تعقيدات المشهد السوداني الماثل نظرة تحليلية (5/7)
تيسير حسن إدريس
11 November, 2022
11 November, 2022
tai2008idris@gmail.com
(5) سلة غذاء العالم الكنز المفقود
المبتدأ: -
(تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام.). كارل ماركس.
الخبر: -
(40)
شهد القطاع الزراعي خلال عقود حكم الجماعة الاسلامية تراجعا كبيرا؛ وكان لسياسات النظام البائد المعادية للإنتاج ولحروبه العبثية التي اشعلها على امتداد الوطن اثار مدمرة عليه؛ كما كان لشيوع التخريب المقصود للمشاريع الزراعية الكبرى مثل (مشروع الجزيرة والمناقل)، في ذاك العهد الغاشم وعدم العناية بالأرض، الاثر البالغ في تراجع الانتاج الزراعي في البلاد، حتى صارت حصته في الناتج المحلي الإجمالي شيئا لا يذكر مقارنة بحجم الأراضي الصالحة للزراعة في السودان، على الرغم من أن أكثر من ثلثي الشعب يعمل في هذا القطاع ويعتمد عليه.
(41)
انخفاض مستوى الانتاج الزراعي قد كان نتيجة لصعوبة حصول المزارعين لا سيما صغارهم، على القروض وقلة ما يحصلون عليه من البذور المحسنة والاسمدة والمبيدات والادوات الزراعية، فضلا عن ارتفاع أسعارها وارتفاع تكاليف الخدمات الزراعية بصورة عامة. أسفرت هذه السياسات المعادية للعملية الإنتاجية وعلى راسها الإنتاج الزراعي والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي رافقتها، عن تحولات حادة على صعيد البنية الطبقية في الريف؛ حيث تدهورت أوضاع المنتجين الزراعيين والفلاحين وتكبدوا خسائر كبيرة؛ أودت بهم للإعسار والسجون؛ نتيجة لفتح حدود البلاد دون ضوابط أمام تدفق المنتوجات الزراعية المستوردة ذات التكلفة الأقل.
(42)
وفي ظل تحكم الجماعة الإسلامية على ثروات ومقدرات البلاد؛ حدث حراك سياسي واجتماعي في العديد من مناطق الإنتاج الزراعي خاصة تلك التي شهدت استيلاء منسوبي النظام البائد؛ على بعض اراضي المواطنين دون وجه حق ومن دون ان تتحرك الجهات الرسمية المسؤولة لردعهم وحسم هذا الأمر. وقد شهدت هذه المرحلة الموحشة احتدام الصراع الطبقي في الريف متمثلا في الهجوم المنظم على مصالح المزارعين والسعي تحت ذرائع مختلفة، للاستحواذ على اراضيهم بالقوة، وقد نهب بعضها فعلا وتم تشريد أصحابها ونقلهم لبيئات غير صالحة للنشاط الزراعي؛ ان القطاع الزراعي اليوم شأنه شأن القطاعات الأخرى، يمر بمرحلة صعبة، تتطلب اعادة النظر في مجمل السياسات المتبعة والتوصل الى حلول شاملة للقضية الزراعية، باعتبارها تمثل جزءاً عضويا من القضايا والمشكلات المجتمعية الكبرى.
(43)
الفئات الاجتماعية المهمشة عادة ما تكون تربة خصبة لنمو الاتجاهات المتطرفة؛ فمشكلة (البطالة) في السودان واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه المجتمع؛ إن تزايد اعداد العاطلين عن العمل يشكل امعانا في هدر المورد البشري مع ما ينجم عن ذلك من تداعيات وآثار اقتصادية واجتماعية وخيمة؛ والبطالة ليست فقط سببا رئيسا في انخفاض مستوى معيشة فئات شعبية واسعة وافقارها؛ بل توفر بيئة مناسبة لنمو الجريمة والتطرف وأعمال العنف، وتشكل مستودعا لتفريخ الإرهابيين. وظاهرة تفشي البطالة التي نلمسها اليوم ليست وليدة المرحلة الراهنة، بل تمتد أسبابها وعوامل انتاجها واتساعها إلى الفترة التي هيمن فيها نظام الحركة الاسلامية الدكتاتوري، الذي اتبع سياسات تعليمية أطلق عليها (ثورة التعليم العالي) كرست لاختلال العلاقة بين مدخلات ومخرجات التعليم؛ هذا إضافة الى تكريسه الجزء الاعظم من موارد البلاد لبناء المؤسسات الامنية والانفاق على الحروب العبثية.
(44)
من أهم الاهداف السياسية والاقتصادية التي يجب أن تلتفت اليها سلطة الثورة هو محاربة البطالة؛ وذلك بتشجيع القطاع الخاص على زيادة حجم المساهمة في النشاط الاستثماري، وتخفيف المخاطر الناجمة عن تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي، والتوسع في تنفيذ المشاريع العاجلة الكفيلة باستيعاب أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة، لتخفيف نسبة البطالة المرتفعة في اوساط شريحة القوى العاملة، وزيادة الاعتمادات المالية لمشروعات الأشغال العامة؛ والالتزام بتقديم قروض ميسرة للأسر الفقيرة من شريحة العاطلين عن العمل؛ لمساعدتها في القيام بأنشطة انتاجية ومشاريع صغيرة؛ من خلال شبكة فعالة للضمان الاجتماعي.
(45)
يبرز أيضا أمام المرحلة الانتقالية الراهنة تحدي آخر هو ظاهرة (التضخم) أي الارتفاع المستمر في الأسعار؛ التي استفحلت في ظل النظام البائد حتى بلغت معدلات غير مسبوقة، وتحولت إلى ما يسمى بالتضخم المفرط. وأنعكس ذلك في التدهور المتسارع في قيمة العملة الوطنية على مدى أكثر من عقدين. وللتضخم آثار مباشرة على دخل الفرد، حيث يتسبب في خفض قدرته الشرائية، أي خفض ما يمكن شراؤه من سلع وخدمات لقاء الأجر أو الراتب الذي يحصل عليه؛ وأكبر المتضررين من التضخم هم أصحاب الدخل الثابت، من موظفين وعسكريين ومتقاعدين وغيرهم؛ وهو ما يفسر الانهيار الكبير في مستوى معيشة هذه الشرائح الواسعة، التي تعد من أهم مكونات الطبقة الوسطى. أما الشرائح الاجتماعية الكادحة، فيزيد التضخم من شقائها ومن معاناتها في الحصول على أسباب العيش الكريم. ولا تزال ظاهرة التضخم في ظل أوضاع ما بعد ثورة 19 ديسمبر مستمرة وتتسع آثارها السالبة، وإن اختلفت أسبابها.
(46)
والتضخم ناجم في الاساس عن ضعف الانتاج وتدهور انتاجية القطاعات الاقتصادية لا سيما قطاع الزراعة والصناعة التحويلية وتعطل الخدمات العامة، وتداعيات الوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج والاستيراد، ومن أهم عوامل ارتفاع معدلات التضخم في الفترة الأخيرة، الزيادة الكبيرة في أسعار المشتقات النفطية ورفع الدعم عن أسعار تلك المشتقات، نزولاً عند شروط صندوق النقد الدولي. إذا المشكلة تكمن في غياب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المتكاملة المستندة إلى استراتيجية اقتصادية وتنموية واضحة؛ فالتضخم ظاهرة اقتصادية مركبة، لا يسهم في تشكيلها عامل اقتصادي واحد كارتفاع أسعار المشتقات النفطية أو الزيادة في السيولة النقدية، بل هي ناجمة عن ضعف في الانتاج وتدهور في انتاجية القطاعات الاقتصادية المختلفة؛ وضعف الخدمات العامة، بالإضافة الى تداعيات عدم الاستقرار السياسي والوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج، وتوفر المعروض في الأسواق.
(47)
التضخم الحالي يمكن أن يتفاقم أكثر إذا ما أصرت سلطة الفترة الانتقالية على تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي بحذافيرها؛ المتمثلة في مواصلة سياسة خصخصة القطاع العام دون دراسات جدوى وافية؛ مما سيقود الى تفاقم مشكلة البطالة وعواقبها؛ ان مواجهة اخطار التضخم الجامح لا تتحقق إلا من خلال اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة، تعمل باتجاه تحقيق الرفاهية الاقتصادية للفرد والمجتمع، وذلك عبر ببلورة وتبني استراتيجية جديدة للتنمية ترمي إلى تفعيل مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني والنهوض بقدراته وتأهيله للانفتاح على الاقتصاد العالمي.
نواصل.
(5) سلة غذاء العالم الكنز المفقود
المبتدأ: -
(تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام.). كارل ماركس.
الخبر: -
(40)
شهد القطاع الزراعي خلال عقود حكم الجماعة الاسلامية تراجعا كبيرا؛ وكان لسياسات النظام البائد المعادية للإنتاج ولحروبه العبثية التي اشعلها على امتداد الوطن اثار مدمرة عليه؛ كما كان لشيوع التخريب المقصود للمشاريع الزراعية الكبرى مثل (مشروع الجزيرة والمناقل)، في ذاك العهد الغاشم وعدم العناية بالأرض، الاثر البالغ في تراجع الانتاج الزراعي في البلاد، حتى صارت حصته في الناتج المحلي الإجمالي شيئا لا يذكر مقارنة بحجم الأراضي الصالحة للزراعة في السودان، على الرغم من أن أكثر من ثلثي الشعب يعمل في هذا القطاع ويعتمد عليه.
(41)
انخفاض مستوى الانتاج الزراعي قد كان نتيجة لصعوبة حصول المزارعين لا سيما صغارهم، على القروض وقلة ما يحصلون عليه من البذور المحسنة والاسمدة والمبيدات والادوات الزراعية، فضلا عن ارتفاع أسعارها وارتفاع تكاليف الخدمات الزراعية بصورة عامة. أسفرت هذه السياسات المعادية للعملية الإنتاجية وعلى راسها الإنتاج الزراعي والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي رافقتها، عن تحولات حادة على صعيد البنية الطبقية في الريف؛ حيث تدهورت أوضاع المنتجين الزراعيين والفلاحين وتكبدوا خسائر كبيرة؛ أودت بهم للإعسار والسجون؛ نتيجة لفتح حدود البلاد دون ضوابط أمام تدفق المنتوجات الزراعية المستوردة ذات التكلفة الأقل.
(42)
وفي ظل تحكم الجماعة الإسلامية على ثروات ومقدرات البلاد؛ حدث حراك سياسي واجتماعي في العديد من مناطق الإنتاج الزراعي خاصة تلك التي شهدت استيلاء منسوبي النظام البائد؛ على بعض اراضي المواطنين دون وجه حق ومن دون ان تتحرك الجهات الرسمية المسؤولة لردعهم وحسم هذا الأمر. وقد شهدت هذه المرحلة الموحشة احتدام الصراع الطبقي في الريف متمثلا في الهجوم المنظم على مصالح المزارعين والسعي تحت ذرائع مختلفة، للاستحواذ على اراضيهم بالقوة، وقد نهب بعضها فعلا وتم تشريد أصحابها ونقلهم لبيئات غير صالحة للنشاط الزراعي؛ ان القطاع الزراعي اليوم شأنه شأن القطاعات الأخرى، يمر بمرحلة صعبة، تتطلب اعادة النظر في مجمل السياسات المتبعة والتوصل الى حلول شاملة للقضية الزراعية، باعتبارها تمثل جزءاً عضويا من القضايا والمشكلات المجتمعية الكبرى.
(43)
الفئات الاجتماعية المهمشة عادة ما تكون تربة خصبة لنمو الاتجاهات المتطرفة؛ فمشكلة (البطالة) في السودان واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه المجتمع؛ إن تزايد اعداد العاطلين عن العمل يشكل امعانا في هدر المورد البشري مع ما ينجم عن ذلك من تداعيات وآثار اقتصادية واجتماعية وخيمة؛ والبطالة ليست فقط سببا رئيسا في انخفاض مستوى معيشة فئات شعبية واسعة وافقارها؛ بل توفر بيئة مناسبة لنمو الجريمة والتطرف وأعمال العنف، وتشكل مستودعا لتفريخ الإرهابيين. وظاهرة تفشي البطالة التي نلمسها اليوم ليست وليدة المرحلة الراهنة، بل تمتد أسبابها وعوامل انتاجها واتساعها إلى الفترة التي هيمن فيها نظام الحركة الاسلامية الدكتاتوري، الذي اتبع سياسات تعليمية أطلق عليها (ثورة التعليم العالي) كرست لاختلال العلاقة بين مدخلات ومخرجات التعليم؛ هذا إضافة الى تكريسه الجزء الاعظم من موارد البلاد لبناء المؤسسات الامنية والانفاق على الحروب العبثية.
(44)
من أهم الاهداف السياسية والاقتصادية التي يجب أن تلتفت اليها سلطة الثورة هو محاربة البطالة؛ وذلك بتشجيع القطاع الخاص على زيادة حجم المساهمة في النشاط الاستثماري، وتخفيف المخاطر الناجمة عن تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي، والتوسع في تنفيذ المشاريع العاجلة الكفيلة باستيعاب أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة، لتخفيف نسبة البطالة المرتفعة في اوساط شريحة القوى العاملة، وزيادة الاعتمادات المالية لمشروعات الأشغال العامة؛ والالتزام بتقديم قروض ميسرة للأسر الفقيرة من شريحة العاطلين عن العمل؛ لمساعدتها في القيام بأنشطة انتاجية ومشاريع صغيرة؛ من خلال شبكة فعالة للضمان الاجتماعي.
(45)
يبرز أيضا أمام المرحلة الانتقالية الراهنة تحدي آخر هو ظاهرة (التضخم) أي الارتفاع المستمر في الأسعار؛ التي استفحلت في ظل النظام البائد حتى بلغت معدلات غير مسبوقة، وتحولت إلى ما يسمى بالتضخم المفرط. وأنعكس ذلك في التدهور المتسارع في قيمة العملة الوطنية على مدى أكثر من عقدين. وللتضخم آثار مباشرة على دخل الفرد، حيث يتسبب في خفض قدرته الشرائية، أي خفض ما يمكن شراؤه من سلع وخدمات لقاء الأجر أو الراتب الذي يحصل عليه؛ وأكبر المتضررين من التضخم هم أصحاب الدخل الثابت، من موظفين وعسكريين ومتقاعدين وغيرهم؛ وهو ما يفسر الانهيار الكبير في مستوى معيشة هذه الشرائح الواسعة، التي تعد من أهم مكونات الطبقة الوسطى. أما الشرائح الاجتماعية الكادحة، فيزيد التضخم من شقائها ومن معاناتها في الحصول على أسباب العيش الكريم. ولا تزال ظاهرة التضخم في ظل أوضاع ما بعد ثورة 19 ديسمبر مستمرة وتتسع آثارها السالبة، وإن اختلفت أسبابها.
(46)
والتضخم ناجم في الاساس عن ضعف الانتاج وتدهور انتاجية القطاعات الاقتصادية لا سيما قطاع الزراعة والصناعة التحويلية وتعطل الخدمات العامة، وتداعيات الوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج والاستيراد، ومن أهم عوامل ارتفاع معدلات التضخم في الفترة الأخيرة، الزيادة الكبيرة في أسعار المشتقات النفطية ورفع الدعم عن أسعار تلك المشتقات، نزولاً عند شروط صندوق النقد الدولي. إذا المشكلة تكمن في غياب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المتكاملة المستندة إلى استراتيجية اقتصادية وتنموية واضحة؛ فالتضخم ظاهرة اقتصادية مركبة، لا يسهم في تشكيلها عامل اقتصادي واحد كارتفاع أسعار المشتقات النفطية أو الزيادة في السيولة النقدية، بل هي ناجمة عن ضعف في الانتاج وتدهور في انتاجية القطاعات الاقتصادية المختلفة؛ وضعف الخدمات العامة، بالإضافة الى تداعيات عدم الاستقرار السياسي والوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج، وتوفر المعروض في الأسواق.
(47)
التضخم الحالي يمكن أن يتفاقم أكثر إذا ما أصرت سلطة الفترة الانتقالية على تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي بحذافيرها؛ المتمثلة في مواصلة سياسة خصخصة القطاع العام دون دراسات جدوى وافية؛ مما سيقود الى تفاقم مشكلة البطالة وعواقبها؛ ان مواجهة اخطار التضخم الجامح لا تتحقق إلا من خلال اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة، تعمل باتجاه تحقيق الرفاهية الاقتصادية للفرد والمجتمع، وذلك عبر ببلورة وتبني استراتيجية جديدة للتنمية ترمي إلى تفعيل مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني والنهوض بقدراته وتأهيله للانفتاح على الاقتصاد العالمي.
نواصل.