نشرت صحيفة الصيحة في عددها الصادر يوم الثلاثاء المُوافق 10 يونيو 2015 الصفحة رقم (3)، حواراً بعُنوان (د. هيثم يُشرِّح الوزارات المعنية بحياة الناس)، حمل مُتناقضات كثيرة جداً وقع فيها صاحب الحوار، حيث أورد معلومات (مُشوَّهة) و(مغلوطة) مُتعلِّقة بالعلوم الإدارية دون أي سند علمي، حتَّى ولو كان (أقاويل)، ناهيك عن كُتُب أو مراجع وبحوث علمية رصينة! وهو أمرٌ يتقاطع مع الوصف التعريفي المُصاحب له (أي صاحب الحوار)، حيث وصفوه بالـ(خبير)، وبالتالي فإنَّ أي حديث يصدُر عنه سيجد صداه لدى القارئ العام، الذي يتعامل بـ(ثقة) عالية مع ما يُنشَر في الصُحُف، باعتبارها تُؤدي رسالة سامية في التوعية والتثقيف والتنوير استناداً لأُسس معرفية وعلمية موثوقة ورصينة، وهو الأمر الذي دفعني (دفعاً) لهذا التعقيب على بعض مُفرداته.
في ما يخص المُغالطات الأكاديمية التي وردت في الحوار المُشار إليه أعلاه، ما (وَرَدَ) بشأن (الخطة ربع القرنية) وهو يتقاطع مع كل الأدبيات الإدارية الرصينة، حيث لا توجد خطة بهذا المدى في كل أنواع التخطيط المعروفة، سواء كان التخطيط على المستوى القومي، أو التخطيط على مُستوى المُنشآت العامَّة أو الخاصَّة. والمعلوم لأي (مُتخصص) ناهيك الـ(خبير) أنَّ التخطيط الاقتصادي يشمل النوعين معاً (التخطيط القومي وتخطيط المُنشآت)، على أنَّ التخطيط القومي هو الأكبر والأشمل، وله عدة أنواع لعلَّ أبرزها التخطيط القومي الشامل لكافة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية على مستوي الدولة ككل، والتخطيط الجُزئي لأحد القطاعات الاقتصادية أو الاجتماعية كالزراعة أو الصناعة، والتخطيط الإقليمي المُتعلق بأحد أقاليم الدولة أو منطقة جُغرافية مُعيَّنة، وهو جُزءٌ من التخطيط القومي ويعتبر مُكملاً له لتحقيق التوازُن بين الأقاليم. فضلاً عن التخطيط الهيكلي والتخطيط الوظيفي، ويعني خطة اقتصادية ضمن الهيكل الاقتصادي القائم (دون تغييرات جذرية). وهناك الخطة الرئيسية التي تحتوي على المشروعات التي يُمكن تنفيذها لتوافر الموارد (تمثل الجُزء الأول من خطة الدولة الشاملة)، بجانب التخطيط التكميلي، وهو الجزء الثاني من خطة الدولة الشاملة للمشروعات التي يمكن تنفيذها في حالة توافر موارد.
كما يوجد التخطيط المركزي عبر هيئة تخطيط مركزية تضع الخطة القومية الشاملة دون مُشاركة الأجهزة الدنيا والتي يقتصر دورها على التنفيذ، والتخطيط اللامركزي بمُشاركة الأجهزة غير المركزية في وضع الخطة باقتراحاتها وأفكارها، ويُطلق عليه التخطيط التأشيري أو المنهجي، حيث تضع الدولة خطة اقتصادية وتترك للوحدات الاقتصادية حرية تنفيذها. وهناك التخطيط طويل الأجل للأهداف العامة المرغوب تحقيقها في المدى الطويل (خطة خمسية/خطة عشرية)، والتخطيط متوسط الأجل للأهداف القابلة للتحقيق خلال فترة من سنة حتى أقل من 5 سنوات، فالتخطيط قصير الأجل ويعني خطة سنوية أو أقل تتضمَّن الإجراءات والسياسات اللازمة لتحقيق الأهداف قصيرة الأجل. وبغض النظر عن نوع التخطيط أو مُسمَّاه أو نطاقه على النحو الذي أبرزنا بعضاً منه أعلاه، لا تُوجد خطة (رُبع قرنية) إطلاقاً ولم يرد هذا في أي من أدبيات الإدارة، وعلى اختلاف مدارسها وأفكارها، وهذا خطأ (أكاديمي) و(علمي) لابد من تصويبه، ولا ينبغي أن يصدُر ممن يحمل صفة (خبير)! ويبدو بأنَّ الأمر التبس عليه، و(خَلَطَ) بين الـ(استراتيجية) والـ(خطة)، وهنا المُصيبة أعظم! فالاستراتيجية تُعنى بالمُوجِّهات والمحاور الرئيسية، بينما تشمل الخطة تفاصيل وكيفية تنفيذ هذه المُحاور وتلك المُوجِّهات، أي أنَّ الخُطَّة جُزءٌ من الاستراتيجية التي لم يرد ذكرها على الإطلاق، وهذا عن الأخطاء الأكاديمية التي وَرَدَت في الحوار أعلاه.
في ما يتعلِّق بالجوانب العملية، فقد حَمَلَ الحُوار أيضاً (مُغالطات) و(تقاطُعات) غريبة لا يُمكن تمريرها، ويتحتَّم تنبيه الرأي العام بها، من ذلك ما وَرَدَ نصاً (رئيس الجُمهُورية في المُؤتمر الاقتصادي (وَعَدَ) بإضافة التخطيط لوزارة المالية، وكانت مُخرجَات المُؤتمر الاقتصادي للمؤتمر الوطني أوصت بإنشاء وكالة للتخطيط الاقتصادي تتبع لوزارة المالية)! فكيف (وَعَدَهُم) بإرجاع التخطيط للمالية بينما (أوصى) المُؤتمرون بإنشاء (وكالة للتخطيط)؟! وهل (وَعْدْ) الرئيس جاء في افتتاح المُؤتمر أم (عقب) انتهائه في ضوء دراسات (ميدانية) وأرقام (واقعية)؟! ولو كان (وَعْدُه) في الافتتاح، فهذا (يُلغي) أهمية المُؤتمر وتوصياته! ثم وبذات الـ(تقاطعات) يرد بالنص (دور وزارة المالية في السابق كانت عبارة عن وزارة خزانة، تهتم بالإيرادات والمُنصرفات دون الاهتمام بعملية التخطيط)! مُضيفاً: فالمسائل الكبيرة من كبح جماح التضخم وزيادة قيمة العملة الوطنية تتطلَّب (تخطيط على مُستوى كبير ووفق خطط) بالله دة كلام!! هذا حديث مُتناقض وغير مقبول، حيث يرى (صاحب الحوار) أنَّ مُعالجات وزارة المالية وتصريحاتها بشأن التضخُّم وتحسين العُملة الوطنية تتم (دون تخطيط)؟! فلو أنَّ الوزارة لا تهتم بالتخطيط، فمن الذي (وَضَع) أو (أَشْرَف) على الخطة الخمسية التي (تَبَنَّاها) وزير المالية مع بداية العام، و(رَعاها) الرئيس و(أمر) بتنفيذها؟! مع مُلاحظة مُناداته (صاحب الحوار) بها! ولم يُوضح (صاحب الحوار) كيف يُمكن الدخول في خطة جديدة دون (تقييم) و(تقويم) ما سبقها، وأعني (تحديداً) البرنامج الثلاثي الإسعافي للاقتصاد للفترة 2012-2014؟ ولو تمَّ تقييم وتقويم هذا البرنامج، فما هي الأُسس والمعايير التي استند عليها التقييم ونتائجه؟ وكيف ومتى تمَّ تقويمه ومن الذي أشرف على هذا الموضوع؟ ثم ما هي المُؤشرات التي تمَّ الاستناد عليها في وضع الخطة الخمسية؟ والأهم من الذي أعدَّ هذه الخطة وأشرف عليها غير وزارة المالية؟ ولماذا (تبَنَّتها) الوزارة طالما لم تضعها هي؟! هذه الأسئلة تبعاً لإفاداته بشأن وزارة المالية القائلة بأنَّها عبارة عن خزانة فقط!!
أمَّا حديثه عن ضم وزارتي النقل والطرق والجسور، وإنْ كان القرار صحيحاً، إلا أنَّ تبريرات (صاحب الحوار) ابتعدت عن الموضوعية و(تقاطعت) مع حديثه عن التخطيط والمُؤسِّسية حينما (رَبَطَ) أمر الـ(تطوير) بشخص الوزير الذي تمَّ اختياره لها، وواصل (شططه) حينما راهن على إحداثه (اختراقات) في ملفات سودانير والخطوط البحرية واستمرار تحسين السكة حديد، ويبدو واضحاً بأنَّ (صاحب الحوار) لا يدري بأنَّ هذه المُؤسَّسات تأثَّرت بالدرجة الأولى من الحصار الاقتصادي المفروض على السودان! ولو كان يعرف بهذه الحقيقة تكون مُشكلة، ولو كانت خافية عليه تُصبح (كارثة)! وبغض النظر (عَمَّن) تولَّى أمر الوزارة، تبقى مُعالجة هذه الملفات (رهينة) بتحسُّن العلاقات الخارجية، وهي حقيقة (يعيها) العامَّة فكيف (تغيب) عن خبير؟! ويتواصُل التضارُب والتقاطع بالحديث عن وزارة التعاوُن الدولي، حينما (رَبَطَ) بين الاتفاقيات والبروتوكولات المُوقَّعة بين السودان والجهات الأخرى والحاجة لمُتابعتها من قبل الوزارة! وتناسى أن الجهة التي (وَقَّعَت) عن السودان هي المنوطة بالمُتابعة وهو أمرٌ معلومٌ بالضرورة، فضلاً عن الجهات ذات العلاقة بموضوع الاتفاقية بجانب (مُلحقي) الخارجية (التجاريين)! والأهمَّ من هذا وذاك، الاختلال الناجم عن تعدُّد مصادر اتخاذ القرار وتقاطعاتها، عقب إنشاء وزارة التعاوُن مع الجهات القائمة الآن وهي أمورٌ مُتوقَّعة، وحدثت سابقاً وأربكت العمل العام فكيف تغيب عن ذهن (خبير)؟!
ثمَّ تأتي طامَّة تفوق السابقات، حينما تحدث عن إنشاء وزارة للاستثمار بدلاً عن مجلس، وكأنَّ الأمر في المُسمَّى الذي كان طيلة الفترة الماضية ما بين مجلسٍ ووزارة! ووصفه لقانون عام 2013 بأنَّه الأفضل رغم ما حواه القانون من (عِلَلْ)، أبسطها تقاطعه مع الإجراءات الخاصَّة بمُكافحة غسيل الأموال، حينما أتاح القانون في إحدى فقراته بالمُوافقة على المشروع المعني خلال 24 ساعة فقط من تقديم طلبه! فمتى وكيف سيتم التأكُّد من سلامة المُستثمر وسلامة أمواله؟ وهل سيتم التراجُع عقب المُوافقة إذا ثبُت التجاوُز؟ وما أثر هذه الربكة على سُمعة السودان الخارجية؟! وهي جميعها تحفُّظات بجانب (أخريات) على هذا القانون المربوك، والذي يجري الآن – كما أعلنت الوزارة نفسها – تعديله! فلو كان هو الأفضل لماذا يتم تعديله؟! ثم انظروا لهذا النص من الإفادة (عندما أنشئ مجلس أعلى للاستثمار قصد به ضم كل ولاة الولايات مع المركز لتذليل عقبات الاستثمار، لكن وجود وزير مفوض دون وزارة أحدث ربكة في الاختصاصات بين الجهاز الأعلى والاستثمار والولايات، لكن الآن الأمر في طريقه للحل بعد إنشاء وزارة مختصة تنظر في عقبات الاستثمار)! ألا تتقاطع إفادته هذه مع فرحته وإشادته في نفس هذا الحوار بالتخطيط؟! وأليس هذا كافياً لإثبات التضارُب والتقاطع بين الإفادات؟! وتعالوا انظروا لمُبررات (صاحب الحوار) بشأن الفصل بين وزارة الاتصالات عن البحث العلمي، لكون الاتصالت تشهد نمواً كبيراً (حسب اعتقاده)! وأغفل أهمية (البحث) في عملية التطوير التي من ضمنها الاتصالات وأدواتها، وحتمية إنشاء وزارة متخصصة للبحث العلمي الذي تحتاجه كافة مناحي الحياة!
هذه بعض (أكرر عبارة بعض) العِلَلْ التي حَملَها الحوار المُشار إليه أعلاه (أساس هذا التعقيب)، وهو يعكس حقيقتين في غاية المرارة، أولى هذه الحقائق استعانة غالبية الإعلاميين ومُؤسَّساتهم بالعلاقات الشخصية في الأمور المصيرية، دون تدقيق أو مُراجعة واهتمام بذوي العلاقة والشأن والتخصص والكفاءة الأكاديمية والخبرة العملية المشهودة، فيكون الناتج ما نراه الآن من تناقضات (عبثية) تزيد من تغبيش الفكر وإضعاف الوعي العام، وتُخلُّ بالرسالة الإعلامية وقد تتأثر بها أيضاً الثقة في مُؤسَّسات الإعلام والعاملين فيها، باعتبار أنَّ القارئ السوداني حصيف ولمَّاح ويعي الجيد من الغث، وسرعان ما يعي الفرق بينهما، مما يُحتِّم على المُؤسَّسات الإعلامية الاعتماد على ذوي العلاقة، وما أكثرهم ببلادنا، كي لا تفقد مصداقيتها ووثوقيتها لدى القارئ. والحقيقة الثانية، التشويه الذي يحدث لسُمعة الخُبراء السودانيين (الحقيقيين)، حينما يطلع العالم على مثل هذه الإفادات (الغريبة) والتي لا ينبغي أن تخرج من (خبير مُتخصص) كما وصفوه، مما يُعطي انطباعاً (سالباً) حيال خبرائنا المشهودين فعلاً لدى العالم الخارجي، وعلى مُؤسسات الإعلام التدقيق جيداً في سيرة من يرجعون إليهم والتأكُّد من قدراتهم وكفاءتهم الـ(علمية) والـ(عملية) قبل التعامل معهم، تلافياً لما يترتب على هذا من نشر مفاهيم ومعلومات (مغلوطة)، وإضعاف للوعي العام، والله المستعان.
awadf28@gmail.com