بمناسبة الرحيل المر للرمز كمال الجزولي
محمد آدم عثمان
6 November, 2023
6 November, 2023
سكت الرباب وتنادت الفواجع وذبلت اوراق القصيد وستنوح القوافي وتغني القماري غناوي الحسرة والحزن النبيل . و لا تقول الا انا لله وانا اليه راجعون
من وحي مقال الأستاذ كمال الجزولي، وفي ذكرى رحيل أديب أريب، ودبلوماسي نجيب
1476
محمد آدم عثمان. سيول / كوريا
16 August, 2018
قرأت قبل بضعة أيام مقالا باذخا بديعا للأستاذ الكاتب المقتدر والأديب كمال الجزولي بعنوان " هُدهُدْ: نُقُوشٌ عَلَى ذَاكِرةِ الفَقْد! نوستالجيا في تذكر ايام عبد الهادي"، وقد استغرقت بكل حواسي وجوارحي في قراءة المقال وانفعلت به، وحلّق بي في أزمنة وذكريات بعيدة، فقد كان مقالا مترفا بكمٍ هائلٍ من البدائع والذكريات، وخليطا فريدا ومتنوعا من الجغرافيا والتاريخ والأدب والثقافة والفنون والمجتمع والتراث والفولكلور والرياضة، وكل ما يتعلق بمدينة أم درمان في زمانها البهي القديم ، وكان كل ذلك مجرد مدخل لرثاء صديق قديم له وللكثيرين غيره، وفارس من فوارس الأدب والثقافة والدبلوماسية السودانية ترجّل ومضى قبل أوانه، وهو في قمة عطائه وأوج تألقه وعنفوان إبداعه وذروة تميزه. وتأثرا بذلك المقال الشامل، وبمجرد فراغي من قراءته، عنّ لي أن أعبّر لكاتبه عن بعضٍ مما أثاره فيّ مقاله. فكتبت له الرسالة أدناه:
الأخ الأكرم والأستاذ الجليل كمال.
لك التحيات والتجلة. ومثل الكثيرين، وأينما كانوا ، نتابع دائما ما تكتب من بدائع ولوحات أدبية جمالية، نشكر عليها نعمة الفضاء الإلكتروني والشبكة العنكبوتية التي صارت تتيح لنا ذلك وبمجرد ضغطة زر. أمس وفي أمسية صيفية لافحة كنت أجلس على أريكة مطلة على ساحل المحيط الهادي في أقصى أقاصي شرق المعمورة في العاصمة الكورية الجنوبية، وأنا ، كما يحدث كثيرا، استعيد ذكرى أيام خوالي في بلادنا الحبيبة، فأخرجت هاتفي الذكي وبدأت في الضغط على بعض مواقع الإنترنت، فكان أول ما انبرى لناظري هو مقالك الأخير بعنوان " نوستالجيا في تذكر ايام عبد الهادي". سعدت بتك المصادفة التي هيأت لي قراءة مقال يتسق تماما مع الحالة المزاجية التي كنت فيها في تلك اللحظة. وفجر المقال لدي فيضا هائلا من الذكريات والأشجان عن أم درمان التي تبقى دائما في أذهان بنيها زهرة مدائن الدنيا أين ما حلوا في أي بقعة من العالم. حملني المقال في جولة استذكار مؤثرة بين مختلف حواري أم درمان وأزقتها الخلفية وتداخلاتها وتعاريجها ومراتعها المتنوعة على مختلف الاتجاهات، وإن أراك قد نسيت دون قصد بالطبع حي الموردة العريق وضواحيه وامتداداته العديدة من بانت وحي ضباط وإبي كدوك وعباسية وهاشماب وأمراء وغيرها. استغرقت واندمجت بشكل كامل في قراءة المقال بكل ما فيه توصيف وتصوير بانورامي مدهش ودقيق ومفصّل لطبيعة الحياة في تلك المدينة المتغلغلة في دواخلنا، حتى أنني ،عبر نحو ساعة واحدة استغرقها قراءة المقال وتأمله، أحسست وكأنني عشت مجددا طفولتي وصباي ومطلع شبابي بكل تفاصيله وإيقاعاته .
وفي البداية لم أعرف سر تسمية المقال بعنوان " نوستالجيا في تذكّر أيام عبد الهادي" حتى وصلت إلى المقطع الرابع من المقال عن دار صليح دار نديدك الحبيب "هدهد" وعرفت إن المقال كُتب أساسا في رثاء الراحل العظيم عبد الهادي صديق، وقد كان بالنسبة لي كذلك نديد روح وصديق عمر ورفيق درب. أولا دعني أعبّر عن انفعالي وتأثري بالطريقة والأسلوب الذي رثيت به عبد الهادي بعد مرور كل تلك السنوات في ذكرى رحيله السنوي المفجع، والتي ذكرتني بمقولة أحدهم وهو يصف مقال رثاء كتبه د. منصور خالد وهو يرثي أحد أصدقائه والتي قال فيها إنه "رثاءُ يشهيّ في الموت". تأثرت كثيرا بالشكل الإبداعي المتفرد الذي كتبت به عن ذلك الرحيل وقد احتفظت بالمقال في محفظة المقالات التي اعتز بها وأحرص على اقتنائها.
ولقد أوفيت وأنصفت عبد الهادي ووصفته بما يستحق وما يعرفه عنه كل من حظي بمعرفته وصداقته، وأنا أعتبر نفسي واحدا منهم، فقد نشأت بيننا علاقة حميمة منذ أيام جامعة الخرطوم والجبهة الديموقراطية وجمعية الثقافة الوطنية والمسرح الجامعي ومسرحيتيّ " جان دارك" و" ماراصاد"، وتعززت علاقتي معه أكثر عند التحاقنا بوزارة الخارجية، وعندما شملنا كشف تنقلات واحد، هو إلى واشنطن، وأنا إلى نيويورك، على مرمى حجر، وصرنا نتبادل الزيارات بشكل مستمر ومتكرر على مدى نحو 4 سنوات. لفت نظري بشكل خاص في مقالك الممتع ذلك الجزء المتعلق بعبد الهادي ولغته الحداثية وما تسببه تلك اللغة أحيانا لصاحبها من مواقف طريفة . كان عبد الهادي أول من ابتدع بدعة لغة الإبداع الحداثية في كتابة التقارير السياسية في وزارة الخارجية، وبدأت الظاهرة تنتشر في أوساط ناشئة السلك الدبلوماسية وقتها، ومنهم شخصي الضعيف، لكن يبدو إن الاستاذ "هدهد" قد جنح يومها للمبالغة وزودها حبتين، فكتب في تقرير سياسي من بيروت التي كان قد انتقل لها للتو يقول " وما زال العزف على الرصاص مستمرا والحياة في بيروت صارت مثل السفر عبر السراديب المطرزة بالنجميات الرمادية والدهشة". يومها التقانا د. منصور خالد ونحن ثلاثة من السكرتيرين الثوالث وقال لنا إن التأنق في الملبس والحديث والكتابة شيء جميل ومطلوب للدبلوماسي ولكن في الحدود المعقولة، فلكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، وللتقرير السياسي أسلوبه وطريقته وضوابطه وجمالياته الخاصة، ولكن ليس بذلك الشكل الرمادي المدهش والمطرز الذي كتب به زميلكم من بيروت، فاستمروا في الكتابة بأسلوب جمالي جذاب، ولكن في الحدود المرعية، وقولوا ذلك لزميلكم الكاتب المقتدر والأديب الواعد في بيروت.
وعندما وردني نبأ موته المفجع في مطلع الألفية الجديدة وأنا هنا في مهجري الكوري البعيد شعرت بقدر لا حد له من الحزن. سعيت لأن أعرف سبب وتفاصيل وفاته فاتصلت بالسفير السوداني هنا، وكان يومها من المعينين سياسيا، فأخبرني بأنه ليس لديه أي معلومات عن تلك الوفاة، بل علمت منه إنه لا يعرف حتى إذا ما كان هنالك سفير أو دبلوماسي بذلك الاسم، وهو ما زاد من حزني عليه. كنت أعرف مشكلته مع ارتفاع ضغط الدم، وكانت لي معه ذات مرة تجربة مرعبة في هذا الشأن. كان قد تقرر حضوره لأديس أبابا، التي كنت أعمل فيها دبلوماسيا في السفارة، لحضور فعالية خاصة بمنظمة الوحدة الأفريقية. ذهبت لاستقبله في المطار وأحضره ليبقى معي في منزلي. ورغم أن الرحلة بين الخرطوم وأديس لا تستغرق إلا زهاء ساعة ونصف ، إلا أنني وجدته متعبا مرهقا زائغ البصر ثقيل اللسان واهن الصوت. صحبته في سيارتي إلى المنزل ولم يكن يتحدث إلىّ إلا فيما يشبه حديث الإشارة. فهمت منه إنه يشعر بارتفاع شديد في الضغط بسبب ركوب الطائرة والعلو الشاهق لمدينة أديس. كان يغفو ويغيب لبضعة دقائق قبل أن يعاود فتح عينيه. وبمجرد وصولنا المنزل قمنا بمساعدته للوصول للغرفة المعدة له وفتح حقيبته وتناول حبوبه ونام ونحن في حالة خوف وتوتر قبل أن يستعيد جزءا من عافيته في صباح اليوم التالي. ذكرتني الطريقة المؤثرة التي وصفت بها لحظات رحيله الأخير في مقالك، بشعورنا، أنا والراحل العزيز الآخر الفقيد حسن النور، في تلك الليلة المخيفة.
آسف للإطالة لكن مقالك البديع عن أم درمان وما أثاره من ذكريات ، وعن الهدهد الفقيد وما فجر من أحزان، واستثار من أشجان، هو ما دفعني إلى التعبير ولو عن قليل من انفعالي وإعجابي به . لك التحيات والشكر. سبق أن التقينا لمرة أو مرتين عابرتين في أيام خوالي في زمان مضى، عن طريق صديقي الأثير مصطفى مدثر كما أذكر أو شقيقه الراحل "سيد" كما نسميه نحن في الحي و "حافظ" كما يناديه أصدقاؤه الآخرون.
آمل أن يصل كتابي هذا إليك وأنت في أتم صحة وعافية، وألا يضيع في "جنك" البريد الإلكتروني، وأرجو الإفادة لو وصلك بسلام.
وأخيرا ومعك ومثلك أقول اللهم أعد لأم درمان مجدها وألقها، وانفخ في ربوعها الفيحاء ما يعيد لها رونقها القديم، واكرم نُزل حبيبنا عبد الهادي لديك، فهو لم يهُن إلا عليك، وإنا لنسالك أن تغفر له ولنا، وتشمله وتشملنا برحمتك، وتلهمنا من بعده جميل الصبر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد آدم عثمان.
هذا المقال كنت قد كتبته ونشرته في بعض الصحف والاسافير من وحي مقال كتبه الراحل العزيز يرثي فيه ما وصفه بالرحيل المر لصديقه ورفيق دربه الاديب والدبلوماسي وزميلنا في المسرح الجامعي عبد الهادي صديق وقد رأيت اعادة نشره ترحما على روحيهما الطاهرتين وقد جدد الرحيل المر للعزيز كمال الحزن القديم والمعتق للهدهد الراحل الذي ما زال دفتر مناحته لم ولن يغلق. لهما الرحمة ولكل من عرفهما وحظي بصحبتهما الصبر الجميل.
shahd87@hotmail.com
/////////////////////
من وحي مقال الأستاذ كمال الجزولي، وفي ذكرى رحيل أديب أريب، ودبلوماسي نجيب
1476
محمد آدم عثمان. سيول / كوريا
16 August, 2018
قرأت قبل بضعة أيام مقالا باذخا بديعا للأستاذ الكاتب المقتدر والأديب كمال الجزولي بعنوان " هُدهُدْ: نُقُوشٌ عَلَى ذَاكِرةِ الفَقْد! نوستالجيا في تذكر ايام عبد الهادي"، وقد استغرقت بكل حواسي وجوارحي في قراءة المقال وانفعلت به، وحلّق بي في أزمنة وذكريات بعيدة، فقد كان مقالا مترفا بكمٍ هائلٍ من البدائع والذكريات، وخليطا فريدا ومتنوعا من الجغرافيا والتاريخ والأدب والثقافة والفنون والمجتمع والتراث والفولكلور والرياضة، وكل ما يتعلق بمدينة أم درمان في زمانها البهي القديم ، وكان كل ذلك مجرد مدخل لرثاء صديق قديم له وللكثيرين غيره، وفارس من فوارس الأدب والثقافة والدبلوماسية السودانية ترجّل ومضى قبل أوانه، وهو في قمة عطائه وأوج تألقه وعنفوان إبداعه وذروة تميزه. وتأثرا بذلك المقال الشامل، وبمجرد فراغي من قراءته، عنّ لي أن أعبّر لكاتبه عن بعضٍ مما أثاره فيّ مقاله. فكتبت له الرسالة أدناه:
الأخ الأكرم والأستاذ الجليل كمال.
لك التحيات والتجلة. ومثل الكثيرين، وأينما كانوا ، نتابع دائما ما تكتب من بدائع ولوحات أدبية جمالية، نشكر عليها نعمة الفضاء الإلكتروني والشبكة العنكبوتية التي صارت تتيح لنا ذلك وبمجرد ضغطة زر. أمس وفي أمسية صيفية لافحة كنت أجلس على أريكة مطلة على ساحل المحيط الهادي في أقصى أقاصي شرق المعمورة في العاصمة الكورية الجنوبية، وأنا ، كما يحدث كثيرا، استعيد ذكرى أيام خوالي في بلادنا الحبيبة، فأخرجت هاتفي الذكي وبدأت في الضغط على بعض مواقع الإنترنت، فكان أول ما انبرى لناظري هو مقالك الأخير بعنوان " نوستالجيا في تذكر ايام عبد الهادي". سعدت بتك المصادفة التي هيأت لي قراءة مقال يتسق تماما مع الحالة المزاجية التي كنت فيها في تلك اللحظة. وفجر المقال لدي فيضا هائلا من الذكريات والأشجان عن أم درمان التي تبقى دائما في أذهان بنيها زهرة مدائن الدنيا أين ما حلوا في أي بقعة من العالم. حملني المقال في جولة استذكار مؤثرة بين مختلف حواري أم درمان وأزقتها الخلفية وتداخلاتها وتعاريجها ومراتعها المتنوعة على مختلف الاتجاهات، وإن أراك قد نسيت دون قصد بالطبع حي الموردة العريق وضواحيه وامتداداته العديدة من بانت وحي ضباط وإبي كدوك وعباسية وهاشماب وأمراء وغيرها. استغرقت واندمجت بشكل كامل في قراءة المقال بكل ما فيه توصيف وتصوير بانورامي مدهش ودقيق ومفصّل لطبيعة الحياة في تلك المدينة المتغلغلة في دواخلنا، حتى أنني ،عبر نحو ساعة واحدة استغرقها قراءة المقال وتأمله، أحسست وكأنني عشت مجددا طفولتي وصباي ومطلع شبابي بكل تفاصيله وإيقاعاته .
وفي البداية لم أعرف سر تسمية المقال بعنوان " نوستالجيا في تذكّر أيام عبد الهادي" حتى وصلت إلى المقطع الرابع من المقال عن دار صليح دار نديدك الحبيب "هدهد" وعرفت إن المقال كُتب أساسا في رثاء الراحل العظيم عبد الهادي صديق، وقد كان بالنسبة لي كذلك نديد روح وصديق عمر ورفيق درب. أولا دعني أعبّر عن انفعالي وتأثري بالطريقة والأسلوب الذي رثيت به عبد الهادي بعد مرور كل تلك السنوات في ذكرى رحيله السنوي المفجع، والتي ذكرتني بمقولة أحدهم وهو يصف مقال رثاء كتبه د. منصور خالد وهو يرثي أحد أصدقائه والتي قال فيها إنه "رثاءُ يشهيّ في الموت". تأثرت كثيرا بالشكل الإبداعي المتفرد الذي كتبت به عن ذلك الرحيل وقد احتفظت بالمقال في محفظة المقالات التي اعتز بها وأحرص على اقتنائها.
ولقد أوفيت وأنصفت عبد الهادي ووصفته بما يستحق وما يعرفه عنه كل من حظي بمعرفته وصداقته، وأنا أعتبر نفسي واحدا منهم، فقد نشأت بيننا علاقة حميمة منذ أيام جامعة الخرطوم والجبهة الديموقراطية وجمعية الثقافة الوطنية والمسرح الجامعي ومسرحيتيّ " جان دارك" و" ماراصاد"، وتعززت علاقتي معه أكثر عند التحاقنا بوزارة الخارجية، وعندما شملنا كشف تنقلات واحد، هو إلى واشنطن، وأنا إلى نيويورك، على مرمى حجر، وصرنا نتبادل الزيارات بشكل مستمر ومتكرر على مدى نحو 4 سنوات. لفت نظري بشكل خاص في مقالك الممتع ذلك الجزء المتعلق بعبد الهادي ولغته الحداثية وما تسببه تلك اللغة أحيانا لصاحبها من مواقف طريفة . كان عبد الهادي أول من ابتدع بدعة لغة الإبداع الحداثية في كتابة التقارير السياسية في وزارة الخارجية، وبدأت الظاهرة تنتشر في أوساط ناشئة السلك الدبلوماسية وقتها، ومنهم شخصي الضعيف، لكن يبدو إن الاستاذ "هدهد" قد جنح يومها للمبالغة وزودها حبتين، فكتب في تقرير سياسي من بيروت التي كان قد انتقل لها للتو يقول " وما زال العزف على الرصاص مستمرا والحياة في بيروت صارت مثل السفر عبر السراديب المطرزة بالنجميات الرمادية والدهشة". يومها التقانا د. منصور خالد ونحن ثلاثة من السكرتيرين الثوالث وقال لنا إن التأنق في الملبس والحديث والكتابة شيء جميل ومطلوب للدبلوماسي ولكن في الحدود المعقولة، فلكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، وللتقرير السياسي أسلوبه وطريقته وضوابطه وجمالياته الخاصة، ولكن ليس بذلك الشكل الرمادي المدهش والمطرز الذي كتب به زميلكم من بيروت، فاستمروا في الكتابة بأسلوب جمالي جذاب، ولكن في الحدود المرعية، وقولوا ذلك لزميلكم الكاتب المقتدر والأديب الواعد في بيروت.
وعندما وردني نبأ موته المفجع في مطلع الألفية الجديدة وأنا هنا في مهجري الكوري البعيد شعرت بقدر لا حد له من الحزن. سعيت لأن أعرف سبب وتفاصيل وفاته فاتصلت بالسفير السوداني هنا، وكان يومها من المعينين سياسيا، فأخبرني بأنه ليس لديه أي معلومات عن تلك الوفاة، بل علمت منه إنه لا يعرف حتى إذا ما كان هنالك سفير أو دبلوماسي بذلك الاسم، وهو ما زاد من حزني عليه. كنت أعرف مشكلته مع ارتفاع ضغط الدم، وكانت لي معه ذات مرة تجربة مرعبة في هذا الشأن. كان قد تقرر حضوره لأديس أبابا، التي كنت أعمل فيها دبلوماسيا في السفارة، لحضور فعالية خاصة بمنظمة الوحدة الأفريقية. ذهبت لاستقبله في المطار وأحضره ليبقى معي في منزلي. ورغم أن الرحلة بين الخرطوم وأديس لا تستغرق إلا زهاء ساعة ونصف ، إلا أنني وجدته متعبا مرهقا زائغ البصر ثقيل اللسان واهن الصوت. صحبته في سيارتي إلى المنزل ولم يكن يتحدث إلىّ إلا فيما يشبه حديث الإشارة. فهمت منه إنه يشعر بارتفاع شديد في الضغط بسبب ركوب الطائرة والعلو الشاهق لمدينة أديس. كان يغفو ويغيب لبضعة دقائق قبل أن يعاود فتح عينيه. وبمجرد وصولنا المنزل قمنا بمساعدته للوصول للغرفة المعدة له وفتح حقيبته وتناول حبوبه ونام ونحن في حالة خوف وتوتر قبل أن يستعيد جزءا من عافيته في صباح اليوم التالي. ذكرتني الطريقة المؤثرة التي وصفت بها لحظات رحيله الأخير في مقالك، بشعورنا، أنا والراحل العزيز الآخر الفقيد حسن النور، في تلك الليلة المخيفة.
آسف للإطالة لكن مقالك البديع عن أم درمان وما أثاره من ذكريات ، وعن الهدهد الفقيد وما فجر من أحزان، واستثار من أشجان، هو ما دفعني إلى التعبير ولو عن قليل من انفعالي وإعجابي به . لك التحيات والشكر. سبق أن التقينا لمرة أو مرتين عابرتين في أيام خوالي في زمان مضى، عن طريق صديقي الأثير مصطفى مدثر كما أذكر أو شقيقه الراحل "سيد" كما نسميه نحن في الحي و "حافظ" كما يناديه أصدقاؤه الآخرون.
آمل أن يصل كتابي هذا إليك وأنت في أتم صحة وعافية، وألا يضيع في "جنك" البريد الإلكتروني، وأرجو الإفادة لو وصلك بسلام.
وأخيرا ومعك ومثلك أقول اللهم أعد لأم درمان مجدها وألقها، وانفخ في ربوعها الفيحاء ما يعيد لها رونقها القديم، واكرم نُزل حبيبنا عبد الهادي لديك، فهو لم يهُن إلا عليك، وإنا لنسالك أن تغفر له ولنا، وتشمله وتشملنا برحمتك، وتلهمنا من بعده جميل الصبر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد آدم عثمان.
هذا المقال كنت قد كتبته ونشرته في بعض الصحف والاسافير من وحي مقال كتبه الراحل العزيز يرثي فيه ما وصفه بالرحيل المر لصديقه ورفيق دربه الاديب والدبلوماسي وزميلنا في المسرح الجامعي عبد الهادي صديق وقد رأيت اعادة نشره ترحما على روحيهما الطاهرتين وقد جدد الرحيل المر للعزيز كمال الحزن القديم والمعتق للهدهد الراحل الذي ما زال دفتر مناحته لم ولن يغلق. لهما الرحمة ولكل من عرفهما وحظي بصحبتهما الصبر الجميل.
shahd87@hotmail.com
/////////////////////