بوتين صناعة أمريكية
حامد بشري
3 February, 2023
3 February, 2023
في أكثر من مقال نبهنا أن سياسة فلاديمير فلاديمرفتش بوتين الخارجية ترمي الي أعادة التوازن في المعمورة ، والي أستعادة مكانة روسيا خاصة فيما يُتخذ من قرارات تصدر من البيت الأبيض وحلف الناتو ، وأن الأتحاد السوفيتي لم ينهار وانما بتعبير أدق تفكك ، وما يقوم به بوتين في السياسة الخارجية يرجع في المقام الأول الي الحد من الفكرة التي راجت في أمريكا وغرب أوربا بأن العالم بعد الحرب الباردة صار أحادي القطب تتربع علي عرشه الولايات المتحدة بغض النظر عن حقيقة أن روسيا تمتلك ما يفوق العشرة آلاف من الرؤوس النووية. وفي هذا الخصوص أستمعت قبل فترة وجيزة الي محاضرة باللغة الأنجليزية قدمها الصحفي السوفيتي(فلاديمير بوذنر) قبل أربعة أعوام بجامعة (يل) الامريكية أي قبل العملية العسكرية الخاصة في أوكراينا. عنوان المحاضرة (كيف صنعت الولايات المتحدة بوتين) تجدها علي رابط اليوتيوب أسفل المقال . وقبل أن أتعرض للمحاضرة وما ورد فيها رأيت من الضروري أن أرجع الي حقبة الثمنينات والتسعينات من القرن الماضي لكي أعطي القارئ خلفيه عن صراع القطبين إضافة الي الزج مؤاخراً بأوكراينا من قبل الغرب في هذا الصراع المستعر .
بوصول ميخائل غرباتشوف الي السلطة عام 1985 والتي ظل بها قائداً للأتحاد السوفيتي حتي ديسمبر 1991 قبل أن يخلفه الرجل الثاني رئيس الوزراء (يلتسن ) علي إثر أجتماع تآمري تم عقده بين رؤساء الوزراء الثلاثة أوكراينا وروسيا البيضاء وروسيا حيث أتفقوا ثلاثتهم علي أنقلاب مدني تم بموجبه حل الأتحاد السوفيتي ، وهذا يعني ضمنياً أن غرباتشوف سُحبت منه الرئاسة وآلت الي (يلتسن) . وبالرجوع قليلاً الي تسعينات القرن الماضي وتحديداً في فبراير 1990 ظهرت بعض الوثائق من الأرشيف القومي الأميركي بعد أن رُفعت عنها السريّة ، فحواها أن الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف كان قد تلقى ضمانات أمنية شفهية ضد توسع حلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق ، من الرئيس جورج بوش (الأب) ووزير خارجيته جيمس بيكر ومستشار ألمانيا هيلموت كول ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران حينما طُلب منه أن يسمح لالمانيا الشرقية بالوحدة مع المانيا الغربية . أتت الأجابة من جيمس بيكر بجملة شهيرة "لا بوصة واحدة شرقاً" لو تمت الوحدة . في تأكيد صريح على عدم نيّة واشنطن توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً . وفي أجتماعه مع غورباتشوف في التاسع من فبراير/شباط 1990، كرر بيكر عبارة "ولا بوصة واحدة شرقاً" 3 مرات، في موافقه منه على تعقيب غورباتشوف بأن توسيع حلف شمال الأطلسي غير مقبول. وأكد بيكر لغورباتشوف قائلاً "لا الرئيس الأميركي ولا أنا نعتزم أنتزاع أية مزايا أحادية الجانب من العمليات الجارية" . ومن المهم أن يكون لدينا ضمانات بأنه إذا أبقت الولايات المتحدة على وجودها في المانيا في إطار حلف شمال الأطلسي، فلن تمتد الحدود العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أتجاه شرقي ولا حتى لبوصة واحدة . وتُظهر الوثائق أن غورباتشوف وافق على توحيد ألمانيا وبقائها عضواً في حلف شمال الأطلسي نتيجة لهذه السلسلة من التأكيدات، وعلى أن تسوية ما بعد الحرب الباردة سوف تأخذ في الأعتبار المصالح الأمنية السوفيتية .
هذه العهود لم تستمر طويلاً فأقترح البنتاغون في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1990 ترك "الباب مفتوحاً" لعضوية دول أوروبا الشرقية في حلف الناتو ، ويرجح كثير من المعلقين جذور أزمة أوكرانيا الحالية إلى تجاهل غورباتشوف تقنين الوعود الشفهية، إضافة إلى إصرار حلف الناتو، وتأكيده خلال العقدين الأخيرين على أن عملية التوسع مفتوحة وأن أي بلد يستوفي معايير العضوية مؤهّل للانضمام، على الرغم من أن هذا ليس تماماً ما تقوله معاهدة تأسيس الحلف . (الجزيرة نت)
وفي فبراير 1992 عندما زار يلتسن أمريكا قال فيما معناه مواطني روسيا يمدون أياديهم البيضاء للتعاون مع أمريكا لتحقيق عالماً بدون حروب يعمه السلام الدائم . بكل أسف أمريكا لم تأخذ هذا التصريح محمل الجد بل بالعكس قررت عقاب روسيا لانها فهمت من هذا الحديث أن روسيا قد تمت هزيمتها في الحرب الباردة وعليه يجب أن تُعاقب وتدفع الثمن . وبناء علي هذا الفهم في نفس العام صدرت في الولايات المتحدة وثيقة تم التكتم عليها في ذلك الوقت و أُطلق عليها أسم (عقيدة بوش) ملخصها كالآتي:
أولاً : الولايات المتحدة لا تسمح لاي دولة أخري مرة ثانية أن تنافسها.
ثانياً: الولايات المتحدة يجب أن تبقي القوي العظمي الوحيدة ، ونحن نطلب من الدول الحليفة لنا أن لا تقلق بشأن تطوير أسلحتها لاننا سنقوم بهذا الواجب نيابة عنهم .
ثالثاً: يجب أن لا تغمض لنا عين تجاه روسيا لاننا لا ندري في أي أتجاه تسير العواصف .
The bear might get up on his hind legs again and growl
وكان تعليق أدورد كنيدي السيناتور الديمقراطي علي ذلك بتصريحه أن هذه وثيقة أمبريالية ولا يمكن لأي قطر في العالم أن يقبل بها . الأ أنه في نهاية الأمر تم تطبيق هذه السياسة من قبل (شيني) ووزير الدفاع (كولن باول) وكان من نتائجها الأستنتاج الخاطئ بأن روسيا لم تعد قوي عظمي . وفي بداية سنوات الرئيس كلنتون تم أتخاذ قرار بتوسيع حلف الناتو حيث أنضمت اليه بولندا والشيك والمجر . وهذا خطأ شكل بداية الأزمة التي نحن فيها الآن . وفي عام 1998 علي آخر أيام (يلتسن) عندما وضحت له اللعبة الأمريكية فقد صرح كيف لنا أن نثق فيكم ويقصد الولايات المتحدة وأمريكا وأنت أخلفتم الوعد .
وبأستلام بوتين السلطة في عام 2000 وحتي قبل ذلك التاريخ منذ مارس 1985 وحتي عام 2007 لم يتم تدوين أي حادثة أو فعل من قادة الأتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا يمكن أن تكون سبباً خيب آمال أو عكر صفو سيدة العالم أمريكا بل في هذه الحصيلة من السنوات نجد العكس تماماً .
1- تم توسع حلف الناتو حيث ضم في عضويته جمهورية الشيك وبولندا والمجر وأستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وسلوفينيا ، وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا . أنتقد هذا التوسع قادة عسكريين وسياسيين وأكاديميين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حسبوه بأنه خطأ سياسي ذو أبعاد تاريخية وتمت تحذيرات كثيرة للناتو من عدم أتخاذ هذه الخطوة لأن هنالك بعض الدول التي ستحذوا حذوه ، الشيئ الذي أثار حفيظة يلتسن مما حدا به الأدلاء بتصريح خلا من الدبلوماسية (روسيا ليس هايتي) وستأتي للمرة الثانية .
2- شاركت منظمة حلف الناتو في تفكيك يوغسلافيا، وأجرت أول تدخلاتها العسكرية في البوسنية من عام 1992 الي 1995 ثم في وقت لاحق من عام 1999 تم تدمير يوغسلافيا بالكامل من قبل الناتو ولم تتم حتي أدانه لهذا العدوان الشنيع من الأمم المتحدة .
3- تم الأعتراف بكوسوفا وهي التي كانت جزءً من صربيا .
4- وعند وصول بوتين للسلطة في عام 2000 قدم طلباً بأن تكون روسيا عضواً في حلف الناتو، وأستند الي عدة حقائق منها أن الناتو قام لكي يحمي أوربا من التوسع السوفيتي واليوم لا يوجد أتحاد سوفيتي أضافة الي أنه لا يوجد حلف وارسو فلماذا لا نشرع في تكوين منظمة نكون نحن جزءً منها ونعمل جميعاً لحمايتها . و رُدْ هذا الطلب في وجه رئيس دولة تمتلك أكثر من عشرة آلاف من الرؤوس النووية . لم يكتفي بوتين بهذا التجاهل لطلبه بل عرض علي عضوية الدول الغربية أن تكون روسيا جزءً من الأتحاد الأوربي فأتت الأجابة روسيا قطر كبير وليس هنالك مكان لها .
شعور المواطن الروسي العادي علي هذا الرفض والمماطلة واللامبالة بأنه يشكل أهانة وعدم أحترام من الأدارة الأمريكية خاصة وأنهم يروا في أنفسهم بأنهم ليس أقل كفاءة من نظرائهم في العالم الغربي وأمريكا ليس وحدها هي التي تقرر مصير البشرية . لم يقف تدهور العلاقة عند هذه الأهانة والرفض وأنما أعقبتها بعض السياسات الخاطئة من قبل الأدارة الأمريكية . علي سبيل المثال ، في سبتمبر 11 أتصل بوتين تلفونياً بالرئيس (بوش) الأصغر وأبدي رغبته في المساعدة في محاربة الأرهاب وكذلك المساعدة في أفغانستان ووصل به الحد أن عرض علي أمريكا أن تضع قواتها في آسيا الوسطي بالقرب من الحدود الروسية وأوضح رغبته في محاربة الأرهاب بالتعاون مع الولايات المتحدة الأ أن طلبه ورجائه لم يحظ بأجابة .
وفي 10 فبراير من عام 2007 بمدينة ميونخ بالمانيا عند أنعقاد مجموعة العشرين وصل السيل الزبي ونفذ صبر بوتين وصرح بالآتي :
أعتقد أن توسع الناتو شرقاً لا يمت بصلة الي تحديث الحلف ولا بتعزيز الأمن الأوربي وإنما علي النقيض يمثل إثارة وأستفزاز ويقلل من الثقة المتبادلة بيننا كما يحق لنا أن نتسآل ضد من هذا التوسع ؟ وماذا تم بخصوص تعهدات الغرب بعد أن تم حل حلف الناتو؟ أين هذه التعهدات والأتفاقيات التي تم توقيعها والتي التزم فيها حلف الناتو بعدم التوسع شرقاً؟ الآن لا أحد منكم يتذكر هذه الأتفاقيات . أسمحوا لي أن أذكر الحضور في 17 مايو 1990 ذكر مستر (برينر) في الأجتماع الشهير نحن ليس مستعدون لوضع قوات الناتو خارج حدود المانيا ونعطي الأتحاد السوفيتي ضمانات بذلك . سؤالي أوجهه للحضور أين هذه الضمانات الآن . وفي عام 2018 علي ما أظن صرح بوتين بالآتي : خطأنا أننا وثقنا بكم ثقة مفرطة وخطأكم محاولاتكم المتعددة أن تغتنموا هذه الثقة . هذا الوضع المتردي صار مبرراً في أزدياد عدم ثقة بوتين بالغرب . أضف الي ذلك أن صورة بوتين وتشبيهه من قبل هيلري كلينتون بأنه أسوء من هتلر كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير في زعزعة الثقة .
لنا أن نستدرك أن التدخل الأمريكي في شئون وسياسات الدول الأخري بدأ مبكراً ، ففي عام 1850 ناشد السيناتور (هيل) أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الولايات المتحدة بالتدخل في شئون الدول الأخري بحجة أن هذه الدول التي يتم التدخل في شئونها تحيد عن (الطريق القويم) . أمريكا تبرر تدخلها في شئون الدول الأخري بأنه تدخلاً حميداً وفيه منفعة للآخرين أما تدخل روسيا فهو غير حميد ويشكل ضرراً . سياسة الكيل بمكالين لا تصب بأي حال من الأحوال في مصلحة التعاون بين البلدين .
أما الحقيقة الأخري التي تستدعي الوقوف عندها، أنه منذ عام 2015 والي الآن نجد المتتبع للأعلام الأمريكي وخاصة في الصحف الأمريكية المرموقة كصحيفتي النيويورك تايمز و الوشنطن بوست لن يجد أي مقال أو موضوع يتحدث بصورة أيجابية عن روسيا في أي من المجالات بداءً من المسرح الروسي والفن والادب وأنتهاءً بالآيسكريم . وهذا ليس معقولاً أن لا يوجد شيئ واحد في هذه الدولة أيجابي ، بالتأكيد هذا عمل أعلامي مقصود منه تشويه صورة روسيا والمواطن الروسي ولا يصب في مصلحة الطرفين . ويواصل (بوذنر) متحدثاً ، أما أذا كانت رغبة الأدارة الامريكية هي أستبدال بوتين أو تغير النظام في الكرملين فهذا حلم لن يتحقق لا في القريب او البعيد. علي الرغم من أن المقاطعة الاقتصادية أثرت في بدايتها تأثيراً كبيراً علي المواطن الروسي الأ أن الحقيقة الثانية التي لا يعرفها الغرب هي أن المواطن الروسي العادي صارت له قناعة بان الغرب يعاقبه علي جرم لم يرتكبه بفرض العقوبات وهذه في نظره عباره عن بلطجة أمريكية الشيئ الذي ساعد ويساعد في أزدياد شعبية بوتين . والحقيقة التي تغيب عن الأدارة الأمريكية أنه كلما أشتدت العقوبات ضد المواطن الروسي كلما أصبح أكثر قوة وصلابة وعناداً. في هذه الأجواء الغير مُرحبةً بالتعاون والمتنكرة للمعاهدات والأتفاقيات الدولية وجد بوتين نفسه في موقف عمرو بن العاص (مكره أخاك لا بطل) .
أما بالنسبة لما يحدث في أوكراينا (مع ملاحظة أن هذه المحاضرة قدمت قبل 4 أعوام ) حينما كان الغرب صامتاً تجاه الأنتهاكات والجرائم التي أرتكبتها دولة أوكراينا تجاه المواطنيين الروس والأوكراينين الذين يعيشون في أقليم الدنباس إضافة الي النعرات النازية التي وجدت طريقها الي أوكراينا ، فضرب المتحدث مثلاً بكوبا والأتحاد السوفيتي عام 1965 (الدولتان يتمتعان بأستقلال تام ) حينها بدأت روسيا في عهد خرتشوف تجميع معدات لرؤوس نووية في أراضي كوبا فوجه رئيس الولايات المتحدة كيندي أنذاراً للروس بسحب سفنهم من المحيط الهادي والا سيكون مصيرها الغرق لان هذا يشكل تهديداً لأمريكا ولن نكترث حتي لو أدي هذا الفعل الي نشوب حرب عالمية ثالثة . هذا بغض النظر عن الأعراف الدوليه وحق دولتي كوبا وروسيا في ذلك الأتفاق . أستجاب الروس للأنذار وتم سحب السفن من المحيط الهادي وبالمقابل لحفظ ماء الوجه تم سراً سحب الرؤوس النووية الأمريكية من تركيا . أما اليوم أذا أتت حكومة في المكسيك ذا توجه يساري وهذا ليس بمستبعد وطلبت حكومة المكسيك من روسيا أن تضع بعض الفيالق العسكرية علي الأراضي المكسيكية وهذا أيضاً ليس مستحيلاً ، فهل ستقبل أمريكا بذلك ؟ بالتأكيد لا . فيما يخص جزيرة القرم فأنها تشكل المنفذ الوحيد لروسيا علي البحر الأسود وتقع علي ساحلها مدينة (سفاستوبل) وهي مركز البحرية الروسية ، وجود حلف الناتو في هذا المنفذ يشكل خطورة علي روسيا .
الحلول التي طرحها (بوزنر) قبل 4 أعوام وقبل أن تبدأ العملية الخاصة لتحرير الروس الموجودين بشرق أوكراينا من شرور النازية تتلخص في عدم قبول طلب عضوية أوكراينا بالناتو لفترة الخمسين عاماً المقبلة ، أما فيما يخص جزيرة القرم من الممكن أجراء أستفتاء ثاني بها تحت مظلة الأمم المتحدة وحينها يسأل فيه مواطني الجزيرة برغبتهم في الأنضمام الي روسيا أو أوكراينا .
أما اليوم ضحايا الحرب أكثر من ربع مليون مواطن من الطرفين بخلاف الجرحي واللاجئين الذين ضاقت بوجودهم أوربا الغربية وحتي الشرقية. هذا الوضع المستعصي يجعل العالم أمام خيارين أما أن يكون تحت سيطرة القطب الواحد أو تكون هنالك حرب كونية اذا لم نستجب لنداء العقل ويجلس الجميع في مؤتمر دولي لمعالجة هذا الصراع .
https://www.youtube.com/watch?v=8X7Ng75e5gQ
الثاني من فبراير 2023
hamedbushra6@gmail.com
/////////////////////////
بوصول ميخائل غرباتشوف الي السلطة عام 1985 والتي ظل بها قائداً للأتحاد السوفيتي حتي ديسمبر 1991 قبل أن يخلفه الرجل الثاني رئيس الوزراء (يلتسن ) علي إثر أجتماع تآمري تم عقده بين رؤساء الوزراء الثلاثة أوكراينا وروسيا البيضاء وروسيا حيث أتفقوا ثلاثتهم علي أنقلاب مدني تم بموجبه حل الأتحاد السوفيتي ، وهذا يعني ضمنياً أن غرباتشوف سُحبت منه الرئاسة وآلت الي (يلتسن) . وبالرجوع قليلاً الي تسعينات القرن الماضي وتحديداً في فبراير 1990 ظهرت بعض الوثائق من الأرشيف القومي الأميركي بعد أن رُفعت عنها السريّة ، فحواها أن الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف كان قد تلقى ضمانات أمنية شفهية ضد توسع حلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق ، من الرئيس جورج بوش (الأب) ووزير خارجيته جيمس بيكر ومستشار ألمانيا هيلموت كول ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران حينما طُلب منه أن يسمح لالمانيا الشرقية بالوحدة مع المانيا الغربية . أتت الأجابة من جيمس بيكر بجملة شهيرة "لا بوصة واحدة شرقاً" لو تمت الوحدة . في تأكيد صريح على عدم نيّة واشنطن توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً . وفي أجتماعه مع غورباتشوف في التاسع من فبراير/شباط 1990، كرر بيكر عبارة "ولا بوصة واحدة شرقاً" 3 مرات، في موافقه منه على تعقيب غورباتشوف بأن توسيع حلف شمال الأطلسي غير مقبول. وأكد بيكر لغورباتشوف قائلاً "لا الرئيس الأميركي ولا أنا نعتزم أنتزاع أية مزايا أحادية الجانب من العمليات الجارية" . ومن المهم أن يكون لدينا ضمانات بأنه إذا أبقت الولايات المتحدة على وجودها في المانيا في إطار حلف شمال الأطلسي، فلن تمتد الحدود العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أتجاه شرقي ولا حتى لبوصة واحدة . وتُظهر الوثائق أن غورباتشوف وافق على توحيد ألمانيا وبقائها عضواً في حلف شمال الأطلسي نتيجة لهذه السلسلة من التأكيدات، وعلى أن تسوية ما بعد الحرب الباردة سوف تأخذ في الأعتبار المصالح الأمنية السوفيتية .
هذه العهود لم تستمر طويلاً فأقترح البنتاغون في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1990 ترك "الباب مفتوحاً" لعضوية دول أوروبا الشرقية في حلف الناتو ، ويرجح كثير من المعلقين جذور أزمة أوكرانيا الحالية إلى تجاهل غورباتشوف تقنين الوعود الشفهية، إضافة إلى إصرار حلف الناتو، وتأكيده خلال العقدين الأخيرين على أن عملية التوسع مفتوحة وأن أي بلد يستوفي معايير العضوية مؤهّل للانضمام، على الرغم من أن هذا ليس تماماً ما تقوله معاهدة تأسيس الحلف . (الجزيرة نت)
وفي فبراير 1992 عندما زار يلتسن أمريكا قال فيما معناه مواطني روسيا يمدون أياديهم البيضاء للتعاون مع أمريكا لتحقيق عالماً بدون حروب يعمه السلام الدائم . بكل أسف أمريكا لم تأخذ هذا التصريح محمل الجد بل بالعكس قررت عقاب روسيا لانها فهمت من هذا الحديث أن روسيا قد تمت هزيمتها في الحرب الباردة وعليه يجب أن تُعاقب وتدفع الثمن . وبناء علي هذا الفهم في نفس العام صدرت في الولايات المتحدة وثيقة تم التكتم عليها في ذلك الوقت و أُطلق عليها أسم (عقيدة بوش) ملخصها كالآتي:
أولاً : الولايات المتحدة لا تسمح لاي دولة أخري مرة ثانية أن تنافسها.
ثانياً: الولايات المتحدة يجب أن تبقي القوي العظمي الوحيدة ، ونحن نطلب من الدول الحليفة لنا أن لا تقلق بشأن تطوير أسلحتها لاننا سنقوم بهذا الواجب نيابة عنهم .
ثالثاً: يجب أن لا تغمض لنا عين تجاه روسيا لاننا لا ندري في أي أتجاه تسير العواصف .
The bear might get up on his hind legs again and growl
وكان تعليق أدورد كنيدي السيناتور الديمقراطي علي ذلك بتصريحه أن هذه وثيقة أمبريالية ولا يمكن لأي قطر في العالم أن يقبل بها . الأ أنه في نهاية الأمر تم تطبيق هذه السياسة من قبل (شيني) ووزير الدفاع (كولن باول) وكان من نتائجها الأستنتاج الخاطئ بأن روسيا لم تعد قوي عظمي . وفي بداية سنوات الرئيس كلنتون تم أتخاذ قرار بتوسيع حلف الناتو حيث أنضمت اليه بولندا والشيك والمجر . وهذا خطأ شكل بداية الأزمة التي نحن فيها الآن . وفي عام 1998 علي آخر أيام (يلتسن) عندما وضحت له اللعبة الأمريكية فقد صرح كيف لنا أن نثق فيكم ويقصد الولايات المتحدة وأمريكا وأنت أخلفتم الوعد .
وبأستلام بوتين السلطة في عام 2000 وحتي قبل ذلك التاريخ منذ مارس 1985 وحتي عام 2007 لم يتم تدوين أي حادثة أو فعل من قادة الأتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا يمكن أن تكون سبباً خيب آمال أو عكر صفو سيدة العالم أمريكا بل في هذه الحصيلة من السنوات نجد العكس تماماً .
1- تم توسع حلف الناتو حيث ضم في عضويته جمهورية الشيك وبولندا والمجر وأستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وسلوفينيا ، وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا . أنتقد هذا التوسع قادة عسكريين وسياسيين وأكاديميين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حسبوه بأنه خطأ سياسي ذو أبعاد تاريخية وتمت تحذيرات كثيرة للناتو من عدم أتخاذ هذه الخطوة لأن هنالك بعض الدول التي ستحذوا حذوه ، الشيئ الذي أثار حفيظة يلتسن مما حدا به الأدلاء بتصريح خلا من الدبلوماسية (روسيا ليس هايتي) وستأتي للمرة الثانية .
2- شاركت منظمة حلف الناتو في تفكيك يوغسلافيا، وأجرت أول تدخلاتها العسكرية في البوسنية من عام 1992 الي 1995 ثم في وقت لاحق من عام 1999 تم تدمير يوغسلافيا بالكامل من قبل الناتو ولم تتم حتي أدانه لهذا العدوان الشنيع من الأمم المتحدة .
3- تم الأعتراف بكوسوفا وهي التي كانت جزءً من صربيا .
4- وعند وصول بوتين للسلطة في عام 2000 قدم طلباً بأن تكون روسيا عضواً في حلف الناتو، وأستند الي عدة حقائق منها أن الناتو قام لكي يحمي أوربا من التوسع السوفيتي واليوم لا يوجد أتحاد سوفيتي أضافة الي أنه لا يوجد حلف وارسو فلماذا لا نشرع في تكوين منظمة نكون نحن جزءً منها ونعمل جميعاً لحمايتها . و رُدْ هذا الطلب في وجه رئيس دولة تمتلك أكثر من عشرة آلاف من الرؤوس النووية . لم يكتفي بوتين بهذا التجاهل لطلبه بل عرض علي عضوية الدول الغربية أن تكون روسيا جزءً من الأتحاد الأوربي فأتت الأجابة روسيا قطر كبير وليس هنالك مكان لها .
شعور المواطن الروسي العادي علي هذا الرفض والمماطلة واللامبالة بأنه يشكل أهانة وعدم أحترام من الأدارة الأمريكية خاصة وأنهم يروا في أنفسهم بأنهم ليس أقل كفاءة من نظرائهم في العالم الغربي وأمريكا ليس وحدها هي التي تقرر مصير البشرية . لم يقف تدهور العلاقة عند هذه الأهانة والرفض وأنما أعقبتها بعض السياسات الخاطئة من قبل الأدارة الأمريكية . علي سبيل المثال ، في سبتمبر 11 أتصل بوتين تلفونياً بالرئيس (بوش) الأصغر وأبدي رغبته في المساعدة في محاربة الأرهاب وكذلك المساعدة في أفغانستان ووصل به الحد أن عرض علي أمريكا أن تضع قواتها في آسيا الوسطي بالقرب من الحدود الروسية وأوضح رغبته في محاربة الأرهاب بالتعاون مع الولايات المتحدة الأ أن طلبه ورجائه لم يحظ بأجابة .
وفي 10 فبراير من عام 2007 بمدينة ميونخ بالمانيا عند أنعقاد مجموعة العشرين وصل السيل الزبي ونفذ صبر بوتين وصرح بالآتي :
أعتقد أن توسع الناتو شرقاً لا يمت بصلة الي تحديث الحلف ولا بتعزيز الأمن الأوربي وإنما علي النقيض يمثل إثارة وأستفزاز ويقلل من الثقة المتبادلة بيننا كما يحق لنا أن نتسآل ضد من هذا التوسع ؟ وماذا تم بخصوص تعهدات الغرب بعد أن تم حل حلف الناتو؟ أين هذه التعهدات والأتفاقيات التي تم توقيعها والتي التزم فيها حلف الناتو بعدم التوسع شرقاً؟ الآن لا أحد منكم يتذكر هذه الأتفاقيات . أسمحوا لي أن أذكر الحضور في 17 مايو 1990 ذكر مستر (برينر) في الأجتماع الشهير نحن ليس مستعدون لوضع قوات الناتو خارج حدود المانيا ونعطي الأتحاد السوفيتي ضمانات بذلك . سؤالي أوجهه للحضور أين هذه الضمانات الآن . وفي عام 2018 علي ما أظن صرح بوتين بالآتي : خطأنا أننا وثقنا بكم ثقة مفرطة وخطأكم محاولاتكم المتعددة أن تغتنموا هذه الثقة . هذا الوضع المتردي صار مبرراً في أزدياد عدم ثقة بوتين بالغرب . أضف الي ذلك أن صورة بوتين وتشبيهه من قبل هيلري كلينتون بأنه أسوء من هتلر كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير في زعزعة الثقة .
لنا أن نستدرك أن التدخل الأمريكي في شئون وسياسات الدول الأخري بدأ مبكراً ، ففي عام 1850 ناشد السيناتور (هيل) أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الولايات المتحدة بالتدخل في شئون الدول الأخري بحجة أن هذه الدول التي يتم التدخل في شئونها تحيد عن (الطريق القويم) . أمريكا تبرر تدخلها في شئون الدول الأخري بأنه تدخلاً حميداً وفيه منفعة للآخرين أما تدخل روسيا فهو غير حميد ويشكل ضرراً . سياسة الكيل بمكالين لا تصب بأي حال من الأحوال في مصلحة التعاون بين البلدين .
أما الحقيقة الأخري التي تستدعي الوقوف عندها، أنه منذ عام 2015 والي الآن نجد المتتبع للأعلام الأمريكي وخاصة في الصحف الأمريكية المرموقة كصحيفتي النيويورك تايمز و الوشنطن بوست لن يجد أي مقال أو موضوع يتحدث بصورة أيجابية عن روسيا في أي من المجالات بداءً من المسرح الروسي والفن والادب وأنتهاءً بالآيسكريم . وهذا ليس معقولاً أن لا يوجد شيئ واحد في هذه الدولة أيجابي ، بالتأكيد هذا عمل أعلامي مقصود منه تشويه صورة روسيا والمواطن الروسي ولا يصب في مصلحة الطرفين . ويواصل (بوذنر) متحدثاً ، أما أذا كانت رغبة الأدارة الامريكية هي أستبدال بوتين أو تغير النظام في الكرملين فهذا حلم لن يتحقق لا في القريب او البعيد. علي الرغم من أن المقاطعة الاقتصادية أثرت في بدايتها تأثيراً كبيراً علي المواطن الروسي الأ أن الحقيقة الثانية التي لا يعرفها الغرب هي أن المواطن الروسي العادي صارت له قناعة بان الغرب يعاقبه علي جرم لم يرتكبه بفرض العقوبات وهذه في نظره عباره عن بلطجة أمريكية الشيئ الذي ساعد ويساعد في أزدياد شعبية بوتين . والحقيقة التي تغيب عن الأدارة الأمريكية أنه كلما أشتدت العقوبات ضد المواطن الروسي كلما أصبح أكثر قوة وصلابة وعناداً. في هذه الأجواء الغير مُرحبةً بالتعاون والمتنكرة للمعاهدات والأتفاقيات الدولية وجد بوتين نفسه في موقف عمرو بن العاص (مكره أخاك لا بطل) .
أما بالنسبة لما يحدث في أوكراينا (مع ملاحظة أن هذه المحاضرة قدمت قبل 4 أعوام ) حينما كان الغرب صامتاً تجاه الأنتهاكات والجرائم التي أرتكبتها دولة أوكراينا تجاه المواطنيين الروس والأوكراينين الذين يعيشون في أقليم الدنباس إضافة الي النعرات النازية التي وجدت طريقها الي أوكراينا ، فضرب المتحدث مثلاً بكوبا والأتحاد السوفيتي عام 1965 (الدولتان يتمتعان بأستقلال تام ) حينها بدأت روسيا في عهد خرتشوف تجميع معدات لرؤوس نووية في أراضي كوبا فوجه رئيس الولايات المتحدة كيندي أنذاراً للروس بسحب سفنهم من المحيط الهادي والا سيكون مصيرها الغرق لان هذا يشكل تهديداً لأمريكا ولن نكترث حتي لو أدي هذا الفعل الي نشوب حرب عالمية ثالثة . هذا بغض النظر عن الأعراف الدوليه وحق دولتي كوبا وروسيا في ذلك الأتفاق . أستجاب الروس للأنذار وتم سحب السفن من المحيط الهادي وبالمقابل لحفظ ماء الوجه تم سراً سحب الرؤوس النووية الأمريكية من تركيا . أما اليوم أذا أتت حكومة في المكسيك ذا توجه يساري وهذا ليس بمستبعد وطلبت حكومة المكسيك من روسيا أن تضع بعض الفيالق العسكرية علي الأراضي المكسيكية وهذا أيضاً ليس مستحيلاً ، فهل ستقبل أمريكا بذلك ؟ بالتأكيد لا . فيما يخص جزيرة القرم فأنها تشكل المنفذ الوحيد لروسيا علي البحر الأسود وتقع علي ساحلها مدينة (سفاستوبل) وهي مركز البحرية الروسية ، وجود حلف الناتو في هذا المنفذ يشكل خطورة علي روسيا .
الحلول التي طرحها (بوزنر) قبل 4 أعوام وقبل أن تبدأ العملية الخاصة لتحرير الروس الموجودين بشرق أوكراينا من شرور النازية تتلخص في عدم قبول طلب عضوية أوكراينا بالناتو لفترة الخمسين عاماً المقبلة ، أما فيما يخص جزيرة القرم من الممكن أجراء أستفتاء ثاني بها تحت مظلة الأمم المتحدة وحينها يسأل فيه مواطني الجزيرة برغبتهم في الأنضمام الي روسيا أو أوكراينا .
أما اليوم ضحايا الحرب أكثر من ربع مليون مواطن من الطرفين بخلاف الجرحي واللاجئين الذين ضاقت بوجودهم أوربا الغربية وحتي الشرقية. هذا الوضع المستعصي يجعل العالم أمام خيارين أما أن يكون تحت سيطرة القطب الواحد أو تكون هنالك حرب كونية اذا لم نستجب لنداء العقل ويجلس الجميع في مؤتمر دولي لمعالجة هذا الصراع .
https://www.youtube.com/watch?v=8X7Ng75e5gQ
الثاني من فبراير 2023
hamedbushra6@gmail.com
/////////////////////////