تشييع القرشي: صورة تاريخية نادرة .. إعداد: حسن الجزولي
الميدان تتحصل على أسماء ممرضات صورة تشييع القرشي
سستر مريم قطبي تروي كيفية مشاركة الممرضات في موكب التشييع
الحس الثوري والوطني هو ما دفع الممرضات للمشاركة في تشييع الجثمان
فريق التقصي يناشد بتكملة البحث عن بقية أسماء الممرضات اللاتي شاركن في الموكب
إعداد:ـ حسن الجزولي
صورة فوتوغرافية تعد أحد أشهر صور ثورة 21 أكتوبر إن لم تكن أشهرها، وهي تلك الصورة التي تظهر فيها عشرة ممرضات بزيهن الأبيض ويحملن على راحة أياديهن مرايل، وهن يتقدمن الموكب المهيب لتشييع الشهيد أحمد القرشي طه من مستشفى الخرطوم إلى ميدان عبد المنعم، لتتم الصلاة عليه قبل أن ينقل لقريته القراصة بالنيل الأبيض لمواراته الثرى.
هذه الصورة ورغم مضي نحو 53 عاماً على وقائعها وأحداثها، ولكن لم تلقى الإضاءات الكاشفة لقراءة توضح كافة الجوانب المتعلقة بها، فلم يعرف أحد من هن أولئك الممرضات وما صلتهن بموكب التشييع وكيف وبأي آلية شاركن في ذاك الموكب المهيب وأين هن الآن، أسئلة واستفهامات وعلامات تعجب ظلت تتكاثف كل عام لتلقي مزيداً من العتمة على أصل الصورة وتفاصيلها المرتبطة بأخطر أحداث البلاد التاريخية المعاصرة، كما جرت العادة بالنسبة للكثير المتعلق بتاريخ بلادنا المعاصر منه تحديداً،، دع عنك تليده!.
بدايات متعثر:ـ
صحيفة الميدان حاولت سبر غور تلك الصورة والاجابة على الأسئلة أعلاه حول شخصيات الصورة، ورغم الجهود التي بذلها تيم التحقيق والبحث والتقصي طيلة ما يزيد عن السنتين، إلا أن حصيلة ما خرجت به لم تكن إلا ضئيلة ولا تقاس بالمدة الزمنية التي قضاها التيم في البحث المضني، ومع ذلك يحسب ما تم التوصل له بالايجابي الذي يمكن أن يتم تطويره، حيث ما تزال بعض الأسئلة بلا إجابات شافية ولم يتم التوصل إلا لخمسة فقط من شخصيات الصورة المشار إليهن من بين عشرة ممرضات، وقد كانت أقوى أسباب الصعوبات التي واجهت تيم التقصي هو الموت الذي رحل بغالبية تلك الدفعة من الممرضات اللاتي شكلن الأفواج الأولى من اللاتي ولجن مدرسة التمريض قبل أن تتطور لتصير كلية ثم كلية للتمريض العالي. حيث ومن بين عدد 23 من ممرضات تلك الفترة من اللاتي توصل لأسمائهن تيم التقصي اتضح أن 12 منهن قد رحلن لرحمة مولاهن، ولم يتم الوصول للبقية بحكم تباعد الزمن واضمحلال ذاكرة من استطاع فريق البحث الوصول إليهن، هذا إضافة لاستعصام البعض كالعادة بعدم التجاوب والتعاون مع فريق البحث لأسباب متعددة للأسف الشديد!.
أول خيوط للأمل:ـ
لم يكن هناك أي خيط مناسب يمكن أن يبدأ منه فريق التقصي حول الصورة الفوتوغرافية بحثه وجهوده، إلا أن الصدفة المحضة قادت الفريق عن طريق همة د. نعمات رجب للامساك بأول الغيث، حيث أشارت د. نعمات إلى جهة أبكدوك بأم درمان أمام منازل قشلاق البوليس حيث تسكن "ميترون" بالمعاش تجاوبت مع مهمة فريق التقصي، وكذا كان الأمر مع من أشار لنا إلى زوجته التي لم نكن نتوقع منها ما تنتظرنا به من مفاجأة كما سنرى لاحقاً.
وهكذا بدأنا من الصفر ممسكين بخيوط واهية تدرجنا بها حتى استطعنا التوصل لشخصيات خمسة فقط من الممرضات اللاتي بالصورة، وهو جهد عظيم بمقاييس العراقيل التي كادت أن تسد أبواب الأمل وتصل بفريق التقصي لليأس وصعوبة المهمة ومن ثم نفض الأيادي منها إلى أمر آخر.
***
في منزلها نواحي حي أبكدوك بأم درمان استقبلتنا "الميترون " فتحية إبراهيم جنجة، وعند جلوسنا معها وبواسطة أريحيتها وبشاشتها وسمتها الطيب المتجاوب مع مهمتنا إنفتح أمامنا سرداب من المعلومات.
تعد فتحية ضمن أول دفعة من كلية التمريض، تزوجت من د. عبد المنعم رجب وتدرجت في سلك التمريض حتى درجة "ميترون" ومساعدة لرئيسة السسترات ثم رئيسة سسترات، حيث تلقت كورسات متعددة، وعملت مع كل من السسترات اللاتي سيرد الحديث عنهن لاحقاً وهن كل من فتحية سعد وعواطف إبراهيم اللاتي تم ابتعاثهن في منحة تدريبية إلى لندن ثم الراحلة عواطف بشير حامد "شقيقة محمد بشير حامد وزير الثقافة في فترة الانتفاضة عام 1985، وعملت بالخرطوم ومدني وجوبا والفاشر وتقاعدت عام 20000.
حدثتنا سستر فتحية موضحة أن عدداً من الدارسات للتمريض كن أول من بدأت بهن مدرسة التمريض قبل أن تتطور لتصبح كلية التمريض العالي، وقد أوردت سستر فتحية أسماء عدد من هؤلاء الممرضات وهن كل من :ـ
1ـ هدى عبد العزيز محمد خير شنان {رحلت} 2ـ فاطمة عثمان كيلة {رحلت}.3ـ كلتوم العجب {رحلت}4ـ عزيزة رمضان { وزارة الصحة}.5ـ عائشة الصوفي {كانت طالبة وقتها}.6ـ بتول سعد مرسال { مديرة سسترات ـ رحلت}.7ـ خديجة إدريس رفاي { رحلت}.8ـ حياة باب الله { رحلت}.9ـ نعمات مالك {كانت طالبة وقتها}.10ـ آمنة فضل {تقاعدت وتسكن حي الموردة حالياً}.11ـ أسماء فضل {من شندي ـ رحلت}12ـ سنية الطيب عوض الله { تقاعدت وتسكن حالياً حي الموردة}.13ـ فتحية سعد { تسكن أم درمان شارع الأربعين }.14ـ فتحية إبراهيم جنجة {متقاعدة وتسكن حي أبكدوك}.15ـ إنعام النور {تعمل بالذرة ـ شقيقة سستر خديجة النور}16ـ خديجة النور .17ـ عواطف عثمان { عميدة كلية التمريض ـ رحلت}.18ـ عواطف بشير حامد {رحلت}.19ـ علوية ،،،،،،.20ـ مريم برهان { من شندي ـ شقيقة نعيمة برهان بالمستشفى الدولي}.21ـ زينب صالح {تسكن بشارع الأربعين}.22ـ فتحية عباس { رحلت}.23ـ أسماء الطيب { تعمل حالياً بجمعية تنظيم الأسرة السودانية وبجامعة الأحفاد}.
كيفية المشاركة في الموكب:ـ
محجوب خالد أحد الكادر التنظيمية بالحزب الشيوعي والمتفرغ بمركز الحزب بالخرطوم 2 أشار لنا لزوجته، عندما علم بمهمة فريق تقصينا، وبلهفة توصلنا لسستر مريم قطبي عبد الرحمن وهي التي لم نكن نتوقع المفاجأة التي تنتظرنا بها عندما رحبت بالتعاون معنا كما سنرى لاحقاً!.
ـ مرحب سستر مريم.
ـ مرحب بيكم.
ـ هل عندك أي معلومات تفيدنا حول الصورة التاريخية لموكب تشييع القرشي؟.
ـ بالحيل عندي ،، أنا موجودة ضمن العشر ممرضات في الصورة المعنية!.
صرخنا بصوت واحد ـ فريق التقصي ـ:ـ إنتي موجودة في الصورة؟!.
وبدأت معلوماتها تتدفق:ـ
دخلت مدرسة التمريض عام 1963 وتخرجت عام 1976، وتوظفت بمستشفى الخرطوم كممرضة تحت التمرين وقتها قبل التخرج في مدرسة التمريض، مدرسة التمريض تختلف عن كلية التمريض، التي تختلف بدورها عن كلية التمريض العالي، كان هذا هو تسلسل كليات التمريض أكاديمياً.
تمضي سستر مريم قطبي في روايتها موضحة أنها كانت في ليلة 21 أكتوبر عام 1964 تسد نبطشيتها مع بعض زميلاتها بالمستشفى:ـ إتنين مننا مشن يجيبن العشاء من المطاعم حول المستشفى، بعد دقائق معدودات إتفاجئنا بيهن رجعن مذعورات ونقلن لينا إنو في أحدث سياسية وقعت في جامعة الخرطوم والبوليس أطلق رصاص على الطلبة وإنو قسم الحوادث يستقبل الحالات الخطرة للطلاب الجرحى، هرعنا على الفور لقسم الحوادث لنجد حشوداً من الطلاب الغاضبين بينما بدأت الجماهير تتدفق على المستشفى، قمنا بإسعافات للجرحى من الطلاب، وأذكر بينما أنا مشغولة بتجهيز درب لأحد المرضى، فإذا بمجموعة من الطلاب يدخلون مسرعين إلى داخل قسم الحوادث وهم يحملون أحد الطلاب المصابين على مرتبة امتلآت بالكامل تقريباً بالدماء، أُدخل على الفور في غرفة جانبية والتف حوله الأطباء والممرضين في محاولة لايقاف نزيف الدم وإنقاذ الجريح المصاب، كانت الجمجمة مهشمة نتيجة لاختراق رصاصة نفذت من مقدمة الجبهة إلى مؤخرة الرأس، وكان الدم يتدفق غزيراً، لم تمض سوى بضع دقائق حتى فاضت روح الطالب، عندما خرجت أستنشق هواءاً من غرفة المتوفي سمعت طالباً ينقل لزميل له بأن أحمد القرشي طه قد أُستشهد الآن!.
على الفور طوق الطلاب الغاضبون مع الجماهير المكتظة منطقة المشرحة ليحيلوا دون قدرة البوليس على انتزاع الجثمان، ما أذكره أنه في صبيحة اليوم التالي باكراً، أتانا أثنان من أساتذتنا في مدرسة التمريض وهما أستاذ بشارة وأستاذ عبد الوهاب ولم أعد أذكر أسم أبواهما للأسف مع سليمان أبو صالح عميد مدرسة التمريض وقتها ، ووجهونا بضرورة المشاركة في التشييع، وبالفعل ونتيجة لتأثرنا بأجواء الاحساس الوطني الذي بدأ يعتري كل فرد ربما من أفراد الشعب السوداني في تلك اللحظة، لم نتردد وانتظمنا في مقدمة موكب التشييع بأزيائنا الرسمية، وكانت تلك هي الهيئة العامة لأزياء كل ممرضات البلاد العاملات في مستشفيات البلاد، حيث توجه الموكب إلى ميدان عبد المنعم بالخرطوم للصلاة علي الجثمان والتوجه به ليدفن بقريته القراصة بالنيل الأبيض وهو محمول على لوري.
ـ هل يمكنك أن تدلينا على أسماء الممرضات اللاتي كن معك بالصورة؟.
ـ للأسف الذاكرة أصبحت تعبانة لكن أنا كنت نمرة 5 على اليسار، رقم 2 على يسار الصورة هي الراحلة مريم جادين، الثالثة على يسار الصورة هي إحدى الزميلات من بنات الجزيرة ولم أعد أستحضر اسمها، الرابعة هي الراحلة علوية الفيات من نواحي حي العرب بأم درمان، الخامسة هي أديبة منصور وكانت وقتها معلمة بمدرسة التمريض وكانت العاشرة في الصورة.
جذور ثورية راسخة:ـ
كان من الطبيعي أن تتفاعل أولئك المرضات مع أحداث تلك الفترة، وتبرز مواقفهن الوطنية حداً يتقدمن فيه مكب التشييع الذي كان بداية لمعركة سياسية مع الديكتاتورية العسكرية الأولى التي سحقها الشعب ومرغ أنفها المتغطرس في التراب واستعاد حرياته وحياته الديمقراطية الواسعة وفسيحة، فلقد كان الانتماء والارتباط الطبقي لقطاع واسع من الممرضات السودانيات يشير لثورية هذه الفئة، ووعيها الباكر بضرورة تنظيم نفسها في حركة نقابية مطلبية من أجل تحسين مستويات معيشتها وبالتالي الارتباط الوثيق بقضايا أمتها السياسية والاقتصادية، فقد نشأت الحركة النقابية لممرضي وممرضات السودان في فترة باكرة منذ ما قبل استقلال السودان وشاركت عضوية هذا القطاع من خلال نقاباتهم في النضال الذي خاضته جماهير الشعب السوداني من أجل الاستقلال ونيل الحريات العامة. وكانت مساهمة الحركة النقابية للممرضين والممرضات السودانيات بارزة ومؤثرة.
وتشير الأستاذة فائزة نقد عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى المسألة من زاوية تراها من الأهمية بمكان، حيث ركزت على تأثير غير مباشر من قبل الأزواج والأخوان والأقرباء على الوعي الطبقي والسياسي لكثير من ممرضات تلك الفترة وما تلاها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تجد ضمن قطاع الممرضات السودانيات زوجات لعدد من السياسيين كسستر فتحية محمد أحمد التي ارتبطت في فترة من حياتها بمحمد إبراهيم نقد السكرتير السياسي السابق للحزب الشيوعي السوداني وتجد زوجة معاوية إبراهيم سورج الكادر السياسي السابق في قيادة الحزب الشيوعي السوداني، كما تجد زوجة محمد أحمد سليمان الكادر القيادي السابق في الحزب الشيوعي السوداني أيضاً. ولاحقاً سستر نعمات مالك زوجة عبد الخالق محجوب السكرتير السياسي الأسبق للحزب الشيوعي السوداني، وتجد الراحلة سستر عواطف بشير حامد شقيقة محمد بشير حامد وزير الثقافة فترة الحكومة الانتقالية في أعقاب الانتفاضة في عام 1985 والمنتمي لليسار العريض والقوى التقدمية السودانية وغيرهم وغيرهن.
ما تبقى:ـ
وفريق التقصي عن أصل الصورة الفوتوغرافية المشار إليها إذ ينشر هذه التفاصيل والمعلومات التي تحصل عليها رغم شحها، إنما يناشد كل من يستطيع مد التعاون أن يساعد في مواصلة الجهود وتقديم كلما من شأنه أن يساعد في إكمال القراءة التاريخية للصورة ببناء توثيقي محكم يتم به سبر غور تلك الصورة التاريخية الجميلة لنقدم إضاءة غير معتمة أو خافتة لأجيال البلاد الحالية والقادمة. لقد ضاعت ملامح تاريخنا وكادت وقائعه تندثر رويداً للأسف الشديد ولم تتبن أي مؤسسة حكومية أو شعبية مهمة إعادة كتابة تاريخ البلاد بشكل مكتمل وصحيح للأسف الشديد، فانفتحت الأبواب على مصاريعها لتبني الكثير من الحقائق غير السليمة والمعلومات المضللة والمجانبة لحقائق الأشياء ووقائع تاريخ السودان!. فهل نشمر من سواعد المساعدة لنتعرف على بقية الشخصيات الخمس الأخرى بالصورة؟!.
helgizuli@gmail.com