اِسْتِنْزَافُ اَلْمَوْرِد اَلْبَشَرِيِّ والاقتصاد البنفسجي
د. نازك حامد الهاشمي
5 December, 2023
5 December, 2023
يتسع مفهوم الموارد ليشمل الموارد الطبيعية وغير الطبيعية بأنواعها، ويمكن تعريفها بأنها كل ما يفيد ويساهم في قيمة المجتمع والحياة؛ بينما يشير مفهوم المورد البشري إلى الإنسان الذي يحافظ على البيئة ويهتم بها، ويعمل داخلها من أجل سد احتياجاته وتحسين طرق الحياة، وتطوير المجتمع وبناء الحضارات. ويتكون المورد البشري من أفراد السكان أو القُوى العاملة باختلاف مؤهلاتها، تلك التي تخدم المجتمع في كافة مجالات الحياة.
ويزخر معجم إدارة الموارد البشرية بعدد من التعريفات لمفردة "الاستنزاف" لهذا المورد، وذلك بحسب موقع هذا الاستنزاف. ففي المؤسسات يقصد باستنزاف الموارد البشرية مغادرة الموظفين للمؤسسة سواءً لأسباب طوعية أو الزامية كإنهاء الخدمة أو الاستقالة أو التقاعد أو الوفاة، وحين يشعر الموظف بأن المؤسسة لا تلبي طموحه، أو عندما لا توجد خطة لدى المؤسسة لملء أو استبدال الوظائف الشاغرة لديها، أو عندما تواجه المؤسسة مشاكل تتعلق بظروف التشغيل أو الإدارة. كذلك قد تُستنزف الموارد البشرية على مستوى الأقطار في الحالات المصاحبة لإجراءات الأنظمة القمعية وتلك التي يعوزها الاستقرار السياسي، عبر التغييب بالاعتقال أو تكرار الاعتقال والمطاردة والاغتيال وكافة الممارسات العنيفة ضد الإنسانية. وهذا يُعد استنزافاً على المدى الطويل قد يتسبب في هجرة الموارد البشرية إلى خارج القطر.
كذلك تُعد ظواهر عدم الاستقرار العالمي أيضا وجها ممن أوجه الاستنزاف للمورد البشري بسبب الحروب الأهلية والكوارث المناخية المستمرة التي قد تفضي لخلق مشهد معقد من المخاطر المتشابكة. وتعتبر الحروب من أسوأ ما قد يمر على البشر وذلك لتعدد آثارها الصحية الجسدية والنفسية على الأفراد سواءً أكانوا مدنيين أو عسكريين، ونتائجها الكارثية من وفيات وإعاقات واضطرابات نفسية وعقلية؛ بالإضافة إلى آثارها الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة، التي قد تطال مثلاً تدمير البنية التحتية التي تدعم الصحة العامة للمجتمع وقطاعات الأنظمة الغذائية، والرعاية الطبية، والنظافة، والنقل، والاتصالات، والطاقة الكهربائية، وغيرها.
لقد أحدثت الهشاشة السياسية والاقتصادية في السودان طوال كل العهود السابقة وما حدث فيها من صراعات مسلحة، تأثيرات سلبية عميقة على القطاعات الاستراتيجية المختلفة وعلى المجتمع في كافة المجالات. ويُعتبر القطاع الصحي أحد القطاعات التي تتضح فيها بسرعة نتائج تلك الهشاشة السياسية والاقتصادية بصورة واسعة. ويبدو ذلك واضحا على القوى العاملة الصحية في البلاد، وفي آليات تقديم الرعاية الصحية الأساسية للمواطنين. كما تواجه سياسة القوى العاملة الصحية تحديات هائلة في ظل سياق اجتماعي واقتصادي وديموغرافي وصحي سريع التغير في البيئة السياسية والاقتصادية الهشة، ويترتب على ذلك هجرة القوى العاملة الصحية، أو سوء توزيعها الجغرافي، مع نقص في التمويل وضعف في الإدارة. وتشكل كل تلك الآثار مخاوف خطيرة في سياق النمو السكاني السريع، والتوسع الحضري، وزيادة الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، والأمراض والأزمات الإنسانية الناتجة عن الحروب والنزاعات المسلحة.
ومعلوم أن الآثار الاقتصادية للحروب على البشرية تبدأ من فقدان البناء الحضري لتسيير الحياة العامة، بالإضافة الى حالة عدم اليقين حول الأمن والاستقرار، وانعكاس التضخم الاقتصادي على قيمة الأموال المدّخرة لدى الأفراد؛ كما ويفقدهم الثقة في النظام المالي للدولة. وبينما يرتفع الدين العام على الدولة تتراجع معدلات الاستثمار على الصعيدين المحلي والأجنبي. ومن جانب آخر يعد الاقتصاد الرقمي من القطاعات شديدة التأثر بانعكاسات الهشاشة الاقتصادية والأمنية، حيث أن التحول الرقمي محرك نشط للاقتصاد العالمي، ويتغلغل تقريباً في كل قطاع من قطاعات الحياة اليومية، من تعليم وصحة وأعمال مهنية مختلفة وحتى تواصل اجتماعي. كذلك يساهم التحول الرقمي في إيصال الخدمات والمعلومات العامة والخاصة. وتُعد مبادرة الاقتصاد الرقمي لأفريقيا (DE4A)، من ضمن مساعدات مجموعة البنك الدولي لاستراتيجية التحول الرقمي للاتحاد الأفريقي (DTS) لأفريقيا، التي تطمح إلى تمكين كل فرد وشركة وحكومة أفريقية رقميًا بحلول عام 2030 م. إلا أن تلك الهشاشة في البيئة السياسية والاقتصادية تحد من قدرة العديد من الدول (ومن بينها السودان) على خلق بيئة مؤسسية حسب الخطة الزمنية الموضوعة لذلك المشروع القاري الافريقي.
لا ريب أن أكبر ضحايا الهشاشة السياسة والاقتصادية والحروب والصراعات المسلحة (وحتى الظروف الاقتصادية غير المستقرة) هو إنسان المستقبل، حيث يبقى الطفل هو الضحية والحلقة الأضعف في أي مجتمع. وفي تقرير عن منظمة اليونيسيف صدر في 19 نوفمبر2023م تحت عنوان "اليونيسيف تحذر من أسوأ أزمة تعليمية في السودان" ذكرت منظمتا "إنقاذ الطفل" والأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إن النزاع في السودان قد حرم نحو 12 مليون طفل من التعليم منذ أبريل الماضي، مع بلوغ إجمالي عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في السودان إلى نحو 19 مليون طفل https://ultrasudan.ultrasawt.com
وشدد تقرير منظمتي "اليونيسيف" وإنقاذ الطفل" على أنه في حال استمرار الحرب، فلن يتمكن أي طفل في السودان من العودة إلى المدرسة في الأشهر المقبلة، مما يعرضهم لمخاطر "فورية وطويلة الأجل"، بما في ذلك "النزوح، والتجنيد القسري في المليشيات المسلحة، والعنف الجنسي". وحذر التقرير أيضاً من أن "السودان على وشك أن يصبح موطنًا لأسوأ أزمة تعليمية في العالم".
أن الاستثمارات في التنمية ينبغي أن تبدأ من الاستثمار في الأفراد والأمن البشري، والاستثمار في السلام. حيث أن النزاعات والحروب تقوض من أهداف التنمية المستدامة. ولكسر حلقات عدم الاستقرار ومعالجة الدوافع الكامنة وراء الهشاشة والحاجة الإنسانية، يتطلب هذا الأمر عدم النظر فقط الى التعليم والصحة كمحركات لتنمية البشرية - رغم أنهما يشكلان أهم أعمدة بناء الإنسان في إستراتيجية أي دولة بل وفي مقدمة أولوياتها - لكننا نحسب أن هنالك أبعاداً أوسع لدولة مثل السودان يجمعها طيف واسع من الاختلافات الثقافية والمجتمعية، واستنزفت عبر صراعات قبلية عنيفة منذ عقود طويلة. ويستوجب ذلك أن ينظر لتنمية الاقتصاد بنهج حديث ومختلف والسير قدماً مع كل ما يدعم استدامة التنمية والاستقرار.
وحديثا نشأ ما يعرف بـ "الاقتصاد البنفسجي" الذي يهتم بالجانب الاجتماعي، وهو جزء مكمل للاقتصاد الأخضر الذي يهتم بالجانب البيئي والنمو المستدام. وكان مصطلح "الاقتصاد البنفسجي" قد أستخدم لأول مرة في بيان نُشر ضمن فعاليات اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية في عام 2011م. ويعد "الاقتصاد البنفسجي" أحد فروع الاقتصاد المستدام الذي يستمد مبادئه من الثقافة المحلية، وهو نقطة محورية لتحريك دفة النمو الاقتصادي، وينبثق من قِيَم المجتمع وعاداته وتقاليده. كما أنه يمثل في الوقت ذاته أحد القياسات لتحقيق أبعاد التنمية المستدامة. كما ويسهم "الاقتصاد البنفسجي" أيضاً في البعد البيئي من خلال التخفيف من التغيرات المناخية، والكوارث الطبيعية. وهناك كذلك بعد اقتصادي آخر يتحقق من خلال الدور الذي تؤديه الثقافة في إحياء الكثير من المِهَن التي تناسب التنوع، مع استقطاب أصحاب الخبرات من المستثمرين في هذا المجال، مما ينتج عنه وفرة في فرص العمل، وتقليل من معدَّلات البطالة، عبر زيادة الاعتبار والتثمين للعائد الثقافي للسلع والخدمات كآلية لإدارة الاقتصاد وترسيخ أبعاد التنمية المُستدامة وتحقيق أهدافها.
لذلك يمكن القول إن أهمية "الاقتصاد البنفسجي" تنبع من أهمية الموروث والبعد الثقافي في المجتمعات المختلفة والمرتبطة بمجموعة من العوامل التي ترسخ لهذا النوع من الاقتصاد، وتعمل على خلق التوازن الاقتصادي والسياسي للبلدان. وأهمية تطبيقه في السودان تأتي من ارتباط هذا النوع من الاقتصاد بقيم وثقافة مجتمعه الكبير والمتنوع، وهذا سيسهم في استجابة الانسان السوداني وتفاعله الإيجابي ليصبح ذلك التنوع الثقافي أحد المحاور المساعدة في تطوير الاقتصاد؛ بالإضافة لكونه مدخلاً مهما لترسيخ أبعاد التنمية المُستدامة وتحقيق أهدافها وتلبية احتياجات الجيل الحالي والأجيال القادمة من الموارد الطبيعية والإسهام في حماية البيئة من خلال تغيير النمط الثقافي في البلاد. لذلك فان الاهتمام بالمورد البشرى في إطار البعد الثقافي والاجتماعي، بحسبانه دعامةً أساسية لتحقيق التنمية المستدامة، تدفع بالتنمية في المجتمع والرقي بالمستوى المعيشي والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة بشكل عام، وذلك بعد أن قضت دولة السودان جل سنوات تاريخها الحديث في صراعات داخلية كبيرة أضعفت من تماسكها الداخلي وقدرتها على لعب دور قيادي في المنطقة على المستوى الإقليمي. وكان يمكن للسودان أن يكون - بحسب موقعه الجغرافي وتنوعه البشري والثقافي والاجتماعي- قادراً على تعزيز الموارد البشرية لتحسين جودة الأداء، وتحسين المخرجات، سواءً أكانت في قطاع الخدمات أو الإنتاج، الأمر الذي كان سوف يجعل من السودان مقصداً مهماً للاستثمارات المحلية والأجنبية.
نختم بالقول بأن "الاقتصاد البنفسجي" هو تحالف بين الاقتصاد والثقافة، لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. وهو بالقطع مجال واعد لكونه نموذجا يقوم أساساً على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية وتوجيه الاقتصاد المستقبلي.
nazikelhashmi@hotmail.com
ويزخر معجم إدارة الموارد البشرية بعدد من التعريفات لمفردة "الاستنزاف" لهذا المورد، وذلك بحسب موقع هذا الاستنزاف. ففي المؤسسات يقصد باستنزاف الموارد البشرية مغادرة الموظفين للمؤسسة سواءً لأسباب طوعية أو الزامية كإنهاء الخدمة أو الاستقالة أو التقاعد أو الوفاة، وحين يشعر الموظف بأن المؤسسة لا تلبي طموحه، أو عندما لا توجد خطة لدى المؤسسة لملء أو استبدال الوظائف الشاغرة لديها، أو عندما تواجه المؤسسة مشاكل تتعلق بظروف التشغيل أو الإدارة. كذلك قد تُستنزف الموارد البشرية على مستوى الأقطار في الحالات المصاحبة لإجراءات الأنظمة القمعية وتلك التي يعوزها الاستقرار السياسي، عبر التغييب بالاعتقال أو تكرار الاعتقال والمطاردة والاغتيال وكافة الممارسات العنيفة ضد الإنسانية. وهذا يُعد استنزافاً على المدى الطويل قد يتسبب في هجرة الموارد البشرية إلى خارج القطر.
كذلك تُعد ظواهر عدم الاستقرار العالمي أيضا وجها ممن أوجه الاستنزاف للمورد البشري بسبب الحروب الأهلية والكوارث المناخية المستمرة التي قد تفضي لخلق مشهد معقد من المخاطر المتشابكة. وتعتبر الحروب من أسوأ ما قد يمر على البشر وذلك لتعدد آثارها الصحية الجسدية والنفسية على الأفراد سواءً أكانوا مدنيين أو عسكريين، ونتائجها الكارثية من وفيات وإعاقات واضطرابات نفسية وعقلية؛ بالإضافة إلى آثارها الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة، التي قد تطال مثلاً تدمير البنية التحتية التي تدعم الصحة العامة للمجتمع وقطاعات الأنظمة الغذائية، والرعاية الطبية، والنظافة، والنقل، والاتصالات، والطاقة الكهربائية، وغيرها.
لقد أحدثت الهشاشة السياسية والاقتصادية في السودان طوال كل العهود السابقة وما حدث فيها من صراعات مسلحة، تأثيرات سلبية عميقة على القطاعات الاستراتيجية المختلفة وعلى المجتمع في كافة المجالات. ويُعتبر القطاع الصحي أحد القطاعات التي تتضح فيها بسرعة نتائج تلك الهشاشة السياسية والاقتصادية بصورة واسعة. ويبدو ذلك واضحا على القوى العاملة الصحية في البلاد، وفي آليات تقديم الرعاية الصحية الأساسية للمواطنين. كما تواجه سياسة القوى العاملة الصحية تحديات هائلة في ظل سياق اجتماعي واقتصادي وديموغرافي وصحي سريع التغير في البيئة السياسية والاقتصادية الهشة، ويترتب على ذلك هجرة القوى العاملة الصحية، أو سوء توزيعها الجغرافي، مع نقص في التمويل وضعف في الإدارة. وتشكل كل تلك الآثار مخاوف خطيرة في سياق النمو السكاني السريع، والتوسع الحضري، وزيادة الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، والأمراض والأزمات الإنسانية الناتجة عن الحروب والنزاعات المسلحة.
ومعلوم أن الآثار الاقتصادية للحروب على البشرية تبدأ من فقدان البناء الحضري لتسيير الحياة العامة، بالإضافة الى حالة عدم اليقين حول الأمن والاستقرار، وانعكاس التضخم الاقتصادي على قيمة الأموال المدّخرة لدى الأفراد؛ كما ويفقدهم الثقة في النظام المالي للدولة. وبينما يرتفع الدين العام على الدولة تتراجع معدلات الاستثمار على الصعيدين المحلي والأجنبي. ومن جانب آخر يعد الاقتصاد الرقمي من القطاعات شديدة التأثر بانعكاسات الهشاشة الاقتصادية والأمنية، حيث أن التحول الرقمي محرك نشط للاقتصاد العالمي، ويتغلغل تقريباً في كل قطاع من قطاعات الحياة اليومية، من تعليم وصحة وأعمال مهنية مختلفة وحتى تواصل اجتماعي. كذلك يساهم التحول الرقمي في إيصال الخدمات والمعلومات العامة والخاصة. وتُعد مبادرة الاقتصاد الرقمي لأفريقيا (DE4A)، من ضمن مساعدات مجموعة البنك الدولي لاستراتيجية التحول الرقمي للاتحاد الأفريقي (DTS) لأفريقيا، التي تطمح إلى تمكين كل فرد وشركة وحكومة أفريقية رقميًا بحلول عام 2030 م. إلا أن تلك الهشاشة في البيئة السياسية والاقتصادية تحد من قدرة العديد من الدول (ومن بينها السودان) على خلق بيئة مؤسسية حسب الخطة الزمنية الموضوعة لذلك المشروع القاري الافريقي.
لا ريب أن أكبر ضحايا الهشاشة السياسة والاقتصادية والحروب والصراعات المسلحة (وحتى الظروف الاقتصادية غير المستقرة) هو إنسان المستقبل، حيث يبقى الطفل هو الضحية والحلقة الأضعف في أي مجتمع. وفي تقرير عن منظمة اليونيسيف صدر في 19 نوفمبر2023م تحت عنوان "اليونيسيف تحذر من أسوأ أزمة تعليمية في السودان" ذكرت منظمتا "إنقاذ الطفل" والأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إن النزاع في السودان قد حرم نحو 12 مليون طفل من التعليم منذ أبريل الماضي، مع بلوغ إجمالي عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في السودان إلى نحو 19 مليون طفل https://ultrasudan.ultrasawt.com
وشدد تقرير منظمتي "اليونيسيف" وإنقاذ الطفل" على أنه في حال استمرار الحرب، فلن يتمكن أي طفل في السودان من العودة إلى المدرسة في الأشهر المقبلة، مما يعرضهم لمخاطر "فورية وطويلة الأجل"، بما في ذلك "النزوح، والتجنيد القسري في المليشيات المسلحة، والعنف الجنسي". وحذر التقرير أيضاً من أن "السودان على وشك أن يصبح موطنًا لأسوأ أزمة تعليمية في العالم".
أن الاستثمارات في التنمية ينبغي أن تبدأ من الاستثمار في الأفراد والأمن البشري، والاستثمار في السلام. حيث أن النزاعات والحروب تقوض من أهداف التنمية المستدامة. ولكسر حلقات عدم الاستقرار ومعالجة الدوافع الكامنة وراء الهشاشة والحاجة الإنسانية، يتطلب هذا الأمر عدم النظر فقط الى التعليم والصحة كمحركات لتنمية البشرية - رغم أنهما يشكلان أهم أعمدة بناء الإنسان في إستراتيجية أي دولة بل وفي مقدمة أولوياتها - لكننا نحسب أن هنالك أبعاداً أوسع لدولة مثل السودان يجمعها طيف واسع من الاختلافات الثقافية والمجتمعية، واستنزفت عبر صراعات قبلية عنيفة منذ عقود طويلة. ويستوجب ذلك أن ينظر لتنمية الاقتصاد بنهج حديث ومختلف والسير قدماً مع كل ما يدعم استدامة التنمية والاستقرار.
وحديثا نشأ ما يعرف بـ "الاقتصاد البنفسجي" الذي يهتم بالجانب الاجتماعي، وهو جزء مكمل للاقتصاد الأخضر الذي يهتم بالجانب البيئي والنمو المستدام. وكان مصطلح "الاقتصاد البنفسجي" قد أستخدم لأول مرة في بيان نُشر ضمن فعاليات اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية في عام 2011م. ويعد "الاقتصاد البنفسجي" أحد فروع الاقتصاد المستدام الذي يستمد مبادئه من الثقافة المحلية، وهو نقطة محورية لتحريك دفة النمو الاقتصادي، وينبثق من قِيَم المجتمع وعاداته وتقاليده. كما أنه يمثل في الوقت ذاته أحد القياسات لتحقيق أبعاد التنمية المستدامة. كما ويسهم "الاقتصاد البنفسجي" أيضاً في البعد البيئي من خلال التخفيف من التغيرات المناخية، والكوارث الطبيعية. وهناك كذلك بعد اقتصادي آخر يتحقق من خلال الدور الذي تؤديه الثقافة في إحياء الكثير من المِهَن التي تناسب التنوع، مع استقطاب أصحاب الخبرات من المستثمرين في هذا المجال، مما ينتج عنه وفرة في فرص العمل، وتقليل من معدَّلات البطالة، عبر زيادة الاعتبار والتثمين للعائد الثقافي للسلع والخدمات كآلية لإدارة الاقتصاد وترسيخ أبعاد التنمية المُستدامة وتحقيق أهدافها.
لذلك يمكن القول إن أهمية "الاقتصاد البنفسجي" تنبع من أهمية الموروث والبعد الثقافي في المجتمعات المختلفة والمرتبطة بمجموعة من العوامل التي ترسخ لهذا النوع من الاقتصاد، وتعمل على خلق التوازن الاقتصادي والسياسي للبلدان. وأهمية تطبيقه في السودان تأتي من ارتباط هذا النوع من الاقتصاد بقيم وثقافة مجتمعه الكبير والمتنوع، وهذا سيسهم في استجابة الانسان السوداني وتفاعله الإيجابي ليصبح ذلك التنوع الثقافي أحد المحاور المساعدة في تطوير الاقتصاد؛ بالإضافة لكونه مدخلاً مهما لترسيخ أبعاد التنمية المُستدامة وتحقيق أهدافها وتلبية احتياجات الجيل الحالي والأجيال القادمة من الموارد الطبيعية والإسهام في حماية البيئة من خلال تغيير النمط الثقافي في البلاد. لذلك فان الاهتمام بالمورد البشرى في إطار البعد الثقافي والاجتماعي، بحسبانه دعامةً أساسية لتحقيق التنمية المستدامة، تدفع بالتنمية في المجتمع والرقي بالمستوى المعيشي والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة بشكل عام، وذلك بعد أن قضت دولة السودان جل سنوات تاريخها الحديث في صراعات داخلية كبيرة أضعفت من تماسكها الداخلي وقدرتها على لعب دور قيادي في المنطقة على المستوى الإقليمي. وكان يمكن للسودان أن يكون - بحسب موقعه الجغرافي وتنوعه البشري والثقافي والاجتماعي- قادراً على تعزيز الموارد البشرية لتحسين جودة الأداء، وتحسين المخرجات، سواءً أكانت في قطاع الخدمات أو الإنتاج، الأمر الذي كان سوف يجعل من السودان مقصداً مهماً للاستثمارات المحلية والأجنبية.
نختم بالقول بأن "الاقتصاد البنفسجي" هو تحالف بين الاقتصاد والثقافة، لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. وهو بالقطع مجال واعد لكونه نموذجا يقوم أساساً على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية وتوجيه الاقتصاد المستقبلي.
nazikelhashmi@hotmail.com