتيجة لهذا السلاح تعذرت الديات التي كانت تكبح لفداحتها العدوان. وأصبح دفعها يؤجل مما يوغر صدور أهل الضحايا. فاصبحت مجالس الصلح زي بعضه لأنها لا تفصل في الخصومة فصلاً نهائياً يبدأ به أطراف الصراع صفحة جديدة. صراع أأفيال الحرب الباردة (القذافي المدعوم من السوفيات وأمريكا) وطأ الحشائش ونشفها. فقد اضطرت جماعات تشادية لدخول السودان هرباً من شيء أو طمعاً في شيء فهزهزت نظم دارفور السياسية وربما استخدمها النظام لمآرب سياسية عاجلة.
الحكاية طويلة. وتناولتها في كتابي "اصيل الماركسية: المقاومة والنهضة في ممارسة الحزب الشيوعي". ونقدت فيه من حلل الأزمة في دارفور بالنظر إلى العرق أي الثقافة بردها بصورة بسيطة إلى عدواة العرب والزرقة. فقد نظرت إلى أساس النزاع المادي في نظم تاريخية لتملك الأرض في دارفور في ظروف طحن الجفاف والتصحر جماعات لم تجد بداً بغريزة الحياة من خرق أعراف ذلك التملك. كما نظرت في المناشيء الرأسمالية في دارفور التي ابطلت الإتيكت الريفي بين الرعاة والمزارعين لأن كل أمريء بما ملكت رهينا فأغلق الباب على نفسه ولنفسه فقط.
لعل أعقد جوانب قضية دارفور هي مسألة قيادة الصفوة المتعلمة لها على خطة حرب التحرير. ولم نخضع هذه القيادة لمبضع النقد. وقد سلمنا لها بالقيادة على جمهرة دارفور بغير فرز. بينما نبه الدكتور آدم الزين إلى أن لقضية دارفور جانبان. فهي ضد تهميش المركز لدارفور كما أنها صراع أثني بين الدرافوريين حول الموارد. والصفوة المتعلمة معنية يالنزاع مع المركز كما ورد في كتابهم الأسود. ومطلبهم عبارة عن صدور طبعة دارفورية متأخرة للسودنة. وقد اضطربوا كثيراً في الماضي بين تحالفات مختلفة مع المركز. فهم مع حزب الأمة الذي حصد دوائرهم الانتخابية دائماً أو مع الإسلاميين الذين فارزوا بأول دائرة جغرافية في 1965 بدارفور. كما تحالفوا مع مايو وانتفعوا من الحكم الإقليمي. ولم يظهروا أبداً تعاطفاً مع اليسار والدعوة للدولة العلمانية التي يلحون عليها حالياً. ربما كان مناسباً الآن أن يجري هؤلاء القادة نقداً ذاتياً لهذا التاريخ مع المركز الذي ضيعوا فيه لبن الدولة المحايدة تجاه الدين القائمة على المواطنة. من الجهة الأخرى سلمنا لهم بالقيادة على أهلهم بشأن النزاع الأهلي الداخلي. وهم أبعد ما يكون حسساً به. وقد نقدهم الدكتور شريف حرير بصورة صائبة حين قال إنهم استخدموا "القبيلة" للجاه الإنتخابي الإقليمي وضد المركز الظالم ولكن غاب عنهم دائماً أن "القبيلة" كيان محلي لا يصح أن تحمله محامل في العدواة يصعب التراجع منها للعودة للعيش الآمن في السياسة المحلية. فجمهرة كادحي دارفور تعكر وتصفو. تحارب جيرانها ثم تخلد إلى السلم لأن هذا منطق العيش هناك. ولكن الصفوة التي تسنمت القيادة من الإدارة الأهلية وكبار القبيلة لا تخضع لهذا المنطق. وتبرر ذلك بجعل الأولوية لحرب المركز حتى يستجيب لمطالب دارفور جمعاء. إن معاناة جمهرة دارفور المشاهدة نجمت من مثل هذا الزيغ في القيادة.
ولكن ربما كانت اقل القضايا وضوحاً (من جهة البحث لا الإدانة) في مسالة دارفور هي قضية العرب فيها عامة ورحل البادية الشمالية الصحراوية فيها المعروفين ب" الجنجويد" خاصة. فقد تعاورتهم سنوات المحل الطويل الطارد. فاصبحوا عملياً بلا وطن صغير. وشاركهم الزغاوة في هذه المحنة الوجودية. ولكنهم حلوا مشكلتهم بطرق الهجرة والتأقلم مع البيئات الجديدة. أما عرب أبالة الشمال فقد اضطروا إلى حلف سيء السمعة مع الحكومة لكسر "عصيان" حركات التحرير في دارفور بما أسماه أليكس دي وال "قمع العصيان بأرخص ثمن". فهذا كان كل ما بوسع الحكومة عرضهم عليهم كمواطنين ضاقت بهم ديارهم وعز فيها المعاش. وأفسدوا بذلك قضيتهم في نظر العالم وهي قضية هم فيها ضحايا نظم طبيعية وبشرية (بما فيها من صدوهم عن حواكيرهم) حكمت تملك الحواكير في دارفور. ويحدق شبح مسألة عرب دارفور الآن بالمساعي القائمة لتوفيق الأوضاع بدارفور نحو التسوية الشاملة . . .
هؤلاء العرب عبر التاريخ كانوا حلفاء للسلطة في المركز فكيف يمكن ان نفهم انهم علي الدوام الطرف الأضعف ؟
لا يعني هذا أنهم بغير متاعب لا بد أن توضع على طاولة أي مفاوضات وبوضوح. فلا يصح أن ندير لهم الكتف السياسي البارد بمؤاخذات مثل ما نسب إليهم من تجمع عربي قرشي أو نحوه. نعم كان بعضهم حلفاء للحكومة في "تعريبها" للسياسة العسكرية في الجنوب ثم دارفور. ومنهم من حالف القذافي في مشروعه للتمكين العربي المضلل. ولكنهم أيضاً ضحايا هذه السياسات. وينبغي أن ننظر إلى ما هو أبعد من هذه المشاهد للوقوف على متاعبهم التي ربما أملت عليهم هذه الأحلاف سيئة السمعة. فهم مثل البدو جميعاً اقل الناس حظاً في التعليم والخدمات قياساً بالمزارعين. وهذا ربما ضيق فرصهم في الحوكمة المحلية والقومية. علماً بأن دارفور هو إقليم سادت فيه صفوات الزرقة دائماً. ومن الحصافة أن لا نحجبهم عن التسوية في دارفور بالنظر إلى أحلافهم التي ربما كانت أحلاف مضطر أو فقه ضرورة. ربما كرهنا هذه الأحلاف التي قوت حكومة مركزية لا نحبها. ولكن السلام المستدام لدارفور يقتضي أن لا يكون عربها خارج المعادلة وإلا بذرنا بذلك تيراباً لفتنة جديدة.
المسألة كبيرة يا مؤيد. ولكن الله يكبر العقول لنستوعبها ونحتويها بالبحث كما بشر بذلك الدكتور آدم الزين بدلاً عن الفتنة.