“بلوور” عملاق سلارا (2-2) للكاتب محمود موسى تاور .. عرض د. قاسم نسيم

 


 

 

نواصل في إبحارنا في كتاب "بلوور عملاق سلارا" للكاتب محمود موسى تاور،ومن القصص التي أوردها قصة زربه لمزرعة عمه الضخمة لوحده وذلك من اقتحامه للغابة وقطعه لشوك الزرب وحده، ثم ربطه لكتل الشوك بحبل متين وجره وحده، ثم زربه لكل المزرعة وحده، ثم أكله الطعام المعد للنفير الذي كان عليه القيام بكل تلك المهام وحده، ومما روى قصة انتزاعه بطولة المصارعة التي شملت أبطال منطقته والمناطق حولها من نوبة وعرب حول الدلنج.
ثم حكى سفره للخرطوم ووثق لسفريات تلك الفترة وباصاتها وأصحابها وطرق سيرها، بل حتى أنغام بوري (بوق) البصات التي كانت تُضرب وأغاني تلك النغمات، وتشوُّق الناس السفر إلى الخرطوم، حلم الشباب آنذاك، وأرَّخ للظواهر المُحْدَثَة كظاهرة ركوب الدراجات الهوائية التي اشتهرت بها إحدى السيدات، كانت تأتي من قرية تندية، مرورًا بسلارا حتى الدلنج للتسوق، ثم تعود مساءً بذات الطريق وذلك كل يوم اثنين وخميس وتلك أيام أسواق مدينة الدلنج، وهي أول امرأة من بنات (أما)(النيمانج) تعلمت قيادة الدراجة، وكانت في ذات الوقت سيدة أعمال، كانت تدعى عائشة ولها دكان ومخبز في تندية، وكانت تحمل بندقية في كتفها، بعد هذا يستأنف قصة سفر بلوور من مدينة الدلنج إلى الأبيض بلوري سفنجة ويصف الرحلة حتى وصوله الخرطوم، وينتهز هذا الوصول ليصف مجتمعه في الخرطوم آنذاك، كيف كانوا وماذا كانوا يعملون، وما امتازوا به من صفات حميدة وصفتهم بها مجتمعات الخرطوم، وحياتهم ومجالسهم ومجامعهم ومجتمعاتهم وأشواقهم وآمالهم وآلامهم هناك، ويعدد مواقع عمل خاصة بأسمائها كانوا يكثرون فيها ويتوارثون فيها العمل، ثم ينحى إلى المهن العسكرية التي اشتهر النوبة بها، وتحدث عن براعتهم وكثافتهم فيها، وعملهم في وحداتها المختلفة، فهي أكثر المهن التي تشبه تنشئتهم، لما فيها من شدة وضبط وفدائية، ومن هؤلاء العسكريين من تولى الإدارة الأهلية في منطقته بعد تقاعده وعودته لأهله في مضاربهم وحدَّثها.
أرَّخ لأصحاب الأعمال الصغيرة بالخرطوم كأصحاب القهاوي والمطاعم في بحري والخرطوم، بل أرخ حتى لفتوات (أما) (النيمانج) مثل عباس عقرب، وقد بان من تأريخه لهم أنهم رغم شقاوتهم التزموا بأمهات الفضائل كنصرة الضعيف، والحنو على الأرامل والأطفال، وسلب الغني وبذل ما يسلبونه للضعيف كشأن الهمباتة في عموم السودان، وشأن روبن هود في الأدب العالمي، وقد استوفى تصوير حياة (أما) في الخرطوم آنذاك.
ثم عاد ليواصل قصته مع بطله بلوور في الخرطوم فحكى كيف أنه التهم طاولة رغيف كاملة بكباية شاي، فكان يأخذ عشرة رغيفات في لقمة واحدة يزدردها دفعة واحدة بجغمة من كوب شاي، ثم طفق يصف لحظات الوداع بعامة في مواقف القطار وما بها من أشجان ويوثق لأول فنان شعبي من قومه غنى للقطار في الإذاعة السودانية يدعى "كملا" بلهجة عربية هجين ووثق للأغنية، كل ذلك ساقه ليقول بعودة بطله إلى الجبال ليدلف مباشرة لأول قصة تصادف بلوور لحظة وصوله سلارا وهي حادثة الثور "ساليا" وهو ثور عمه، فقد سقط في بئر بسلارا قبل يومين من وصوله، وفشلت كل محاولات إخراجه، فور وصول بلوور وسماعه بالخبر مضى إلى حيث البئر ونزل فيه وحمل الثور على كتفه، ثم بدأ يصعد من غيابة الجب صّعِدًا حتى خرج بالثور في مشهد بطولي خارق، وقبل أن نفوق من الدهشة يحكي لنا قصة أخرى شبيهة بهذه، وهي أن بقرة لرجل مسن غرزت في وحل الطين، فخاض بلوور الوحل وأخرج الثور، وكانت هذه الحادثة سببًا في إعجاب الرجل به وإصهاره في بيته من إحدى بناته.
ثم تحدث عن عمل بلوور في مدرسة سلارا ومن هذا المدخل تحدث عن المدرسة وتاريخها ونظَّارها وأساتذتها وذكر أسماءهم وأسماء عنابرها وطباخاتها، وتحدث عن مزرعتها وما تشتمل عليه من خضروات وفواكه استزرعها الإنجليز.
وآخر قصة رواها عن بطله وكان قد كبر وطعن في السن، وذلك حين انتقل مك سلارا العظيم المك تاور دورة إلى حيث آبائه، فاعترضت صخرة ضخمة الشباب وهم يحفرون قبر الراحل، وعجزوا عن فتقها أو اقتلاعها فأشار بعضهم إلى بطلنا فمضى أحدهم إليه في جنح الظلام فنعاه له، ثم أخبره بعجزهم عن إكمال حفر القبر فتوجه معه بلوور مباشرة حتى أتى مكان القبر ونزل فيه وأخذ إحدى أدوات الحفر وضرب الصخرة ضربة واحدة؛ فصارت كالكثيب المهيل ومن ثم رفعوا فتيت الصخرة وأنزلوا الجثمان.
ونهج تاور في كتابه هذا أن يبتدر قصته بتناول قضايا عامة لها ملابسة بقصته التي يريد سردها، دنت تلك الملابسة أم بَعُدَتْ، كسياسات المناطق المقفولة التي فرضها الإنجليز ويسوق دعاويها ويناقشها، أو صراع الثقافات الحادث في هذا البلد، وما فعله الاستعمار ثم الحكومات الوطنية من بعده تجاه الشعوب الأصيلة، أو غياب المشروع الوطني، والفشل في إدارة التنوع الوطني وما إلى ذلك من قضايا سياسية وثقافية، وربما حينما يريد وصف واقعة من وقائع بطله يمهد لها بذكر بعض معارف قومه وعاداتهم أو وصف منطقة من مناطقهم، فيتحدث مثلًا عن طبيعة الحياة ويصف أدواتهم وأثاثهم كذكره أسرَّتهم الخشبية وكيف كانت تصنع وتدهن بالزيت لتملس، وذكره الوسادة التي كانت تتخذ من الخشب، وهي ذات الوسادة المروية والفرعونية في شكلها ووظيفتها، ويكون غالبا بين وصفه هذا والقصة التي يريد روايتها اعتلاق، ثم يدلف إلى قصته، وكان. يأتي كثيرًا بأمثال قومه ويكتبها بلسانهم بالحرف العربي ثم يترجمها، ويلاحظ عليها ويعلق
لقد اتبع تاور منهجا رائعًا في توثيقه للبطل بلوور، فهذا العمل يدخل في الحكاوي الشعبية الواقعية فهو قد وثق لشخصية حقيقية معروفة شاهدها ويعرف قصصها أكثر الكبار في المنطقة، فإلى جانب توثيقه لهذه الشخصية ليدرأ عنها النسيان بالكتابة وثق بالتالي لتلك الحقبة وهي خمسينات القرن المنصرم بكل ما تحفل به من حياة ومعارف، فوثق لتقاليد قومه وصفاتهم وثقافاتهم، ووثق لمعارفهم والأوائل منهم في مختلف ضروب الحياة، ووثق لبعض شخصياتهم، ووثق للحظات انتقالهم من حياة البداوة إلى المدنية،
ولا يمكن إذن أن نسمي هذا العمل بالقصصي لأنه لم يستقل بها، بل حشده بمعارف أخرى وقضايا ثقافية وسياسية يزجها بين قصصه، فهو كتاب جامع لمواضيع شتى، ولعل خلفيته الثقافية ونوازعه السياسية ومواقفه من قضايا قومه كانت وراء تقلب الكتاب في هذه المواضيع، وهذا عمل مفقود لم يتطرق إليه أكثر الكتاب مع قلتهم، وستزداد قيمة هذا الكتاب مع تقدم الزمان.

 

gasim1969@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء