بوح ثلاثي مستقل لخاطر عيون الأول من يناير
elgizuli@hotmail.com
البوح الأول: صورتك الخايف عليها!.
قرأت كتاباً ( بعنوان سجين الخليفة ) كتبه شارل نيوفلد حينما وقع في الأسر سنوات الخليفة عبد اﷲ التعايشي، وبقي في السجن لسنوات طوال، ويسرد في الكتاب الطريقة التي تم أسره بها ومعاناته داخل (سجن الساير ) بأم درمان، وقد أرفق بالكتاب مجموعة من الصور النادرة عن حق وحقيقة، وهي بالمناسبة صور فوتوغرافية حقيقية وليست متخيلة، صورت فترة حكم التعايشي!.وحول هذا الخصوص أركز على ملاحظة جديرة بالتوقف حولها لبعض الوقت. فقد عانى توثيق تاريخنا الأمرين ما بين الأهواء والرؤي الشخصية والتعتيم الكامل على أحداث هامة.
في الكتاب المشار إليه بعض اللقطات المصورة من واقع مجتمع الخليفة والدولة المهدية، والسؤال المطروح هو لمً لم يتسن للمصور – الذي قد أُتيحت له ولابد فرصاً تاريخية لالتقاط صوراً فوتوغرافية أخرى عن تلك الفترة - أن يقوم بذلك ويكون قد رفد ذاكرتنا ومكتبتنا التوثيقية بصورستكون نادرة عن بعض قادة وشخصيات الدولة المهدية؟!، وإن افترضنا أن التقاطه للصور بالكتاب تم بصورة سرية بحتة، فكيف تسنى له التقاط صور لأسرى هم في قبضة شرطة الدولة المهدية وداخل سجونها، حتى إن لم يكن بموافقة وإذن من جهات عليا آمرة في إدارة الدولة المهدية؟!، ومن ناحية أخرى نجد أن الإعلام البريطاني الذي صاحب الحملة العسكرية لكتشنر قد عرض صوراً تاريخية بالصحافة البريطانية لبعض أسرى وجرحى قادة وجنود الدولة المهدية بعد الهزيمة البشعة في كرري، ولكنه - الإعلام البريطاني والغربي عموما- لم يعرض ولو صورة واحدة عن المعارك التي جرت في ساحة المعركة حول جبال كرري، وأن هذه المهمة أُوكلت للرسامين الذين صاحبوا الحملة واستطاعوا أن ينجزوا لوحات فنية عالية في دقتها للمعارك!، فما الذي منع أو حال دون التصوير الفوتوغرافي؟! هل يا ترى أرادوا بذلك إخفاء معالم البشاعة التي بها انتصروا علينا؟! أم أن حرية الإعلام والصحافة التي يتمتعون بها قد أتاحت للمصورين الصحفيين الذين رافقوا الحملة العسكرية ومكنتهم من التقاط صوراً توثق لما حدث، ولكن جهة آمرة قد أخفت تلك الصور؟! وحتى إن افترضنا ذلك، فما هو السبب الذي يجعل تلك اللقطات مخفية حتى الآن ، ونحن نعلم أن قانون الوثائق البريطانية يتيح للرأي العام الاطلاع على أي وثيقة سرية بعد مرور خمسة وعشرين عاما من صدورها؟! أم يا ترى قصدوا إخفاء معالم المأثرة البطولية الجبارة التي واجه بها رجالنا الشجعان جحافل الغازي الغاشم على تخوم كرري وما جاورها .. خاصة عند استباحتهم لعاصمة الدولة المهدية لمدة ثلاثة أيام بلياليها بعد زوال حكم المهديين؟!.أوليس هذا بالأمر الغريب فعلاً ؟!، السؤال مطروح لجميع المهتمين.
البوح الثاني: في الطوابع وطرف المداين!.
أحتفظ بكثير من مجموعات الطوابع البريدية.. من عهد عاد وثمود للسودان.. حتى الظرف الحالي! وهي هواية أنشأنا عليها أولي الأمر فينا منذ مراحل الابتدائي ، ثم الكشافة السودانية في تلك المراحل.. والخير في ما اختاره لنا (اللورد بادن باول) مؤسس هذه المنظمة (الأممية).
من بين مقتنياتي المتواضعة لاحظت أن الطابع (البريدي) أيضا دخل (غمار الكسب السياسي)، ثم ما لبث أن مال واحتجب في السودان على وجه الخصوص، أو ندر إلى حد ما.. خاصة في الفترة الآخيرة من عمر الوطن! .. وبعد (الخصخصة) تحديداً .. فقد كانت له صولة وجولة في فترة (سيادة) البريد التقليدي بين القرى والمدن والفيافي والوديان، وقد حرصت مؤسسات الدولة (التي في يدها القلم ) على التوسل به لكي تسود شعاراتها ورموزها وأيدلوجيتها. حسع انتبهوا للنت والكمبيوتر!.. وقد بدأ استغلال (البريد العام) (التقليدي)، منذ أن بسط الاستعمار البريطاني هيمنته على أرض السودان بعد أن دالت له السيادة الاستعمارية بعد هزيمة الدولة المهدية الوطنية في معركة كرري الشهيرة. ومن ثم باشر في تمتين أواصر هذا التغول الاستعماري والاستلاب الحقيقيين عن طريق (البريد) والطابع البريدي، وبواسطة رموز استعمارية شهيرة، لتنطبع في ذاكرة الجماهير التي يستعمرها. باعتبارها شخوصاً مخلصة له و (لنا) ولذا وجب تبجيلها والاعتزاز بها!..عندك أمثلة كثيرة، منها مثلاً وليس حصراً غردون باشا راكباً على ناقته أو راجلاً وعندك مثلاً اللورد كتشنر راجلاً أو على صهوة فرسه.. عندك مثلا كلية غردون التذكارية.. وعندك شخصيات أخرى ومواقع أخرى كلها إستعمارية! ثم حلً الاستقلال!.. فتتالت الحكومات الوطنية، مدنية وعسكرية .. فانتهجت يا (ولداه) خطى المستعمر في استلاب الجماهير ، وقع الحافر على الحافر! ..أنظر كمثال لحكوماتنا الوطنية، المدنية منها والعسكرية فماذا تشاهد؟! (بورتريهات) لتعظيم شخصيات سياسية بحتة .. ومع الاحترام لها على مستوياتها الشخصية والأسرية، إلا أن تلك الأنظمة توسلت بها في محاولة لاعتقال الأفق الفكري في الاختيار بحيث يكون في حدود توجهات تلك (النخبة) التي ما (أنجبت) البلاد سواها! .. وكمثال حدق النظر في كثير من الشخصيات ( الوطنية ) التي تم التوثيق لها عن طريق (الطابع البريدي)، والذي كان له الأثر الفعال والأخطر من (الإعلان الصحفي) أو (الشعار الانتخابي) ،، إن لم أكن مبالغاً! وحلت فترة الحكومات العسكرية الديكتاتورية، صحيح أننا لا نذكر أن لنظام عبود (طابعاً بريدياً) يمجد حقبته عن طريق الشخصيات!، أم يا ترى موجود إلا أنه أصبح نادراً ؟!، ولكن أعتقد أن له بضع محاولات – أقصد نظام عبود – في تذكير الشعب بانجازاته التي ذهبت أدراج الرياح! وكأن ما يقدمه أي نظام لشعبة هو في مقام (المن) وبالتالي وجبت ضرورة تذكير الناس بجمايله!. وأما عن مايو فحدث ولا حرج! بدءاً من نميري الذي استغل (الطابع البريدي) أسوأ استغلال لتمجيد ذاته (الفانية) ولما (فتر) إلتفت إلى العملة السودانية! ..شي بالعمة.. وشي بالنضارة البيرسول.. وشي ككشاف أعظم.. وشي (كفتوة) عسكري ..لم تنجب العسكرية السودانية مستنيرا غيره ! حتى نصل لفترة النظام (المأزوم) حاليا، وإن كان من سبقوه قد توسلوا السياسة عن طريق (رزق اليوم باليوم) فهؤلاء يتوسلونها برزق الساعة والدقيقة (مفيش وكت)! .. ديل يا زول ما بفوتو فرصة دون أن ياخدوا (أمولهم) عداً نقداً! .. يتوسلونها بالآية القرآنية والسيرة النبوية!.. ومصادرة إعلام الشعب .. ضد الشعب!.. وفي دي حدث بأقل القليل من الحرج! نعم .. لا نستطيع أن نرصد لهم (تمكينا) عن طريق الطابع البريدي! وحتى إن وجد ولكنه ليس الأهم.. إلا أن هذا لا يبرئ ذممهم أيضا، لأنهم وببساطة وبعد أن قاموا بتدمير مرفق حيوي كمؤسسة البريد والبرق بشتى الأحابيل والطرق، نجدهم قد لجأوا ليتوسلوا طرقاً أخرى حتى يسودوا في الناس والوطن.. شنو يعني مؤسسة زي البريد والبرق بالنسبة لهم ؟! .. ماهو عندهم كافة الإمكانيات لكي يستنبطوا ما شاء لهم من مؤسسات في التنظير والترويج لهم .. وعليه .. فضمن محاولاتهم لإلغاء ذاكرة الناس حتى يبدو تاريخ السودان وكأنه قد بدأ بهم منذ فجر الثلاثين من يونيو١٩٨٩ فقد وجدوا طرقاً أكثر استثماراً لتسويق آيدولوجيتهم وجيوبهم! .. أحيلكم في هذا المنحنى إلى أسماء شوارع ومؤسسات وأحياء شعبية بسيطة وأماكن فسيحة كملك مشاع للناس.. يمشون فيها ويغشونها دون أن يفكروا يوماً في الاستئثار الحزبي البغيض لمصلحة أي أحد منهم! ولكن (الجماعة إياهم) فكروا وقدروا واستأثروها لمصلحتهم! .. وفي هذا المنحى نحيلكم لأسماء كـ (علي عبد الفتاح) و (عبيد ختم) و (د.الشريف) و(الزبير).. رحمهم اﷲ جميعاً. طبعاً الأسماء دي ما طرحوها عن طريق الطابع البريدي اللي قاعدين نتحدث عنه!.. لأنهم يعلمون علم اليقين أن البريد كمؤسسة (ناشرة ومنتشرة)، أصبح في خبر كان ! في ظل هيمنتهم على كل مفاصل دولاب جهاز الدولة.. لذا فهم لا يرومون إلا للكسب السريع . في ما يعود بالعائد المعنوي والمادي أيضاً.
ولكي ننصف جميع الأنظمة دعونا نلقي نظرة على المحاولة (اليتيمة ) التي حاولت أيضاً إيجاد معادلة ما مع البريد الذي (يمجد) البعض ويغفل (البعض).. فقد كانت فترة سيادة (زهو أكتوبر فينا) فيها محاولة للإنصاف!.. عندما قبضت الجماهير في أياديها لحين من الدهر، السلطة عنوة واقتداراً، فمجدت القرشي!.. القرشي فقط! .. هل تصدق؟!.. وعليه نلخص ونتساءل .. أين نحن الآن من عنبر جودة وعبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه وجون قرنق والشهداء العسكريين منذ ٥٩ و٧١ و ٧٥و ٧٦ ورمضان! وشهداء المقاومة الطلابية كالتاية وسليم وبشير وضحايا بيوت الأشباح وشهداء العيلفون وغيرهم.. وغيرهم! .. غايتو!.
البوح الآخير: علمي أنت رجائي.
النشيد الوطني وشعار الدولة وعلمها، كلها تعتبر رموزاً تعبر عن النسيج الاجتماعي والجغرافي والديمغرافي للآوطان، وتعبر أيضاً عن ملامح مواطنيه .. سحناتهم وثقافاتهم .. بواديهم وصحاريهم وسهولهم وماشيتهم أيضاً، ولذا يحرص القائمون على الأمر لكي تأتي هذه الرموز متطابقة قدر الاستطاعة في التعبير عن كل ذلك. فتجدهم يحيلون الأمر إلى لجان وطنية متخصصة في هذا الشأن وتكون عضويتها بكفاءة عالية في كل التخصصات، وإن دعى الأمر فإن الدولة أو النظام الحاكم الذي يقدر ويحترم رغبات وأشواق من يحكمهم، وإمعاناً في الانصاف والدقة، يستفتي الجماهير، أو يستطلع آرائهم بواسطة مؤسسات متخصصة في قياس الرأي العام وقراءة أمزجة الناس!. ولكن الأمور تختلف عندنا في السودان للأسف الشديد!..
أتحدث تحديداً العلم السوداني ودلائل الألوان فيه، وأعلم أن لجنة من خيرة المتخصصين من رجال البلد الأمين قد تم تكوينها في بدايات الولوج نحو الاستقلال للنظر في أمر علم السودان، ونشير بكل طمأنينة إلى أن تلك اللجنة الموقرة قد وفقت – إلى حد ما – في اختيار المواصفات المعبرة في علم السودان عن أعراق وثقافات وزرع وضرع الأهالي.. فتم تصميمه بألوان زاهية وبشكل مبسط يتيح إمكانية لتصاميم مختلفة له في كل مناسبة ومحفل. حيث (عقد مجلس النواب جلسته رقم ٣٥ في دورته الثالثة وذلك في يوم السبت ٣١ ديسمبر سنة ١٩٥٥ وفي بداية الجلسة وقف السيد مبارك زروق زعيم اﻟﻤﺠلس قائلاً: سيدي الرئيس أرجو أن أتقدم بالاقتراح التالي: أنه من رأي هذا اﻟﻤﺠلس أن يكون علم السودان بالأوصاف التالية:
1) الألوان:-
1- أزرق – رمز النيل
2- أصفر – رمز الصحراء
3- أخضر – رمز الزراعة
راجع: من تاريخ السودان المعاصر، الجلاء والاستقلال، إعداد محمد عامر بشير، الدار السودانية للكتب،الطبعة الأولى ١٩٧٥).
وقبل سنوات قليلة اعترف مولانا القاضي بابكر عوض اﷲ في حوار تلفزيوني معه أنه هو (وحده) من قام بتغيير العلم القديم إلى الحالي!، وذلك عندما كان في بدايات فترة مايو رئيساً لمجلس وزراء مايو المعين وعضواً فيما سمى وقتها بمجلس قيادة ثورة مايو! .. وقد برر سيادته – غفر اﷲ له – ذلك بأن ألوان القديمة (باهتة وما عجبتو)! .. ولهذا الأمر فقد تم إنزال القديم ورفع الجديد! .. ولكن هل الأسباب هي كذلك وكما أشار إليها مولانا القاضي بابكر عوض اﷲ؟!.
السيد بابكر عوض اﷲ ينتمي لتيار القوميين العرب وله وشائج مع مصر كدولة، وهذا التيار السياسي تحديداً، قد دخل في صراعات مع كل القوى السياسية الأخرى فترة بدايات مايو، وتبلورت الخلافات التي نشبت حول التوجهات الفكرية وأي من طرق التطور الاقتصادي والسياسي يتبناها الناس، ومعلوم أن تيار القوميين العرب قد انتصر وسادت رؤيته وتوجهاته، وبالتالي دانت له السلطة لحين من الدهر. وفي هذه الأجواء تحديداً تم تغيير علم البلاد القديم – ضمن المتغيرات المتعددة التي طرأت على البلاد – حتى تتماشى دولة السودان مع نمط وسلوك الأيدولوجية القومية وعروبتها كما كان سائداً وقتها في غالبية الدول العربية التي نهجت التوجه العربي الاسلامي وثقافته، إذن فإن الأمر بالنسبة لمولانا عوض اﷲ لم يكن في حقيقته لأن لون العلم (باهت ومش عاجبو)!.
لا نمل و لا نكل في تكرار وترديد مقولات تتعلق بحقيقة أننا كشعب متعددون في الثقافات والأديان والأعراق والسحنات واللغات والأمزجة والضحكة والنكتة والطرفة، من كافة الشعوب الأخرى، دع عنك الدول العربية من التي تدين بالولاء للثقافة العربية الإسلامية، أو القومية العربية، أو حتى من التي لا تدين بكل ذلك.
بالطبع لا معرفة لي بأمزجة الأجيال التي ترعرعت في ظل النظام الحالي، أو تلك التي نشأت وعلم القوميين العرب يرفرف فوق ساريتنا!.. ولكن أعلم أنه ومنذ الصراع السياسي المرير ضد الديكتاتورية المايوية وحتى الحالية، فإن أشواق قطاعات واسعة من الأجيال السابقة واللاحقة تتطلع وتهفو للعلم القديم! .. أنظروا لهم في الجامعات والمعاهد والتظاهرات والندوات والانتفاضات.. في أبريل وذكرى أكتوبر .. أنظروا إليهم وحدقوا ،، ثم أرفعوا رؤوسكم فوق مكان ما يقفون هم، لتروا علمنا القديم يرفرف فوق أعناقهم!.
نتحدث اليوم عن الوحدة الجاذبة – إن كان الشعار ماهو كضب كضب – ونستصحب معنا حقائق التاريخ والجغرافيا في اختلاف الأديان والثقافات والأعراق والسحنات دون أن ( نكل أو نمل من ترديد ذلك) وندعوا للحوجة إلى تغيير العلم الحالي بآخر يستوعب هذه الحقائق .. آخر يعبر عنا – نحن شعوب السودان – آخر يميزنا عن أعلام الدول العربية ذات النمط الواحد! .. آخر تهفو له قلوبنا وأفئدتنا وننظر إليه بمحبة وانحياز،، آخر يعبر عن السلام والوئام والديمقراطية والتعدد – إن كنا عن صدق نتطلع لذلك - ! ،، بديل آخر يحل محل (القديم والجديد) معاً، نسبة لأن دولة إفريقية سنحت لها الفرصة واتخذت علمنا القديم شعاراً ورمزاً لها!.
قيل أنه وفي مطلع الاستقلال، طُرح إقتراح لألوان علم البلاد (الجديد)، فاقترح أحد أعضاء اللجنة التي شُكلت لهذا الغرض، إضافة اللون الأبيض وجعله إطاراً للألوان (السابقة) – الأزرق الذي كان يرمز لنهر النيل والأصفر الذي كان يرمز للصحراء والأخضر الذي كان يرمز للغابة والنماء ! – فاعترض الشاعر محمد المهدي اﻟﻤﺠذوب الذي كان ضمن أعضاء اللجنة، بأنه لا يرى داعياً للاضافة، معللاً بأن ذلك سيفسد العلم كرمز ويحوله من علم ،، إلى هبابة!.
أدعو لتغيير العلم الحالي رأفة بتعدد ثقافاتنا وأدياننا ولغاتنا وأمزجتنا!.
______
عن صحيفة الميدان