بلة الغائب، المشير والبشير، والجنن عبدالقادر (٣ ـ ٣)

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم`
من رسائل النور والظلام
alkanzali@gmail.com

عندما أطل الرئيس بقامته الطويلة ووجه الصارم وعمامته المبعثرة، خرج الرائد عمر من السيارة مقدماً التحية العسكرية ومنتظراً صعوده للسيارة ليصعد من بعده. انطلقت بهما السيارة في جوف من الليل مظلماً زادت سواد ظلامه تلك السحب الخريفية التي تجمعت بعضها فوق بعض حتى حجبت كل ضوء يتسرب من السماء إلى الأرض، فصار الظلام مطبقاً، لا يكشفه إلا الضوء الخافت المنبعث من السيارات التي تقاطعهم أو تتخطاهم وهم في طريقهم إلى أمر مرح شمال امدرمان. توقفت سيارة الرئيس أمام جبل ام مرح قبل حلول منتصف الليل،فودعا السائق ودخلاء إلى دهاليز الغار، ووضعا أغراضهما، وقال الرئيس لعمر علينا الاستجمام قليلاً على أن نصحو قبل دخول الثلث الأخير من الليل لنقوم لله ذاكرين. ولكن طغى النوم عليهما فناما نوماً عميقاً تشابه نومة أهل الكهف، ولم ينتبها إلا ببلة الغائب يقف عند رأسيهما قبل مغيب شمس يوم الخميس الأول من مايو ٢٠١٤، ويأمرها بأمر نبي الله الخضر بالخروج من الاعتكاف، والعودة لأهلهما. فتعجب النميري من ضوء الشمس وكان يظن الليل لم يدبر والصبح لم يسفر بعد. فبادر بلة الغائب النميري بسؤال: “ كم لبثتما سيدي الرئيس؟" فأجاب: " يوماً ولكنه استدرك أنه دخل الغار مساءً والآن الشمس تأذن بالمغيب" فقال مكرراً يوماً أو بعض يوم. فأجابه بلة الغائب وكأنه يسخر منهما “بل لبثتما خمسة وثلاثين عاماً”. واختفى من أمامها كما يختفي ضوء البرق في الليالي المرعدة.
راح النميري يتطلع ويتحسس جسده مندهشاً، ووضع يديه أمام عينيه ليرى أن أظافره قد طالت حتى كاد طولها يوازي اصابع يده، ووجد أن شعر رأسه صار مسدلاً على كتفيه،والشيب يزينه من كل ناحية. وتعجب من حاله وحال عمر الذي نام شاباً واصبح شيخاً. صار منزعجاً ومهموما لا يجد لهذا التحول تفسيراً ولم يستوعب قول (بلة الغائب) أنهم مكثوا في الكهف سنين عدداً. وخرجا خائفين يترقبان وصول سائق الرئيس الذي أخلف وعده.
لم تكن منطقة ام مرح بغريبة عليهما، لأنهما يعرفانها جيدا،ً فالكلية الحربية تقع على بعد بضع أميال من الغار، لهذا قررا أن يتجها غرباً بحثاً عن مواصلات تحملها إلى الخرطوم. حشرا جسديهما المتغيران في أول سيارة متجهة جنوباً، وعندما وصلت السيارة لسوق ود نوباوي هبط الرئيس مودعاً عمرا، ليواصل الأخر رحلته متجهاً لكوبر لزيارة والديه. وتواعدا أن يلتقيا صباحاً عند القصر الجمهوري. عند لقائهما في اليوم التالي، هم النميري بدخول القصر من البوابة الغربية وبرفقته عمر، ولكن الحرس أعترض طريقهما. فغضب الرئيس نميري أيما غضب، وبادر أحد الحراس قائلاً: “ألا تعرفوني من أكون أنا؟” فأجابه:” لم يحدث لي الشرف، ولكن قل لي من أنت حتى أعرفك؟ ”فأجابه: “أنا الرئيس المشير جعفر محمد نميري رئيس الجمهورية”. فضحك الحرس ضحكة خبيثة بصوت خرج صداه حتى حرك امواج النيل الأزرق، مما أغضب النميري وزاد حنقه. فقال للحارس: “ما الذي  يضحكك؟” فأجابه: “أضحك على فقدان عقلك يا شيخ، ألا تعلم أن النميري مات الله يرحمو!!!” وواصل حديثه الساخر متجهاً نحو عمر: “أها وانت منو يا أخونا، أوعا تقولي أنك أنت أبو القاسم؟”فأجابه:” لا لا، أنا الرائد عمر حسن أحمد البشير قائد كتيبة بالقوات المحمولة جواً”. وقبل أن يكمل عمر رده على الحرس ارتفعت ضحكات الحرس مجلجلة حتى بانت نواجذه، وغلبت عليه موجة الضحك فسقط على عقبيه، ونادي على بقية زملائه ليسمعوا ما يقول هذان المهوسان، وظن أنه في فاصل مسرحي مع عادل إمام في مسرحيته (الزعيم) والتي يجري تصوير مقطع منها أمام القصر الجمهوري. عندما هدأت نفسه وأنفاسه توجه نحو عمر قائلاً: “يا راجل قلنا أخوك دا فاقد عقله، لكن انت ذاتو ما عندك عقل عشان تفقدو، والله لو كنت أنت عمر البشير أكون أنا عمر بن الخطاب، روح لف كدا ولا كدا”.
ضغط عمر البشير على أعصابه وضبط انفعالاته احتراماً للنميري الذي ألح هو الآخر على دخول مكتبه وإلا فإنه سيضطر لتسلق حائط القصر كما فعلها من قبل. عندما شعر الحرس بإصرار النميري على الدخول، أجابة قائلاً: “يا شيخ قلنا ليك النميري مات وشبع موت الله يرحمو، أما عمر البشير البدعيهو صاحبك دا، فهو الآن الآمر والناهي في القصر، وهو الذي يحكم السودان منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، لذا أنصحكما بالانصراف وإلا سأضطر للاستخدام أساليب آخرى”.
عندها تبين لهما أن الدخول إلى القصر ليس ممكناً في تلك الساعة، لذا اقترح الرائد عمر على الرئيس أن يذهبا إلى (أتني) بالسوق الأفرنجي للإفطار، ويتفاكرا في الطرق الأنسب التي ستعين الرئيس لدخول مكتبه بالقصر واستعادة موقعه رئيساً للجمهورية. لم يعثرا على (أتني) بعمارة الشيخ مصطفى الأمين لأن الحياة وملامح مدينة الخرطوم تغيرت كثيراً عن ما كانت عليه، مثلما تغيرت ملامح جسديهما. استعاضا عنه بمقهى آخر قريب من ذلك المكان. ساعتها تقدم الرائد عمر لشراء الإفطار مع مشروب لكل، واخرج جنيهاً واحداً من رزمة اوراق النقود التي معه ليسدد ثمن وجبة الفطور، ولكنه فوجئ بأن جنيهه هذا لا يعادل مليماً واحداً مما اضطره لدفع كل ما معه (التسعة ألف جنيه التي تركها له بله الغائب كوصية من سيدنا الخضر) مقابل حصوله على رغيف خبز محشي بقطعة لحم لا طعم لها ولا لون ولا رائحة (هوت دوق). مما أخرجه عن طوره ونسى أنه بصحبة الرئيس، وجاء نحو الرئيس وهو يحوقل (لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ...) وقال للرئيس معاتباً بأنه أخطأ خطاءً فادحاً بقبوله بهذه الغيبة التي يدفع السودان ثمناً باهظاً لها. واستفسره الرئيس لماذا يحوقل؟ فأجابه: “هل تصدق سعادتك أن المبلغ الذي معي قبل أن ندخل الغار كان يمكنني اشتري به بيتاً أو سيارة جديدة،أما الآن فلا استطيع ان اشتري به وجبة افطار متواضعة (هوت دوق). 
لم يستوعب ولم يفهم ولم يدرك الرئيس ما قاله عمراً: وهز رأسه متعجباً، وطلب منه أن يذهب لتجار العملة المنتشرين في (برندات) السوق الأفرنجي ويستبدل له دولاراته بجنيه سوداني. خرج عمراً مسرعاً وغاضباً وحانقاً وهو يحمل كيساً صغيراً فيه سبعة وعشرون ألف دولار التي استبدلها النميري مقابل تسعة الف جنيه، وعاد عمر بمعاونة احد الصبية يحمل كرتونة ضخمة في جوفها مئتان وخمسين مليون جنيه سوداني. وعندما رأي النميري حجم أوراق النقود التي وضعت أهمامة أصابه الجنون والشرود، وصار يصيح:“يا عالم يا ناس أنا النميري خليت البلد جنيها بتلاتة دولار، أسا تقولو لي الدولار بتسعة الف جينه!!! ياعالم يا ناس أنا النميري خليت البلد جنيها بتلاتة دولار، أسا تقولو لي الدولار بتسعة الف جينه!!! ، يا عالم يا ناس ... وكرر القول تكريراً وتكراراً”، فألتم الناس من حوله يضربون كفاً بكف أسفاً على جنون من يدعى أنه النميري، وعلق أحد المارة “حرم ما جنيت براك، دا الجنن عبدالقادر؟!!! تاني تجو السودان؟!”
(رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين).
///////////
/////////////

 

آراء