بورسودان الأوزة التي كانت تضع ذهبا (2)

 


 

شوقي بدري
8 December, 2020

 

 


حتى نحن الذين عشنا عظمة السودان صرنا لا نصدق ما شاهدنا . ولهذا نكتب لجيل الثورة الذي اتي بالغير مسبوق من خروج الكنداكات والشباب الذي لم ترهبه السياط اعقاب البنادق والرصاص . اقول لهم انت اعظم السودانيين . واحاول ان اعطيكم صورة لما سرقة المتأسلمين تحت شعار ما لدنيا قد عملنا ..... هى لله .... هى لله . 



اغسطس 20 .... 2012
شوقى بدرى
محنه سودانيه 86 .. الخطوط البحريه السودانيه
قبل اسبوع اتصل بى الاخ عبد القادر كابو من بلدته خارج روتردام فى هولندا . وتحدثنا عن الدنيا . وعرفت انه كان مشغولاً بشحن كميه كبيره من السيارات الى ميناء مصراته فى ليبيا .
الى هنا وكل شئ عادى . فالاخ كابو كان فى يوم من الايام من كبار مصدرى المحاصيل فى السودان . وبما انه خريج تجاره فقد كان له نشاط كبير فى تصدير محاصيل السودان ، قبل ان تطل الانقاذ بوجهها الكالح وتشرد الناس وتضايق الشرفاء . الغريب انه سألنى ، تتصور يا شوقى السفينه الشحنا فيها كانت واقفة بجانب السفينة السودانية ،،سنار،،التي بيعت .
السفينه ما يعرف ب ( رورو ) وهى السفن المستعمله فى نقل العربات ، وقد يكون معها بعض البضائع الاخرى . ولكن الشحنه الكبيره تكون عادةً سيارات . والسفينه تكو مجهزه بوسائل اخراج السيارات وادخالها بسهوله . والسفينة تسع لالف وستمائه سياره. لماذا ليس عندنا مثلها ، ونحن من اول الدول الافريقية التي كان لها اسطول تجاري ؟ .
صديقى كابو مثلى كان يبدو متألماً . فسنار كانت احدى قطع الاسطول التجارى السودانى ( الخطوط البحريه السودانيه ) . والخطوط البحريه السودانيه كانت ملك للشعب السودانى . وهذا يعنى انا وانت ، وبقيه السودانيين ، من جنوبيين وغرابه واهل شمال السودان واهل شرق السودان والوسط لكنها بيعت . اين ذهبت اموالنا ؟ . لقد تكونت فكرة اسطول تجارى سودانى فى الخمسينات . واذكر ان الاخ احمد الامين الى انضم الينا فى كورس اللغه فى سنه 1964 فى شمال بوهيميا ، كان قد عمل كضابط بحرى بعد ان درس فى انجلترا .
لقد تكونت الخطوط البحريه كشراكه بين جمهورية يوغسلافيا والسودان . وفى البدايه كان كل القباطنه من اليوغسلاف . وارسل السودان مجموعه من الطلاب المختارين لمدينه رييكا فى يوغسلافيا . وتخرجوا من الكليه البحريه . وصار الاخ كابتن قاسم رحمة الله عليه ا ول كابتن بحرى سودانى . وكان قاسم شخصيه فذه. وكان حفل تنصيبه ككابتن حدثاً يؤرخ به . وكان هنالك خريجين آخرين فى الاداره والقانون البحرى .
وفى فتره وجيزه صار كل الكباتن من السودانيين . وصارت الخطوط البحرية السودانيه بقياده العم بخيت من انجح الخطوط فى العالم . وكان العم بخيت يعرف عالمياً باوناسيس اوف ذا سودان . سمعت أن السفن بغرض اداري كانت مسجلة باسم هذا الرجل الامين والذي خدم وطنه بتفاني . سلم لي على الكيزان . وهذا تمثيلاً له بالملياردير اوناسيس اليونانى الذى كان يمتلك خطوط الاولمبيك اليونانيه للطيران . وكان من اكبر مالكى السفن فى العالم . وتزوج جاكلين كندى اوناسيس ارملة الرئيس جوزيف كندى .
اذكر اننى فى سنه 81 كنت فى ميناء اورسكارسهامن فى الشاطئ الشرقى فى السويد . وشاهدت العلم السودانى على احد السفن . وكان معى صديقى وليام ماكينا من ترينداد . فنزلت من السياره وطلبت منه ان يتبعنى ، الا انه بدأ متردداً . وهو قد عمل منذ الخمسينات كمساعد طباخ ثم طباخاً فى سفن عالميه . وكان يعرف ان البحاره والكباتن لا يرحبون بالمتطفلين . ولكنى طمأنته بأن السفينه سودانيه وهى ملك لكل السودانيين . وان الكابتن ورجاله سيرحبون بنا . وقد كان . وعندما كنت على ظهر الباخره كنت احس اننى على ارض سودانيه . صديقى وليام ماكينا كان يشيد بالنظافه والانضباط الذى كان على ظهر السفينه السودانيه .
بما اننى قد عملت كعتالى لفترة سنتين فى ميناء مالمو ، كنت على ظهر مئات السفن المختلفه . ولكن بعض السفن التى كانت تأتى من شرق اوربا ولاتين امريكا وافريقيا كانت فى حاله مزريه . تكتظ بالعماله الرخيصه تميزها الحمامات التى تفوح رائحتها وحبال الغسيل التى تنتشر على السطح ، وخاصة البولندية . وقد حسبت في يوم من الايام 27 شخصا في الباخرة البولنية ،، سيرنكا ،،. اغلبهم من النساء والاطفال اتو لبيع الخموروالسجاير وشراء البضائع التي لا توجد في الدول الشيوعية وحمولتها 750 طن. ولكن سفننا السودانيه مثل شندى ودنقلا فلقد كانت على مستوى وانضباط السفن الاوربيه . وعندما أتت امدرمان الى مدينتنا مالمو فى بداية الثمانينات كانت تجثم بحجمها الضخم فى الميناء . وكان يبحر بها الكابتن قاسم رحمة الله علية . وهو كابتن مميز كثير الاطلاع . يجيد العزف على الأورغن وبعض الآلات الموسيقيه . وكنا عندما نذهب لزيارة السفينه نجد الترحيب ونحس بروعة السودانيين من ضباط وبحاره ومن فى رتبة ريس وباش ريس والميكانيكيين وماركونى ( رجل اللاسيلكى والراديو )مثل ابن العمة حجاج يوسف المامون والباش ريس حسن محمود المغربي من الموردة شقيق الاعلامية ليلي المغربي طيب الله ثراها . وكانت هنالك روح انسجام ووئام واحترام بين الجميع .
الخطوط البحريه السودانيه لم تكن مؤسسه تجاريه فقط . بل كانت رمزاً وطنياً، منظومة كاملة . وكان الضباط والكباتن السودانيون يتلقون اجراً متدنياً بالنسبه للاجور العالمية . وكان البحار السودانى يتلقى ثلاثمائه دولار كمرتب فى الشهر زائداً بعض العلاوات والاوفر تايم . وكان الاجر العالمى المحدد بالقانون الدولى لا يقل عن الف دولار فى الشهر وهذا بدون البدلات والافرتايم الذى قد يصل الى اثنين الف دولار فى الشهر . لان السودانيين كانوا يعملون بقانون الخدمة الوطنيه الذى يتيح لهم ضمانات اجتماعيه ومعاش والخ . وهذا ما تغولت عليه الانقاذ .
كثير من اهل واقرباء العاملين فى الخطوط البحرية السودانيه وجدوا فرصه لزيارة العالم الخارجى ، والعلاج والتواصل عن طريق تلك المؤسسه الرائعه . وقد ساعدت تلك المؤسسه عشرات الآلاف من الاسر السودانيه فى الحصول على حياة كريمة . وكانت مثل الخطوط الجويه السودانيه تخرج لسانه لاغلب الخطوط الاخرى فى المنطقه ، لانها كانت الاحسن والاكثر سلامه . وكان يديرها خيرة رجال الوطن .
اول اتصال لى مع الخطوط الجويه البحريه كان فى بداية 73 عندما قدت شاحنه بدفورد من السويد وحملتها بماكينات سيارات مستعمله . واشتريت بضعة آلاف من الاطارات المستعمله من المانيا . وكانت تلك اول مرة تؤخذ اطارات مستعمله الى السودان . وكان الاخ الجنتلمان مصطفى يدير مكتب الخطوط البحرية السودانيه فى هامبورج بمساعدة الكابتن اليوغسلافى الذى ادار المكتب لسنين عديده . والسودانيون كانوا يذهبون لزياره السفن السودانيه عندما تحضر الى هامبورج ، كوبنهاجن ، روتردام وكانت تلك الزيارت تفرح السودانيين ، ولا يتضايق منها البحاره . وتغيرت هذه الروح بعد الانقاذ .وفي بعض الاحيان كان الطباخ النوبي يصر على ان يعزم علينا بما يسميه .... أكل بلدي ..... بتكونوا تعبانين من اكل الخواجات . ثم ماتت الخطوط البحريه السودانيه .
كان الاخ مصطفى رائعاً بشوشاً متفهماً وكريماً . وعنده حل لكل مشكله .وكنا نشحن الاشياء وندفع الترحيل بالعمله المحليه فى بورتسودان . وكانوا يتساهلون معنا فى الدفع ويمهلوننا . واذكر اننى شحنت على الباخره شندى فى سنه 76 مائه طن من البصل كانت اول محاوله لتصدير البصل السودانى الى اوربا . والخطوط البحريه السودانيه كانت هنالك لمساعدة المواطن السودانى . وكنا نحس بأننا نتعامل مع اهلنا .
فى الثمانينات تكونت الجامعه البحريه العالميه التابعه للامم المتحده فى مدينة مالمو . وليس بعيدا عن حوض السفن السويديه ( كوكومس ) الذى كان فى يوم من الايام اكبر حوض سفن فى العالم ، قبل ان تتجه الصناعه الى شرق اسيا . وكان الحوض ينتج الغواصات والمانيا والسويد كان من اقدم الدول في انتاج الغواصات . وهذه الجامعه لا تزال للدراسات البحريه العليا . ويشمل هذا الارشاد ، والقانون البحرى ، والاداره ، واشياء اخرى .
اول المبعوثين كان الكابتن حمد النيل ، وهو من خريجى رييكا فى يوغسلافيا . وكان قد أتى لدراسات عليا لان ميناء بورتسودان كان يعمل برخصة كابتن ارشاد مصرى ( بايلوت ) . والمصرى يسكن فى الاسكندريه ويتقاضى سته الف دولار ومخصصات . والقباطنه السودانيين هم اللذين يقومون بالعمل . والحقيقه ان كل بايلوت هو كابتن ولكن ليس كل كابتن ببايلوت . لانها تحتاج لتدريب معين .
الاخ حمد النيل بوجهه االبشوش وبسمته الدائمه وطعمه السودانى ، كان مكملاً لمجموعتنا السودانيه . احببناه وفرحنا عندما عرفنا انه سيعود لكى يوفر مرتب الكابتن المصرى ومخصصاته ، والذى لم يكن يؤدى اى عمل .
ثم اتت مجموعه رائعه من السودانيين أثروا حياتنا بقصصهم وتجاربهم فى الدنيا .وقصص البحر التى لا تنتهى . وكنت احضر تخرجهم وحفلاتهم . ولاننى كنت وقتها مصاباً بمرض التصوير الفتوغرافى فلقد كنت اغطى نشاطاتهم ونشاطات اغلب السودانيين . وفجأة توقف حضور الكباتن اصحاب البسمه والعشائريه والبشاشه . وأتانا كباتن من الكيزان . وهذا قبل سرقه الانقاذ للسلطه .
المحنه السودانيه هى ان الانقاذ كانت تخطط لسرقه السلطه وكل السودان . وكأخطبوط بشع كانوا يتمددون . وحتى فى ايام نميرى كان كل المبعوثين الى الدنمارك من البيطريين هم من الكيزان ، والاطباء اللذين كانوا ياتون للتخصص فى السويد كانوا من الكيزان او من ساندوهم . ولقد دهشنا عندما شاهدنا كباتن من الكيزان . فحياة البحر ممله . يفضل فيها اصحاب الفرفشه والبهجه، ومن هم على مقدرة للتعامل والتفاهم مع الآخرين . الصوره الفوتغرافيه التى ارفقها مع هذا الموضوع هى لتخرج اربعه من الكباتن من جامعه الامم المتحده البحريه فى مالمو . ولقد كانوا من الرائعين ، لا نزال نحس بطعم روحهم الجميله وعظمة السودان. وبعدها أتوا من لم يكن بيننا وبينهم اى تواصل . كانوا كما قال الطيب صالح ، من اين اتى هؤلاء؟ .
المحنه السودانيه هنا كيف ذبحت الوزه التى تبيض ذهباً ، ولماذا ؟ . ولمن بيعت شندى وشقيقاتها ؟. لقد قدمت الدنمارك سفن حديثه اوتماتيكيه للشعب السودانى لنقل منتجاته . وكان لها لونين ، الابيض والاخضر ، ويميزها انها كانت مسلوبه فى المؤخره .
سمعنا ان الهديه لا تهدى ولا تباع ، تلك السفن كانوا هديه من الشعب الدنماركى . مثل مشروع مياة الجزيره الذى نفذه الدنماركيون كهدية للشعب السودانى . وكانوا سيواصلون فى اماكن اخرى . الا ان الانقاذ اصرت على بيع الماء الذى هو هدية من ملكة الدنمارك للشعب السودانى . وملكة الدنمارك احبت السودان منذ ان كانت فى السادسه عشر من عمرها . لانها كانت تحضر مع جدها ملك السويد الذى كان مسكوناً بحب آثار النوبه ، وكان يحضر كثيراً للسودان . وعندما اهدت الدنمارك محطه كهرباء لكريمة ، اراد النميرى ان ينتزع المحطه ويضعها فى مكان آخر ( وربما ود نميرى ) ، ولكن الشركه المنفذه رفضت وقالوا لنميرى ، بانهم سيركبون المحطه فى كريمه حسب العقد . وفى امكانه ان يأخذها بعد ذلك . ولا تزال المحطه موجوده فى كريمه كهديه لمدينه كريمه .
التحيه ..
ع ـ س شوقى بدرى .

shawgibadri@hotmail.com

 

آراء