بين سلطة مهملة وجمهور لا يتقيد
صحيفة التيار 29 نوفمبر 2020
ورد في بيتين من الشعر منسوبين إلى الإمام الشافعي، قوله: "جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي/ وما حمدي لها شكرا ولكن عرفت بها عدوي من صديقي". وأود في سياق ما أود الحديث عنه في هذه المقالة أن أستخدم هذين البيتين في وجهة ما أظهرته جائحة كورونا من مثالب المسلك لدى نخبنا القائدة ولدى عامة الشعب. فمقدار حصيلتنا من التمدن والتحضر لم يسبق أن اختبرت بمثل ما اختبرت به في هذه الجائحة الهوجاء. كما لم تنفضح ضآلة محصولنا من التحضر والتمدن بمثل ما انفضحت به في هذه الجائحة، أيضا. لقد أهدتنا هذه الجائحة عيوبنا كأوضح ما يكون وليتنا عملنا بجد على التخلص منها. وتتمثل بداية التخلص منها في الاعتراف بها وترك المكابرة بشأنها.
منذ نهايات أكتوبر بدأ الحديث على مستوى العالم عن الموجة الثانية من جائحة كورونا. وقد بدأت الإصابات بها تتكاثر في نصف الكرة الأرضية الشمالي بصورة تنذر بخطر داهم. الأمر الذي حدا بالسلطات في عديد الأقطار للتفكير في الإغلاق الجزئي، وفي شن حملات التوعية الواسعة، وفي التشديد على ضرورة اتباع التوجيهات. وقد حدثت تفلتات في المجتمعات الغربية تمثلت في تظاهرات جماهيرية جرت هنا وهناك. وهذا طبيعي، فليس هناك مجتمع كامل التمدن. لكن، مع ذلك، لا مقارنة البتة بيننا وبين الغربيين في احترام القوانين وفي الانصياع لتوجيهات السلطات. الشاهد أن السلطات لدينا أظهرت افتقارا فاضحا للصفات القيادية وللقدرة على اتخاذ المبادرات التي تدرأ الأخطار.
في 15 نوفمبر أقامت الحكومة احتفالا جماهيريا جرى فيه استقبال قادة الحركات المسلحة العائدين بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام. وقد جرى حشد الجماهير لهذا اللقاء الجماهيري، فتوافد الآلاف إلى ساحة الحرية بالخرطوم رغم نذر الجائحة التي جعلت العالم بأجمعه يقف على أمشاط أصابعه. بعد خمسة أيام من الحشد الذي جرى في ساحة الحرية أقام فنان الطمبور محمد النصري حفلا غنائيا حاشدا بنادي ضباط القوات المسلحة أمه الآلاف من الشباب، الذين جلسوا متلاصقين بلا احتراز لساعات. ثم جاءت وفاة الإمام الصادق المهدي، عليه الرحمة والمغفرة والرضوان، ليتدافع الآلاف من الأنصار وغيرهم لتشييعه في جامع الخليفة. هذه الحشود الجماهيرية الضخمة حدثت كلها في مدة لم تتجاوز 12 يوما. فقد جرت في 15و 20 و 27 من نوفمبر الجاري. ويحمد لهيئة شؤون الأنصار أنها طلبت من الأنصار في الأقاليم تلقي العزاء في أماكنهم. غير أن الحشد الذي حضر التشييع كان صخما جدا وينذر بخطر كبير في الأسبوعين المقبلين. وأعتقد أننا نجني حاليا خطأ إقامة احتفال الساحة الخضراء وحفل نادي الضباط في هذا الاستشراء الكبير. ونسأل الله اللطف فيما هو مقبل.
نحن نعاني من أزمة تاريخية في القيادة، ومن ثم في القدرة على الأخذ بزمام المبادرة بإصدار التوجيهات وفرضها بقوة القانون على المواطنين. لقد جرت حشود نوفمبر بمباركة السلطات، بإستثناء تشييع الإمام الصادق المهدي، الذي لم يكن بمقدور السلطات التحكم المطلق فيه. لكن، كان من الممكن التحكم الجزئي فيه، وهو ما لم تقم به السلطات. أما الإعلام الحكومي فهو، كعادته، "صوت سيده". فهو لا يتحدث إلا بعد أن تتحدث السلطات، التي بدورها قليلا ما تتحدث حديثا مفيدا.
نحن في أزمة بنيوية مزمنة ومزدوجة، تتمثل في نخب متنفذة بلا صفات قيادية. فهي مشغولة بنفسها بأكثر مما هي مشغولة بالشأن العام وبالصالح العام. كما تتمثل، أيضا، في جمهور تدفعه عاداته التي أضحت أصناما معبودة، للانقياد الأعمى لتلك العادات، بأكثر مما ينصاع للعقل وللحكمة. فهو لا يعرف الانصياع للتوجيهات والتحذيرات التي تملأ وسائط الإعلام العالمية ولا يحترم شيئا مما تقوله السلطات هنا في السودان، إن هي خرجت وقالت شيئا. ولسوف يحصحص الحق فيما يتعلق بفداحة هذه الجائحة الثانية في الأسبوعين المقبلين. فهلا وضعنا خيار الإغلاق التام على الطاولة؟ وهلا استبقنا ذلك بإعلان الطوارئ الصحية وشرعنا في فرض إجراءات صارمة ووقفنا جميعا على أمشاط أصابعنا لدرأ خطر الموت الزؤآم الذي أخذ يدق على الأبواب؟