ليلة أمس قيل لنا بيروت مدينة منكوبة. إنها ليست النكبة الأولى. العاصمة الجميلة قاست نكبات عديدة. كذلك قالوا مشهد المرفأ فيها كأنه ساحة حرب. بيروت خاضت ويلات الحروب فعلا. بيروت مدينة ساحرة مسحورة كما وصفها الصديق الأديب الراحل عبد الهادي الصديق – على روحة السلام والمغفرة -. بيروت مدينة "معيونة" كما يردد اللبنانيون أنفسهم .بيروت مدينة صبور حمول صمود أعظم من أن تغدقوا عليها الشفقة والرثاء. مدينة تجيد مهارات نفض الحزن عن كاهلها الفتي وتستأنف مشوارها الحياتي البديع.
*** *** ***
هكذا عايشت أهوال الحرب الأهلية البشعة . العديد من جنبات المدينة الفاتنة المترفة تحولت إلى أكداس من خرابات وأكوام من قمامات تفوح منها روائح النتانة ، والجثث المهترئة. ستة عشر عاما طعمت إبانها المدينة كافة صنوف ممارسات الحرب القذرة. لكنها لم تفقد رباطة جأشها فنهضت من بين الأطلال كأقوى ما يكون الصبا لتستأنف الحياة بشبقها المتأجج. من حسن حظها أن سخر لها رجلا قادرا مقتدرا، ولِهاً بها ربط مصيره بقدرها فلاقى مما لاقت من الغيرة والحسد ففجروه كما فجروها. هو ليس كمثلها في القوة والعنفوان فكان تفجيرا واحدا يكفي لخاتمة مصيره.
*** *** ***
يوم إغتيل رفيق الحريري وصف شهود الحادث شارع السان جورج كأنه من سيناريوهات يوم القيامة.ذلك السيناريو كان حدثا يوميا عندما تعرضت بيروت للقصف الإسرائلي الوحشي المكثف على عتبة ثمانينيات القرن الأخير. بنايات انهارت على ساكنيها . بينما نجت عائلات من عمليات التدمير الممنهجة وألسنة اللهب المشتعلة لكنها لم تجد غير الأطلال ملاذات تأويها.
البنايات الأسمنتية انهارت لكن إرادة المدينة الصامدة لم تستسلم للحصار المعزز بحمم النار وآليات الدمار.
*** *** ***
بيروت مدينة عمرها يتجاوز أربعة من الآلاف. قوامها نحو من مليوني ساكن تختلط فيهم أعراق لا حصر لها .أحد أجمل مكونات بيروت الجاذبة ذلك الثراء من التنوع في الأعراق والأديان والمذاهب. إليها ورد وفيها اختلط عرب المشرق مع عرب المغرب وتصاهروا مع عجم من فارس، تركيا ، اليونان وشركس وألبان ، أرمن وأكراد ينتمون إلى الإسلام والمسيحية منهم سنة وشيعة ودروز كاثوليك أرثوذكس ، بروتستانت ،روم ومراونة وحفنة من يهود .هذا الثراء في التنوع أكسبها فطرة التعايش والتسامح فأنتجت المدينة ثمرة شهية لا شبيه لها في العالم العربي .مثل كل العواصم تستقبل بيروت وافدين من أنحاء القطر اللبناني وأرجاء المعمورة لكن أهل المدينة الأصلاء لهم ثقافتهم الخاصة في السكن الملبس والأكل واللهجة هؤلاء هم البيروتيون أو " البياترة " كما يحبون أن يسموا أنفسهم.
*** *** ***
بيروت أسست لذاتها مكانة متفردة في الشرق الأوسط . هي مدينة سباقة عرفت قبل غيرها وأكثر منهن فنون الحياة من ثقافة ،صحافة، طباعة، أزياء ،مصارف ومؤسسات متنوعة ومختلطة فيها برزت صناعة السياحة المتكاملة حتى قيل انها كانت على وصفات الأطباء لبعض مرضى الإكتئاب. لا مدينة تضاهي بيروت في صناعة السهر .منها تتدفق المطبوعات الصحافية والأدبية والترجمات إلى المكتبات العربية. اليها يرد طلاب من كل البلدان العربية.عليها تدفقت أموال العرب للإدخار أو الإستثمار بيروت تعاملت قبل غيرها من عواصمنا في المال السياسي.
*** *** ***
بيروت كانت ساحة لتفاعل التيارات السياسية العربية . فيها تتقاطع وفيها تتداخل إليها يذهب الساسة والموفدون ورجال الإستخبارات. فيها تعقد الصفقات وترسم المخططات وتحاك الدسائس كانت بيروت هانئة بذلك تمد لسانها في البحر ساخرة من كل اليابسة العربية النخب اللبنانية ساهمت في زحزحة بيروت عن مكانتها .الزميل سعد محيو قال في إحدى حواراتنا أصبنا بيروت قبل غيرنا بالضررعندما كرسنا أقلامنا من أجل محاربة ما أسميناه إقتصاد الكمبر ودور بهتانا الشاعر المعروف سعيد عقل انتحر وهو مؤيدا للهجوم الإسرائيلي في 1982 من منطلق الإيمان بالقومية اللبنانية وكفرا بالعربية مرورا بطرد الفلسطينيين. غاب عقل والإسرائيليون وظلت بيروت الساحرة
*** *** ***
لن نردد مع الفيتوري: الله يا بيروت للجبل عندما أضاء حجرا فحجرا ثم اشتعل بل نقول: عندما احترق المرفأ والبحر اشتعل .
ولى في بيروت كوكبة من الأصدقاء الرائعين ومواعيد عالقة في القلب والذاكرة
aloomar@gmail.com