تعليق على كتاب: هاشم كرار، من المشنقة إلى السقوط: كلام ما ساكت!
عبدالله الفكي البشير
5 November, 2023
5 November, 2023
قراءة في مواقف الصحافة السودانية من المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه
"ونحن لا نستغرب سوء الفهم، وسوء النية، من أي إنسان بقدر ما نستغربهما مِمَنْ يحملون الأقلام، ويتصدون لتوجيه الرأي العام، ويجدون المداد، والورق، موفوراً لديهم، لأن الشعب يثق فيهم، ويقبل على ما يكتبون - يدفع ثمنه من حر ماله، ويقبل عليه يقرأه، ويستظهره– من مثل هؤلاء يستغرب سوء الفهم، ويستغرب سوء النية.. بل من مثل هؤلاء قد لا يقبل صرف ولا عدل.. لأن في عملهم خيانة لأمانة الثقافة، وخيانة لرسالة القلم، وخيانة لأمانة الثقة.. الثقة الغالية التي أودعها الشعب في حملة الأقلام" .
محمود محمد طه، 1969
هذا الكتاب: من المشنقة إلى السقوط: كلام ما ساكت!، يصب في فعل المقاومة، ودعم الثورة، والإسهام في تطهير الأرض. المقاومة لسردية الجهل والقديم، والثورة من أجل تحرير الفضاء والعقول من الأوصياء عليها من رجال الدين. وتطهير الأرض من اللوثة، وتلويث الوعي بواسطة بعض حملة الأقلام. فهو أول كتاب يصلنا من حملة الأقلام ومكيفي الرأي العام من الصحفيين السودانيين، في مقاومة سردية الكسل العقلي وتناسل الجهل، التي نسجها، بلا حق وبلا ورع علمي أو وازع أخلاقي، تحالف ديني عريض حول محمود محمد طه. كان قوام هذا التحالف رجال الدين، والقضاة الشرعيون، وهيئة علماء السودان، وأساتذة جامعة أم درمان الإسلامية، والإخوان المسلمون، ورجالات الطائفية والقادة السياسيون، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وكبار موظفي الدولة السودانية، وبعض أعضاء مجلس السيادة السوداني الرابع (1968- 1969)، فضلاً عن المؤسسات الدينية: الأزهر (مصر)، ورابطة العالم الإسلامي التي يتكون مجلسها التأسيسي من ستين عضواً يمثلون مختلف دول العالم الإسلامي، وتتخذ من المملكة العربية السعودية مقراً لها . وقد نجح هذا التحالف، وبلا حق، وهو نجاح إلى حين، في الحكم على محمود محمد طه بالردة عن الإسلام، مرتين، الأولى عام 1968، والثانية عام 1985، حيث تم استدعاء حكم المرة الأولى، وتم الاستناد عليه، في إصدار حكم بالإعدام، وتنفيذه عليه في العاصمة السودانية الخرطوم، في 18 يناير 1985.
ظل هذا التحالف الديني العريض، وأمام عجزه عن المواجهة الفكرية، وعلى مدى سبعين عاماً، ينسج في سردية تكفيرية عن الفهم الجديد للإسلام وصاحبه، ولم يكن حملة الأقلام من الصحفيين ببعيدين من مؤامرات هذا التحالف. فلقد ظلوا، إلا نفر قليل منهم، منذ أن طرح محمود محمد طه الفهم الجديد للإسلام/ الفكرة الجمهورية في نوفمبر 1951، من النشطاء في فريق النسج لتلك السردية التكفيرية. بل ومن المفارقات، أن أول من بدأ التشويه للفكرة الجمهورية، وأول من شيع، كذباً وبهتاناً، بأن محمود محمد طه رفعت عنه الصلاة، ورفعت عنه التكاليف، لم يكن من رجال الدين المهووسين، وإنما صحفي كان رئيساً لتحرير إحدى صحف الخرطوم، كما سيرد التفصيل لاحقاً.
إننا اليوم، ومع هذا الكتاب، الذي وضعه الكاتب الصحفي النبيل هاشم كرار وكان محوره محمود محمد طه، نعيش في لحظة ثورية تتسق مع مناخ ثورة ديسمبر المجيدة، ونشهد بداية تطهير الأرض من إرث الأقلام، التي أسهمت في محطات هزيمة الوعي. إن هذا الكتاب يُعد أول وثيقة مقاومة لسردية رجال الدين، تصلنا من صحفي. كتب هاشم، قائلاً: "وما أنا بمؤرخ بالطبع، وإنما مجَّرد صحفي أتيحت له فرصةٌ تاريخية، أن يكون شاهداً على إعدام مُفكرٍ إسلاميٍ عتيد، مهما اتفقنا معه، في أفكاره- حدَّ الاحترام- أو اختلفنا حدَّ التآمر.. حدَّ القتل". والكتاب أيضاً يُمثل أول مذكرات لمثقف سوداني تجعل من محمود محمد طه موضوعها ومحورها، لتكون أول وثيقة مقاومة للتجاهل والتغييب. فقد كتب هاشم في كتابه، قائلاً: إنه حكى للمهندس عبد الكريم الأمين (كيكي)، ذات يومٍ، من أيامِ الدوحة، عن جُمعة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه، فألحَّ علىَّ أن أكتب عن تلك الجُمعة للتاريخ، ونشرها في (سودانيز أونلاين). كان ذلك، في العام (2005)". وظل هاشم يواصل في الكتابة، بمساعدة المهندس عبد الكريم ودعمه له وحثه على مواصلة الكتابة، وكأنما بعبد الكريم كان يستشعر مقاومة التجاهل لمحمود محمد طه. فلقد تجاهل كل الذين كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية من القادة والمثقفين، محمود محمد طه وغيبوه، غير أنه تغييب إلى حين. ولمَّا كانت تلك المذكرات والسير الذاتية من مصادر الدراسات السودانية، فلقد توارثت الأجيال ذلك التغييب والتجاهل . ولم يسعفنا حتى أساتذة تاريخ السودان الحديث والمعاصر، والمتخصصون في العلوم السياسية والاجتماعية والفكر الإسلامي، بإجراء المراجعات والتصحيح. فلقد سلم الجميع بالتاريخ المعلن، ولم يكن ما بعد التاريخ المعلن، حيث دراسة المُغيب والمُبعد والمُهمش، ومن هو خارج السجلات الوطنية، من انشغالاتهم. وهم في هذا، ومن بينهم الكثير من حملة الأقلام من الصحفيين، كانوا، ولا يزالون، من المساهمين في تغذية الصراعات والحروب والتشظي لأقاليم السودان. فهل يُعلن كتاب هاشم كرار عن مسار جديد في الموقف من محمود محمد طه في فضاء الصحافة السودانية؟ وهل يشجع الكتاب حملة الأقلام من الصحفيين على الاستيقاظ واستشعار المسؤولية الفردية، وتجسيد القيم الأخلاقية، تجاه مواقفهم من محمود محمد طه؟
الصحفيون وتغذية الشعب بجهالات العقول وغثاثات الأنفس
لقد ظل سجل الصحافة وأداء الصحفيين، ولايزال، ليس كلهم بالطبع، من أقبح السجلات المهنية في السودان، بعد القضاة الشرعيين، في مواقفهم من محمود محمد طه بعد إعلانه للفهم الجديد للإسلام، وفي دورهم في التشويه والتضليل. والشواهد على ذلك كثيرة وثابتة، غير أن ضعف الذاكرة التاريخية، والانبتات عن الأرشيف القومي، وحالة الكسل العقلي، ظلت ملازمة لتكويننا العلمي، وغدت من سمات الأداء في الخدمة التنويرية في السودان. يفيدنا الأرشيف القومي في السودان بإن أول من استهل التشويه للفكرة الجمهورية والتحريف لأحاديث محمود محمد طه هو الكاتب الصحفي عبد الله رجب (1915- 1986)، صاحب صحيفة الصراحة، ورئيس تحريرها. وقد تحدث محمود محمد طه عن ذلك، قائلاً: "إن أول من بدأ التشويه للفكرة الجمهورية هو عبد الله رجب". كان عبد الله رجب أول من أطلق عبارة أن محمود محمد طه رفعت عنه التكاليف، ورفعت عنه الصلاة. وقد حدث ذلك عندما قدم محمود محمد طه محاضرة بعنوان: "اشتراكية القرآن" ، بنادي الثقافة بأم درمان مساء الأحد 14 سبتمبر 1952، فما لبث أن تبنى رئيس تحرير صحيفة الصراحة عبد الله رجب، المعارضة والتشويه. وأتبع ذلك بالعديد من الكتابات، وصف فيها محمود محمد طه، بأوصاف لا تليق، منها على سبيل المثال، لا الحصر، قوله: "وزعم واحد أن محموداً كان له (سفلي) وقال أنه لا يغتسل ولا يصلي ولا يستجمر" . وكتب كذلك، قائلاً: إن محمود محمد طه يتكبر على الصلاة والصيام بدعوى أنه صار من الواصلين . لقد ظل عبد الله رجب على هذه الحالة خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، وحتى عندما ظهرت مذكراته: مذكرات أغبش، (1988) كتب متهكماً على محمود محمد طه. أيضاً، لم تكن صحيفة الرأي العام في مواقفها من محمود محمد طه أفضل حالاً، وإنما كانت مثالاً لسوء الفهم وسوء الطوية. لقد ظلت الصحيفة تقود الحملات العدائية والتشويهية، خاصة أيام محكمة الردة الأولى 1968، وتفتح أبوابها للمعارضين، وترفض النشر للإخوان الجمهوريين وتحرمهم من حق الرد على المعارضين. وكذلك صحيفة الميثاق الإسلامي، التي لم يتأخر رئيس تحريرها عبد الرحيم حمدي (1939- 2021) عن تلك الحملة، وكان من بين مقالاته الجريئة والتي تفتقر للأدب، مقال بعنوان: "محمود محمد طه: جاهل أم مخادع؟" . ولم تسلم في هذا صحيفة الأيام، وصحيفة الصحافة، كما غرفت صحيفة الأمة نصيبها منذ أربعينات القرن الماضي. ليس هذا فحسب، وإنما كانت صحيفة الرأي العام تضلل القراء، حيث تطلب من أساتذة جامعة أم درمان الإسلامية إعداد المواد المعارضة لمحمود محمد طه، لتنشرها في اليوم التالي باسم "نفر من هيئة التحرير" . لقد قامت الصحف، خاصة صحف الصراحة والرأي العام، والميثاق الإسلامي، وغيرها، بدور كبير في تضليل الشعب، وكانت جزءاً أصيلاً ومتماهياً مع رجال الدين في نسج السردية التكفيرية الباطلة حول محمود محمد طه. وقد فصلنا كل ما ذهبنا إليه أعلاه، في كتابنا المشار إليه في الهامش أدناه .
جدير بالذكر بأن أكثر الصحف التي كانت تفتح أبوابها لمحمود محمد طه هي صحيفتا السودان الجديد، وأنباء السودان، فنشرت له الكثير من المقالات والبيانات. كما نشرت له كذلك صحف الشعب، وصوت السودان، والاستقلال، والأيام، والميدان، وغيرها، بعض المقالات والبيانات.
هاشم صحفي العيش الكفاف يفوز بشرف السبق ويفتح الباب أمام حملة الأقلام لتصحيح المواقف
فاز هاشم بشرف تقديم أول كتاب من صحفي كان محوره محمود محمد طه. وفي هذا ترفيع للقواعد الأخلاقية، وتجسيد للمعاني الإنسانية. كتب هاشم واصفاً حاله، فقال: "إنني - فقط- مجُّرد زول، أتيحت له فرصة أن (يُصوِّر) حدثاً في زمانٍ مُعيَّن، ومكانٍ مُعيَّن، أو أزمنةٍ وأمكنةٍ مُعيَّنة.. وها هو الآن يحاول - بعد عشرين عاما - أن ينقل الصورة، كما هي.. بكلِ تفاصيلها". يقيني أن هاشم بهذا الكتاب يفتح الباب أمام زملائه الصحفيين، ويدعوهم إلى الانحياز للحق وعدم الممالاة على الجهل، وهو يردد ما كتبه محمود محمد طه، عندما أصدر صحيفته، صحيفة الجمهورية، في 15 يناير 1954، فقد كتب محمود محمد طه، قائلاً: إن الصحافة "يجب أن تعين على العلم، لا أن تمالي على الجهل.. يجب أن تسير أمام الشعب لا أن تسير في زمرته تتسقط رضاه، وتجارى هواه، وتقدم له من ألوان القول ما يلذه ولا يؤذيه". غير أن الصحف في السودان قد رزئت منذ بداياتها الأولى بالكثير من الصحفيين من ذوي التكوين المعرفي الضعيف، والتأهيل الركيك. وفي هذا كتب محمود محمد طه عن الصحف ومحرريها، قائلاً: "إننا نجد أكثر محرري صحفنا من فشلوا في ميادين الحياة المختلفة فاستوعبتهم الصحف فأخذوا يغذون الشعب بجهالات عقولهم وغثاثات أنفسهم" . ولعل راهن الصحافة اليوم لا يختلف كثيراً عما كانت عليه في مرحلة البدايات تلك، خاصة تجاه القضايا الفكرية، وبصورة أخص في موقفها من محمود محمد طه. وهذا ما يمكن رصده وببساطة من خلال تتبع مواقفها، إذ ظلت تعمل، وكذلك الإعلام المسموع والمرئي، غير أن تركيزنا الآن على الصحافة، وتحديداً على الورقية وليس الإلكترونية، على التعتيم والتجاهل. وفي مفارقة مدهشة، وجدنا بعض حملة الأقلام ممن يسعون لتجاهل محمود محمد طه وتغييبه، يمارسون النهب، فكانت أفكاره ونصوصه حاضرة كالشمس في كتاباتهم. وفي هذا النهب برع رجال الدين، وبعض المفكرين الإسلاميين، والقادة السياسيين، وكثير من المثقفين من داخل السودان وخارجه. لم يقف الأمر في حدود نهب الأفكار والنصوص، وإنما قام البعض بالسطو على فصول بأكملها، بل هناك من نهب كتاباً من الغلاف إلى الغلاف، ولم يلغ منه سوى ما جاء عن الرسالة الثانية من الإسلام، أو الذكر للجمهوريين أو الحزب الجمهوري .
على الرغم من كل ذلك، وليس غائباً عنا بأن مجال الصحافة في السودان مجال واسع، خاصة إذا ما نظرنا إليه في إطار زمني يمتد منذ إعلان محمود محمد طه للفهم الجديد للإسلام في العام 1951، فإن هناك مواقف مشرفة لبعض الصحفيين من محمود محمد طه، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، أحمد يوسف هاشم (1903- 1958)، وبشير محمد سعيد (1921- 1995)، ومحمد سعيد معروف (1926- 2000)، وعبدالرحمن بلاص (1937- 2017)، ودوليب محمد الأمين، وصالح بان النقا (ابن البان)، وعمر الحسين (1940- 2005)، وسيد أحمد خليفة (1940- 2010)، وحسن ساتي (1948- 2008)، وبكري خضر، وعبد الله جلاب، البروفيسور اليوم وأستاذ الدراسات الأفريقية وسوسيولوجيا الإسلام، بجامعة ولاية أريزونا، الولايات المتحدة، والحاج وراق، وآمال عباس، ونجيب نور الدين، وفيصل محمد صالح، وزير الثقافة والإعلام السابق، وفتحي الضوء، وشمس الدين ضو البيت، وعبدالله الشيخ، وأسامة أبو شنب، وأمل هباني، ورشا عوض، وأمير صديق، وعماد البليك، وصلاح شعيب، ومنصور الصويم، وحيدر المكاشفي، وفيصل الباقر، وعبدالوهاب همت، وشوقي عبدالعظيم، والسر السيد، وعادل سيد أحمد خليفة، والدكتور محمد بدوي مصطفى، ومأمون التلب، وحاتم الكناني، وأفراح تاح الختم، ومحمد إبراهيم، ومحمد الشيخ حسين، وحسين سعد، وأحمد جادين، وحسن إسحق. كما فتح البعض منبر صحيفته، غير أنه أحجم عن الكتابة عن محمود محمد طه، بينما اتبع البعض الآخر فتح منبره بالكتابة عن محمود محمد طه، ومن هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر: عادل الباز، رئيس تحرير صحيفة الأحداث، وعثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة التيار، والدكتور خالد التجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف. وهناك صحف ظلت أبوابها مفتوحة للكتابة عنه، منها على سبيل المثال، لا الحصر: أجراس الحرية، والجريدة، والأيام، والميدان، والديمقراطي، والحداثة، وهناك من الصحفيين من ظل مشغولاً بالفكرة الجمهورية وبالجمهوريين في أحاديثه وكتاباته، سواء كان ناقداً أو متأملاً أو معبراً عن إعجابه أو كتب مقالاً يتيماً أو بعض المقالات، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، محجوب عروة، ومحمد طه محمد أحمد، رئيس تحرير صحيفة الوفاق (1956- 2006)، وحسين خوجلي، رئيس تحرير صحيفة ألوان، ومحمد لطيف، رئيس تحرير صحيفة الأخبار، والصحفي بكري المدني الذي ظل مشغولاً بنقد الفكرة الجمهورية. والنقد مطلوب، غير أن لديه استحقاقاً وشروطاً لابد من استيفائها، وقد لخصها محمود محمد طه في ثلاثة شروط، هي: العلم، والصدق، والمسؤولية.
غني عن القول إن ما أوردناه أعلاه من أسماء لم يكن سوى نماذج فقط، فهو ليس حصراً أو رصداً، فإننا لا نسعى لذلك، ولا يمكننا القيام به في هذه المساحة الضيقة. كما أننا لم نتعرض للكُتاب من الأكاديميين والمثقفين الذين ظلوا يكتبون في الصحف باستمرار. كذلك معلوم أن بعض الصحف التي وردت الإشارة إليها، قد توقفت عن الصدور، غير أنها محفوظة، وكذلك تلك التي لم نذكرها وهي كثيرة، في الذاكرة القومية في الأرشيف الصحفي بدار الوثائق القومية.
كذلك لابد من الإشارة إلى أن ميدان الصحافة في السودان، على الرغم من سجله السلبي تجاه محمود محمد طه، إلا أنه كان من أكثر الميادين التي قدمت العصاميين، أولئك الذين لم ينالوا تعليماً نظامياً، وإنما علموا أنفسهم بأنفسهم تعلماً ذاتياً، نهلوه من مدرسة الحياة، "فالحياة أصدق من العلم" ، كما يقول محمود محمد طه. كان من بين هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، يحيي محمد عبد القادر (1914-2011)، صاحب صحيفة أنباء السودان، وعبد الله رجب، صاحب صحيفة الصراحة، ومحمد الخليفة طه الريفي (1917- 2002)، والفاتح النور (1922- 2000)، صاحب أول صحيفة إقليمية في السودان صحيفة كردفان، والأديب والكاتب الصحفي جعفر الشريف عمر السَّوْري (1924- 1956)، فهو أول صحفي، حسب اطلاعي، أطلقت عليه صحيفة السودان الجديد، في 14 يوليو 1956، عند نعيه، وصف "الصحفي العصامي". وكذلك محمد الحسن أحمد (1932- 2008)، صاحب صحيفة الأضواء، والقائمة طويلة، ولكن هذه مجرد نماذج. كما أن هناك إسهامات وطنية كبيرة وبصمات واضحة ومشرقة لصحفيين كُثر، ظلت باقية ومثلت إضافة حية ومتجددة وسدت فراغاً كبيراً في مسار السودان السياسي والثقافي والاجتماعي والفكري. ولكن هذا لا يمنع القول بأننا في حاجة إلى تحرير ميدان الصحافة والإعلام مما ينطوي عليه من ضعف تجاه دوره في تنمية الوعي وخدمة التنوير. ولا سبيل لهذا التحرير، إلا بترفيع مستوى الأداء وإعمال الحس النقدي، والعمل على إنجاب الصحفي الحر والمسؤول، فضلاً عن الاحتفاء بالنماذج الإرشادية من الصحفيين، والاسترشاد بسيرهم، من أمثال مؤلف هذا الكتاب، الكاتب الصحفي النبيل هاشم كرار، وهو من صحفيي العيش الكفاف .
الأحرار حرب على التعتيم: الصحفي الأول والوحيد الذي كشف حريق نادي الخريجين بود مدني، 1979
لم يكن محمود محمد طه غريباً على فضاءات هاشم كرار، ولم يتعرف عليه مؤخراً، وإنما كان قارئاً له منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وظل مهتماً بأطروحاته وبسيرته الفكرية. كذلك كان محمود محمد طه حاضراً في مناخات أسرة كرار، بل سجل التاريخ لأسرة كرار احترامها لمحمود محمد طه واهتمامها به. ففي عام 1972 كان ابن عم هاشم كرار، الأستاذ الباحث الاجتماعي والكاتب الصحفي العصامي محجوب كرار (1938- 2001)، قد شارك في حوار أجرته مع محمود محمد طه الباحثة البريطانية اليزابيث هودجكنز، بحضور الأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، الذي تولى ترجمة الحوار، ومن ثم قام محجوب بنشر الحوار بعنوان: "محمود محمد طه في حوار صوفي مع مسز اليزابيث هودجكنز"، في صحيفة الصحافة، بتاريخ 16 ديسمبر 1972. أيضاً كانت عينا هاشم قد كحلت كتب محمود محمد طه أول مرة في منزل الأسرة بمدينة الحصاحيصا، وسط السودان. فقد كان شقيقه المهندس عوض كرار (1948- 2016) يأتي بكتب محمود محمد طه للمنزل، يقرأها ويعطي هاشم ليقرأ. وقد صور هاشم هذا المشهد، قائلاً: "كان [عوض كرار] يجيئُ من المحالج، بين فترةٍ وأخرى، بكتيبٍ للجمهوريين، أو كتاب للأستاذ [محمود محمد طه]. كان يجلس العصرية، أمام البيت، يقرأُ. رافعاً رجليه على ساق شجرة نيم، من النيمات الكبيرة التي كان قد زرعها هو، أمام البيت، وتعهدُّتها أنا بالسُقيا والرعاية! كان يقرأ، ويعطيني لأقرأ".
لقد ظهر أثر هذه القراءات عند هاشم فور التحاقه بصحيفة الأيام في العام 1978. إذ لم يمض عام من عمله صحفياً، حتى شهدت مدينة ود مدني، بوسط السودان، واحدة من أبشع مؤامرات رجال الدين ضد الفكرة الجمهورية، عندما قاموا في نهار يوم الجمعة 12 يناير 1979 بحرق نادي الخريجين، بسبب استضافة النادي لمعرض الفكر الجمهوري. التهم الحريق جميع محتويات المعرض، وكل النادي، بما في ذلك مقتنيات ووثائق تعود إلى حقبة النضال ضد الاستعمار. فالنادي يمثل رمزاً وطنياً في النضال ضد الاستعمار، وأداة حداثية لها إسهام عظيم في تنمية الوعي، وإذكاء الروح الوطنية. لاحظ هاشم كرار بأنه وعلى الرغم من خطورة الحدث، إلا أن الصحف لم تهتم به، ولم تورد حتى مجرد خبر عنه. استنكر هاشم مواقف الصحف، وبادر بأن طرح على رئيس تحرير صحيفة الأيام الأستاذ حسن ساتي، فكرة السفر إلى مدينة ود مدني لإجراء تحقيق حول الحدث. وافق ساتي، وسافر هاشم إلى ود مدني، والتقى بالأستاذ صديق محمد الحاج، سكرتير نادي الخريجين، وآخرين.
أثناء تحقيقه أكتشف هاشم بأن التخطيط لحريق النادي بدأ بمسجد دردق بمدينة ود مدني بقيادة إمام المسجد الشيخ حسن عبد العزيز، وأن أطراف المؤامرة لا تقف عند رجال الدين والصحف التي سعت للتعتيم على الخبر، وإنما كان للشرطة والمطافئ دور كذلك. فقد أوضح السيد/ صديق، سكرتير النادي في مقابلاته مع هاشم، بأن تواطؤ الشرطة، وكذلك المطافئ، وتأخرهما في الاستجابة والمجيء، أتاح الفرصة للنيران أن تلتهم كل شيء في النادي. جمع هاشم المعلومات وعاد قافلاً للخرطوم لينشر تحقيقه، بمساندة حسن ساتي، الذي كان صلباً في دعمه لنشر التحقيق. ليكون ذلك أول عمل عبَّر هاشم من خلاله عن موقفه من الفكر الجمهوري، وهو أول صحفي، بل الصحفي الوحيد، الذي كشف للشعب السوداني ما سعت الصحف لقبره وهي تعتم عليه. كان محمود محمد طه قد أرسل خطاباً إلى رئيس نادي الخريجين، في اليوم التالي لحريق النادي، جاء فيه:
"حضرة الأخ الكريم عبد الرحيم محمود أبو عيسى، رئيس نادى الخريجين بمدني
وحضرات الإخوان الكرام أعضاء لجنة النادي الموقرة، وحضرات الإخوان الكرام أعضاء هذا النادي العزيز، تحية طيبة... لقد خرجت من ناديكم، في الثلاثينات، الشعلة الأولى التي كانت نواة الحركة الوطنية العظيمة التي انتهت الى إخراج الاستعمار الحسي حكم الإنجليز من البلاد، فأحرزت بذلك تحريرها.. وستخرج بهذا الصنيع البشع، من هذا القبيل الضائع، من ناديكم الشعلة الثانية التي ستنتهى إلى إخراج الاستعمار المعنوي الجهل بالدين وتسلط هذا الجهل على عقول أفراد شعبنا من العقول بإذن الله، فيتم بذلك ما بدئ، في مضمار التحرير، من إحراز الاستقلال الصحيح...".
وثق هاشم كرار، وهو صحفي يافع، حريق نادي الخريجين في الأرشيف الوطني، وها نحن نبعث توثيقه اليوم من جديد، وبعد مرور (42) عاماً، ليكون برهاناً على سجل رجال الدين، والكشف لمحطة من محطات سعيهم لهزيمة الوعي وتلويث العقول. كان محمود محمد طه، قد أشار لهذا المعنى في خطابة لرئيس النادي، قائلاً: "لقد طالما تحدثنا عن أن مساجد الله قد أصبحت ملوثة بجهالات رجال عقولهم خربة، ونفوسهم مريضة.. وهؤلاء الرجال هم اليوم أئمة الناس ومعلموهم الدين.. ولكن حديثنا كان يفتقر الشاهد المحسوس الملموس، على صدق النذير الذي يسوقه، فوجدناه اليوم بحريق هذا الناد العتيق، العزيز، وجدناه بصورة ستظل نموذجاً حياً في أذهان الناس، كنذير بما ينتظر هذه الأمة، إذا ما قدر لها أن تحكم باسم الإسلام، كما يفهمه هؤلاء الرجال الجهلة، والمريضو النفوس".
44 عاماً من العطاء في سبيل السودان والإنسان
خدم هاشم كرار (44) عاماً في مجال الصحافة، ولا يزال، منها (16) عاماً كانت في السودان، و(26) عاماً استحوذت عليها دولة قطر بمحبة وأريحية ورضا. ظل هاشم يكتب بقلبه وعقله وروحه. تميز قلمه بالرشاقة والمتعة والسلاسة والعفة والعمق والتحفيز على التأمل. واتسم عالمه بالمحبة، فالناظر لوجهه لا يرى سوى المحبة، والجالس معه لا يسمع سوى محاسن الناس. ولا يملك من يلتقيه، من خلال تجربتي معه وعلاقتي بالأصدقاء المشتركين، إلا أن يحبه، ويكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع لدى من يعرفونه، بأنه منبع للمحبة ومصب لها. لم يكن صحفياً متقلباً، وإنما ظل عطاؤه وانتماؤه يتمحور حول السودان والإنسان. يعود تعبير "صحفي متقلب" إلى الصحفي يحيي محمد عبد القادر، وهو من الرعيل الأول من الصحفيين، فقد كتب، قائلاً: "يتهمني الكثيرون بأنني، صحفي متقلب، وهي عبارة مؤدبة لمعنى، صحفي معدوم الضمير، وقد بدأ هذا الاتهام عندما كنت أعمل في جريدة النيل لسان حال آل المهدي، وهي استقلالية، مع احتفاظي بمراسلة الأهرام، وهي صحيفة مصرية، يفترض فيها الدعوة للوحدة بين مصر والسودان، واشتراكي في نفس الفترة في تأسيس الحزب الجمهوري- محمود محمد طه- وهو منظور له كحزب مناهض لآل المهدي... وأن أعلن في جريدة النيل الناطقة بلسان آل المهدي أن الرسائل الواردة للحزب الجمهوري تُعنون باسمي، وهو حزب منظور إليه كخصم لدود لحزب الأمة" . لم يكن هاشم "صحفياً متقلباً"، وإنما ظل حراً التزاماً بوصية شقيقه عوض كرار التي ظلت معه كل الأوقات. فقد كتب هاشم، إن شقيقه عوض أوصاه، قائلاً: "إقرأ لهم - الجمهوريين- ولغيرهم.. بس خليك حُر! ... وظللتُ أنا أحتفظُ بوصيته في عقلي ووجداني وضميري، وظللتُ بها- في كل الأوقات- براً حفيا. ما زلتُ حراً، وسأظل".
بدأ هاشم حياته العملية في صحيفة الأيام عام 1978 واستمر بها حتى اندلاع انتفاضة أبريل 1985. وسافر في شهر سبتمبر من نفس العام ولمدة أربعة أشهر إلى دولة قطر بمعية: مصطفى سند، وحسن أبو عرفات، وصديق الزين، وأسهموا في تأسيس صحيفة الخليج اليوم التي أصبحت في العام 1987 صحيفة الشرق. بعد عودته من دولة قطر رجع للعمل بصحيفة الأيام. ثم انتقل في العام 1987 مديراً لتحرير صحيفة الجريدة، فما لبث أن استقال بسبب اختلافه مع القائمين عليها بشأن استقلالية الصحيفة وخطها التحريري. اختير مديراً لتحرير صحيفة الحوادث التي كان يجب أن يصدر عددها الأول في 30 يونيو 1989، فوقع الانقلاب العسكري المشؤوم، فنسف أحلام فريق صحيفة الحوادث، وأسدل التسلط والقهر سدوله على السودان. كان أول قرار هو إغلاق جميع الصحف، فالتحق هاشم بمكتب صحيفة الشرق الأوسط اللندنية- مكتب الخرطوم. في العام 1994 عاد هاشم إلى دولة قطر ليعمل ضمن الفريق التأسيسي التحريري لصحيفة الوطن، ولايزال مقيماً في دولة قطر بمعية أسرته: زوجته أماني محجوب قوليب، وابنته سارة، وابنائه محجوب وطه وعوض. وقد أصبحت دولة قطر جزءاً أصيلاً في ذاكرتهم الحياتية، ومعطى مركزياً في تكوين الأسرة وأخيلتها.
الأسرة خالقة الجمال والنموذج الذي يحتذى
كانت أسرة هاشم كرار قد كشفت، وفي الفضاء الكوكبي، عن هوية هاشم الزوج والأب، وهي تعبر عن مدى حبها له. فعندما أصيب هاشم مؤخراً بداء السرطان اللعين، ونال العلاج من شعر الرأس فتساقط، فما كان من هذه الأسرة الرائعة، إلا وأن قام أعضاء الأسرة بحلق شعر رؤوسهم، وكانت الأم أول الحالقين، لتجسد الأسرة بهذا المشهد، الحب المعية مع هاشم الأب. استطاعت هذه الأسرة الجميلة وبهذه المبادرة الإنسانية، أن تقدم نموذجاً إرشادياً يحتذى، ويقيني أن الكثير من الناس في العالم اشتهى أن تكون أسرته مثل أسرة هاشم. غير أن جني ثمار المحبة، يبدأ عند غرسها، فمن لا يغرس المحبة يجني السراب، ومن لا يبذلها لا يظفر بها. كما أن الصحة الأسرية والسلام الأسري، يبدأ عند الأب بإقامة السلام الداخلي والصحة الداخلية، وتكريم الزوجة واحترامها كإنسان، كونها مركز دائرة البيت وبوصلة السلام والصحة والمحبة فيه. لا جدال في أن هاشم يعيش في سلام داخلي، وبإقامة السلام الداخلي، يتحقق السلام على الأرض. شكراً هاشم على اهدائنا هذه الأسرة الرائعة، وعلى تقديم هذا النموذج الإنساني التعليمي والذي سيبقى حياً في أذهان الناس.
دعوة للأساتذة والطلاب والباحثين
وهنا أستميح القراء عذراً في أن أوجه الدعوة للطلاب والطالبات والباحثين والباحثات للقيام بإعداد دراسات عن موقف الصحافة من محمود محمد طه. والدعوة موصولة إلى الأساتذة من المعنيين بالإشراف على الدراسات العليا في مجال الصحافة والإعلام والاتصال الجماهيري، وإلى الجامعات كذلك بتوجيه الطلاب لدراسة هذا الموضوع، فهو موضوع كبير ومهم وغني وثر وثري. وفي تقديري، إننا عبر دراسة هذا الموضوع نستطيع تفسير الكثير من معطيات راهن السودان، وتحليل أزمة الفكر الإسلامي بما يحقق إعادة الاعتبار والبعث للفهم الجديد للإسلام، الأمر الذي يخدم تعمير الحياة وأنستها، وإقامة السلام في القلوب وعلى الأرض.
قبل الختام، التهنئة للأستاذ هاشم كرار بإنجازه لهذا الكتاب، وهو في تقديري، بمثابة إعلان موقف أخلاقي تجاه موضوع وَضَعَ كل حملة الأقلام، والصحفيين بصورة خاصة، في امتحان عسير ومستمر مع صباح كل يوم جديد. وستظل المسؤولية فردية في هذا الامتحان، والأسئلة تزداد سطوعاً أمام ناظرينا، والإجابات عليها تنتظر نمو الوعي وشجاعة العقول وتحريرها من الأوصياء عليها، والتحرر من ثقافة القطيع. فما هو موقف حملة الأقلام من الشراكة في اغتيال محمود محمد طه؟ وما هو موقفها من سيرته الفكرية ومشروعه الفكري الفهم الجديد للإسلام، أمام السردية التكفيرية، سردية الكسل العقلي وتناسل الجهل التي ظل يرددها رجال الدين؟ إلى أي مدى أسهم حملة الأقلام، خاصة الصحفيين، في نسج السردية التكفيرية؟ ما هو دور الصحفيين في التجاهل والتغييب والتهميش؟ وهل لا يزالون يمارسون ذلك الدور؟ متى سيستيقظ حملة الأقلام في السودان حتى يقوموا بدورهم تجاه واجب الثقافة وحق الشعب عليهم، في التعبير عن الاحترام لمحمود محمد طه والاحتفاء به، في الوقت الذي قطع فيه حملة الأقلام في فضاءات العراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، والجزائر، وغيرها، شوطاً كبيراً في دراسته والاحتفاء به وبرؤاه؟
هذا الكتاب، في تقديري، يقدم دعوة للصحفيين بضرورة إعادة النظر في مواقفهم من محمود محمد طه، ويذكرنا بأن التجاهل هو سلاح العاجزين، وأن التهميش هو سلوك أصحاب السقوف المعرفية الخفيضة، وأن التغييب، في ظل تيار الوعي المتنامي، أصبح مستحيلاً. وأن توهم النسيان والتناسي لمحمود محمد طه، فعل لا يصدر إلا من أصحاب النظر القصير، والخيال المتكلس. وفوق كل هذا فإن التغيير الجذري والشامل قادم لا محالة، فالثورة في السودان أصبحت كالأكسجين يستنشقها الشعب، وليس هناك سوى التوق للحرية والتغيير. فمتى ما تمت الثورة، الآن أو مستقبلاً، فإن شعوب السودان والإسلام، لن تجد من يعينها على طريق الحرية والتنمية والديمقراطية وكرامة الإنسان، ويسوقها إلى إقامة السلام في القلوب وعلى الأرض، سوى الفهم الجديد للإسلام/ الرسالة الثانية من الإسلام.
ختاماً أتقدم بخالص شكري للأستاذ هاشم كرار لإتاحته الفرصة بطلبه مني تقديم قراءة في هذا الكتاب، والحق أنني احتفيت أيما احتفاء بطلبه هذا. فلقد ظللت عبر عملي في سيرة محمود محمد طه الفكرية والفهم الجديد للإسلام، ساحة مشروعي البحثي المفتوح والمستمر، أسعى لتطهير نفسي وعقلي وجسدي وروحي، كون العمل في ساحته واجب ثقافي ووطني وأخلاقي وإنساني. وأعتذر للقراء والقارئات على هذه الإطالة، غير أن المفكر والمؤرخ الفرنسي هنري مارو (1904-1977)، يسعفني في هذا المقام، إذ كتب مارو، قائلاً: إن "توصيف التاريخ هو ثمرة لجهد جماعي، فإفراط البعض يُقوِّم تقصير البعض الآخر" . مع تمنياتي للجميع بقراءة ممتعة، وباعثة على التأمل في صفحات هذا الكتاب.
الهوامش
محمود محمد طه، الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، أم درمان، 1969، ص 40.
تشكَّل مجلس السيادة الرابع من السادة: إسماعيل الأزهري، والفاضل البشرى المهدي، وجيرفس ياك، وخضر حمد، وداود الخليفة عبد الله.
للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، ط1، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2020.
للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، ط1، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2013.
عبد الله رجب، "الاشتراكية الجمهورية"، صحيفة الصراحة، 16 سبتمبر 1952.
عبد الله رجب، "محمود محمد طه: هل يمثل الآن كياناً سياسياً؟"، صحيفة الصراحة، العدد رقم: (1256)، 3 أغسطس 1958.
عبد الله رجب، "محررو الصحف السودانية جهلاء وفقراء الجيوب والنفوس باستثناء يحيى محمد عبد القادر: هذه هي أفكار زعيم الحزب الجمهوري"، صحيفة الصراحة، العدد رقم: 1272، 23 أغسطس 1958.
عبد الرحيم حمدي، "محمود محمد طه: جاهل أم مخادع؟"، صحيفة الميثاق الإسلامي، الأحد 24 نوفمبر 1968.
نفر من هيئة تحرير صحيفة الرأي العام، "حوار حول نظرية محمود محمد طه: الجمهوريون ينادون بالرسالة الثانية ومعارضوهم يؤكدون استمرارية الرسالة"، صحيفة الرأي العام، 4 ديسمبر 1968.
عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، مرجع سابق.
محمود محمد طه، "كلمة حق"، صحيفة أبناء السودان، العدد رقم: (170)، 29 نوفمبر 1958.
يعد كاتب هذه القراءة في كتاب بعنوان: نهب أفكار محمود محمد طه.
محمود محمد طه، "إلى ابني المبارك عصام [عبد الرحمن البوشي] عصم الله خاطره وفكره ولسانه ويده"، (رسالة)، بتاريخ 18 يناير 1970. حصل كاتب هذه المقدمة على نسخة من هذه الرسالة من عصام عبد الرحمن البوشي بتاريخ 13 يوليو 2010.
ورد تعبير "العيش الكفاف" عند محمود محمد طه في وصفه لأهل مقابر مدينة عطبرة، فقد وصفهم، قائلاً: "إنهم شهداء العيش الكفاف".
يحيي محمد عبد القادر، على هامش الأحداث في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص 17،18، 162.
Henri I. Marrou, the Meaning of History, translation by Robert J. Olsen, Helicon Press Inc, Dublin/Baltimore, 1966, p. 105.
في الأصل صدر الكتاب باللغة الفرنسية، بعنوان: De la connaissance historique, by Edition du Seuil, Paris, 1959, 4th edition.
abdallaelbashir@gmail.com
"ونحن لا نستغرب سوء الفهم، وسوء النية، من أي إنسان بقدر ما نستغربهما مِمَنْ يحملون الأقلام، ويتصدون لتوجيه الرأي العام، ويجدون المداد، والورق، موفوراً لديهم، لأن الشعب يثق فيهم، ويقبل على ما يكتبون - يدفع ثمنه من حر ماله، ويقبل عليه يقرأه، ويستظهره– من مثل هؤلاء يستغرب سوء الفهم، ويستغرب سوء النية.. بل من مثل هؤلاء قد لا يقبل صرف ولا عدل.. لأن في عملهم خيانة لأمانة الثقافة، وخيانة لرسالة القلم، وخيانة لأمانة الثقة.. الثقة الغالية التي أودعها الشعب في حملة الأقلام" .
محمود محمد طه، 1969
هذا الكتاب: من المشنقة إلى السقوط: كلام ما ساكت!، يصب في فعل المقاومة، ودعم الثورة، والإسهام في تطهير الأرض. المقاومة لسردية الجهل والقديم، والثورة من أجل تحرير الفضاء والعقول من الأوصياء عليها من رجال الدين. وتطهير الأرض من اللوثة، وتلويث الوعي بواسطة بعض حملة الأقلام. فهو أول كتاب يصلنا من حملة الأقلام ومكيفي الرأي العام من الصحفيين السودانيين، في مقاومة سردية الكسل العقلي وتناسل الجهل، التي نسجها، بلا حق وبلا ورع علمي أو وازع أخلاقي، تحالف ديني عريض حول محمود محمد طه. كان قوام هذا التحالف رجال الدين، والقضاة الشرعيون، وهيئة علماء السودان، وأساتذة جامعة أم درمان الإسلامية، والإخوان المسلمون، ورجالات الطائفية والقادة السياسيون، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وكبار موظفي الدولة السودانية، وبعض أعضاء مجلس السيادة السوداني الرابع (1968- 1969)، فضلاً عن المؤسسات الدينية: الأزهر (مصر)، ورابطة العالم الإسلامي التي يتكون مجلسها التأسيسي من ستين عضواً يمثلون مختلف دول العالم الإسلامي، وتتخذ من المملكة العربية السعودية مقراً لها . وقد نجح هذا التحالف، وبلا حق، وهو نجاح إلى حين، في الحكم على محمود محمد طه بالردة عن الإسلام، مرتين، الأولى عام 1968، والثانية عام 1985، حيث تم استدعاء حكم المرة الأولى، وتم الاستناد عليه، في إصدار حكم بالإعدام، وتنفيذه عليه في العاصمة السودانية الخرطوم، في 18 يناير 1985.
ظل هذا التحالف الديني العريض، وأمام عجزه عن المواجهة الفكرية، وعلى مدى سبعين عاماً، ينسج في سردية تكفيرية عن الفهم الجديد للإسلام وصاحبه، ولم يكن حملة الأقلام من الصحفيين ببعيدين من مؤامرات هذا التحالف. فلقد ظلوا، إلا نفر قليل منهم، منذ أن طرح محمود محمد طه الفهم الجديد للإسلام/ الفكرة الجمهورية في نوفمبر 1951، من النشطاء في فريق النسج لتلك السردية التكفيرية. بل ومن المفارقات، أن أول من بدأ التشويه للفكرة الجمهورية، وأول من شيع، كذباً وبهتاناً، بأن محمود محمد طه رفعت عنه الصلاة، ورفعت عنه التكاليف، لم يكن من رجال الدين المهووسين، وإنما صحفي كان رئيساً لتحرير إحدى صحف الخرطوم، كما سيرد التفصيل لاحقاً.
إننا اليوم، ومع هذا الكتاب، الذي وضعه الكاتب الصحفي النبيل هاشم كرار وكان محوره محمود محمد طه، نعيش في لحظة ثورية تتسق مع مناخ ثورة ديسمبر المجيدة، ونشهد بداية تطهير الأرض من إرث الأقلام، التي أسهمت في محطات هزيمة الوعي. إن هذا الكتاب يُعد أول وثيقة مقاومة لسردية رجال الدين، تصلنا من صحفي. كتب هاشم، قائلاً: "وما أنا بمؤرخ بالطبع، وإنما مجَّرد صحفي أتيحت له فرصةٌ تاريخية، أن يكون شاهداً على إعدام مُفكرٍ إسلاميٍ عتيد، مهما اتفقنا معه، في أفكاره- حدَّ الاحترام- أو اختلفنا حدَّ التآمر.. حدَّ القتل". والكتاب أيضاً يُمثل أول مذكرات لمثقف سوداني تجعل من محمود محمد طه موضوعها ومحورها، لتكون أول وثيقة مقاومة للتجاهل والتغييب. فقد كتب هاشم في كتابه، قائلاً: إنه حكى للمهندس عبد الكريم الأمين (كيكي)، ذات يومٍ، من أيامِ الدوحة، عن جُمعة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه، فألحَّ علىَّ أن أكتب عن تلك الجُمعة للتاريخ، ونشرها في (سودانيز أونلاين). كان ذلك، في العام (2005)". وظل هاشم يواصل في الكتابة، بمساعدة المهندس عبد الكريم ودعمه له وحثه على مواصلة الكتابة، وكأنما بعبد الكريم كان يستشعر مقاومة التجاهل لمحمود محمد طه. فلقد تجاهل كل الذين كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية من القادة والمثقفين، محمود محمد طه وغيبوه، غير أنه تغييب إلى حين. ولمَّا كانت تلك المذكرات والسير الذاتية من مصادر الدراسات السودانية، فلقد توارثت الأجيال ذلك التغييب والتجاهل . ولم يسعفنا حتى أساتذة تاريخ السودان الحديث والمعاصر، والمتخصصون في العلوم السياسية والاجتماعية والفكر الإسلامي، بإجراء المراجعات والتصحيح. فلقد سلم الجميع بالتاريخ المعلن، ولم يكن ما بعد التاريخ المعلن، حيث دراسة المُغيب والمُبعد والمُهمش، ومن هو خارج السجلات الوطنية، من انشغالاتهم. وهم في هذا، ومن بينهم الكثير من حملة الأقلام من الصحفيين، كانوا، ولا يزالون، من المساهمين في تغذية الصراعات والحروب والتشظي لأقاليم السودان. فهل يُعلن كتاب هاشم كرار عن مسار جديد في الموقف من محمود محمد طه في فضاء الصحافة السودانية؟ وهل يشجع الكتاب حملة الأقلام من الصحفيين على الاستيقاظ واستشعار المسؤولية الفردية، وتجسيد القيم الأخلاقية، تجاه مواقفهم من محمود محمد طه؟
الصحفيون وتغذية الشعب بجهالات العقول وغثاثات الأنفس
لقد ظل سجل الصحافة وأداء الصحفيين، ولايزال، ليس كلهم بالطبع، من أقبح السجلات المهنية في السودان، بعد القضاة الشرعيين، في مواقفهم من محمود محمد طه بعد إعلانه للفهم الجديد للإسلام، وفي دورهم في التشويه والتضليل. والشواهد على ذلك كثيرة وثابتة، غير أن ضعف الذاكرة التاريخية، والانبتات عن الأرشيف القومي، وحالة الكسل العقلي، ظلت ملازمة لتكويننا العلمي، وغدت من سمات الأداء في الخدمة التنويرية في السودان. يفيدنا الأرشيف القومي في السودان بإن أول من استهل التشويه للفكرة الجمهورية والتحريف لأحاديث محمود محمد طه هو الكاتب الصحفي عبد الله رجب (1915- 1986)، صاحب صحيفة الصراحة، ورئيس تحريرها. وقد تحدث محمود محمد طه عن ذلك، قائلاً: "إن أول من بدأ التشويه للفكرة الجمهورية هو عبد الله رجب". كان عبد الله رجب أول من أطلق عبارة أن محمود محمد طه رفعت عنه التكاليف، ورفعت عنه الصلاة. وقد حدث ذلك عندما قدم محمود محمد طه محاضرة بعنوان: "اشتراكية القرآن" ، بنادي الثقافة بأم درمان مساء الأحد 14 سبتمبر 1952، فما لبث أن تبنى رئيس تحرير صحيفة الصراحة عبد الله رجب، المعارضة والتشويه. وأتبع ذلك بالعديد من الكتابات، وصف فيها محمود محمد طه، بأوصاف لا تليق، منها على سبيل المثال، لا الحصر، قوله: "وزعم واحد أن محموداً كان له (سفلي) وقال أنه لا يغتسل ولا يصلي ولا يستجمر" . وكتب كذلك، قائلاً: إن محمود محمد طه يتكبر على الصلاة والصيام بدعوى أنه صار من الواصلين . لقد ظل عبد الله رجب على هذه الحالة خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، وحتى عندما ظهرت مذكراته: مذكرات أغبش، (1988) كتب متهكماً على محمود محمد طه. أيضاً، لم تكن صحيفة الرأي العام في مواقفها من محمود محمد طه أفضل حالاً، وإنما كانت مثالاً لسوء الفهم وسوء الطوية. لقد ظلت الصحيفة تقود الحملات العدائية والتشويهية، خاصة أيام محكمة الردة الأولى 1968، وتفتح أبوابها للمعارضين، وترفض النشر للإخوان الجمهوريين وتحرمهم من حق الرد على المعارضين. وكذلك صحيفة الميثاق الإسلامي، التي لم يتأخر رئيس تحريرها عبد الرحيم حمدي (1939- 2021) عن تلك الحملة، وكان من بين مقالاته الجريئة والتي تفتقر للأدب، مقال بعنوان: "محمود محمد طه: جاهل أم مخادع؟" . ولم تسلم في هذا صحيفة الأيام، وصحيفة الصحافة، كما غرفت صحيفة الأمة نصيبها منذ أربعينات القرن الماضي. ليس هذا فحسب، وإنما كانت صحيفة الرأي العام تضلل القراء، حيث تطلب من أساتذة جامعة أم درمان الإسلامية إعداد المواد المعارضة لمحمود محمد طه، لتنشرها في اليوم التالي باسم "نفر من هيئة التحرير" . لقد قامت الصحف، خاصة صحف الصراحة والرأي العام، والميثاق الإسلامي، وغيرها، بدور كبير في تضليل الشعب، وكانت جزءاً أصيلاً ومتماهياً مع رجال الدين في نسج السردية التكفيرية الباطلة حول محمود محمد طه. وقد فصلنا كل ما ذهبنا إليه أعلاه، في كتابنا المشار إليه في الهامش أدناه .
جدير بالذكر بأن أكثر الصحف التي كانت تفتح أبوابها لمحمود محمد طه هي صحيفتا السودان الجديد، وأنباء السودان، فنشرت له الكثير من المقالات والبيانات. كما نشرت له كذلك صحف الشعب، وصوت السودان، والاستقلال، والأيام، والميدان، وغيرها، بعض المقالات والبيانات.
هاشم صحفي العيش الكفاف يفوز بشرف السبق ويفتح الباب أمام حملة الأقلام لتصحيح المواقف
فاز هاشم بشرف تقديم أول كتاب من صحفي كان محوره محمود محمد طه. وفي هذا ترفيع للقواعد الأخلاقية، وتجسيد للمعاني الإنسانية. كتب هاشم واصفاً حاله، فقال: "إنني - فقط- مجُّرد زول، أتيحت له فرصة أن (يُصوِّر) حدثاً في زمانٍ مُعيَّن، ومكانٍ مُعيَّن، أو أزمنةٍ وأمكنةٍ مُعيَّنة.. وها هو الآن يحاول - بعد عشرين عاما - أن ينقل الصورة، كما هي.. بكلِ تفاصيلها". يقيني أن هاشم بهذا الكتاب يفتح الباب أمام زملائه الصحفيين، ويدعوهم إلى الانحياز للحق وعدم الممالاة على الجهل، وهو يردد ما كتبه محمود محمد طه، عندما أصدر صحيفته، صحيفة الجمهورية، في 15 يناير 1954، فقد كتب محمود محمد طه، قائلاً: إن الصحافة "يجب أن تعين على العلم، لا أن تمالي على الجهل.. يجب أن تسير أمام الشعب لا أن تسير في زمرته تتسقط رضاه، وتجارى هواه، وتقدم له من ألوان القول ما يلذه ولا يؤذيه". غير أن الصحف في السودان قد رزئت منذ بداياتها الأولى بالكثير من الصحفيين من ذوي التكوين المعرفي الضعيف، والتأهيل الركيك. وفي هذا كتب محمود محمد طه عن الصحف ومحرريها، قائلاً: "إننا نجد أكثر محرري صحفنا من فشلوا في ميادين الحياة المختلفة فاستوعبتهم الصحف فأخذوا يغذون الشعب بجهالات عقولهم وغثاثات أنفسهم" . ولعل راهن الصحافة اليوم لا يختلف كثيراً عما كانت عليه في مرحلة البدايات تلك، خاصة تجاه القضايا الفكرية، وبصورة أخص في موقفها من محمود محمد طه. وهذا ما يمكن رصده وببساطة من خلال تتبع مواقفها، إذ ظلت تعمل، وكذلك الإعلام المسموع والمرئي، غير أن تركيزنا الآن على الصحافة، وتحديداً على الورقية وليس الإلكترونية، على التعتيم والتجاهل. وفي مفارقة مدهشة، وجدنا بعض حملة الأقلام ممن يسعون لتجاهل محمود محمد طه وتغييبه، يمارسون النهب، فكانت أفكاره ونصوصه حاضرة كالشمس في كتاباتهم. وفي هذا النهب برع رجال الدين، وبعض المفكرين الإسلاميين، والقادة السياسيين، وكثير من المثقفين من داخل السودان وخارجه. لم يقف الأمر في حدود نهب الأفكار والنصوص، وإنما قام البعض بالسطو على فصول بأكملها، بل هناك من نهب كتاباً من الغلاف إلى الغلاف، ولم يلغ منه سوى ما جاء عن الرسالة الثانية من الإسلام، أو الذكر للجمهوريين أو الحزب الجمهوري .
على الرغم من كل ذلك، وليس غائباً عنا بأن مجال الصحافة في السودان مجال واسع، خاصة إذا ما نظرنا إليه في إطار زمني يمتد منذ إعلان محمود محمد طه للفهم الجديد للإسلام في العام 1951، فإن هناك مواقف مشرفة لبعض الصحفيين من محمود محمد طه، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، أحمد يوسف هاشم (1903- 1958)، وبشير محمد سعيد (1921- 1995)، ومحمد سعيد معروف (1926- 2000)، وعبدالرحمن بلاص (1937- 2017)، ودوليب محمد الأمين، وصالح بان النقا (ابن البان)، وعمر الحسين (1940- 2005)، وسيد أحمد خليفة (1940- 2010)، وحسن ساتي (1948- 2008)، وبكري خضر، وعبد الله جلاب، البروفيسور اليوم وأستاذ الدراسات الأفريقية وسوسيولوجيا الإسلام، بجامعة ولاية أريزونا، الولايات المتحدة، والحاج وراق، وآمال عباس، ونجيب نور الدين، وفيصل محمد صالح، وزير الثقافة والإعلام السابق، وفتحي الضوء، وشمس الدين ضو البيت، وعبدالله الشيخ، وأسامة أبو شنب، وأمل هباني، ورشا عوض، وأمير صديق، وعماد البليك، وصلاح شعيب، ومنصور الصويم، وحيدر المكاشفي، وفيصل الباقر، وعبدالوهاب همت، وشوقي عبدالعظيم، والسر السيد، وعادل سيد أحمد خليفة، والدكتور محمد بدوي مصطفى، ومأمون التلب، وحاتم الكناني، وأفراح تاح الختم، ومحمد إبراهيم، ومحمد الشيخ حسين، وحسين سعد، وأحمد جادين، وحسن إسحق. كما فتح البعض منبر صحيفته، غير أنه أحجم عن الكتابة عن محمود محمد طه، بينما اتبع البعض الآخر فتح منبره بالكتابة عن محمود محمد طه، ومن هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر: عادل الباز، رئيس تحرير صحيفة الأحداث، وعثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة التيار، والدكتور خالد التجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف. وهناك صحف ظلت أبوابها مفتوحة للكتابة عنه، منها على سبيل المثال، لا الحصر: أجراس الحرية، والجريدة، والأيام، والميدان، والديمقراطي، والحداثة، وهناك من الصحفيين من ظل مشغولاً بالفكرة الجمهورية وبالجمهوريين في أحاديثه وكتاباته، سواء كان ناقداً أو متأملاً أو معبراً عن إعجابه أو كتب مقالاً يتيماً أو بعض المقالات، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، محجوب عروة، ومحمد طه محمد أحمد، رئيس تحرير صحيفة الوفاق (1956- 2006)، وحسين خوجلي، رئيس تحرير صحيفة ألوان، ومحمد لطيف، رئيس تحرير صحيفة الأخبار، والصحفي بكري المدني الذي ظل مشغولاً بنقد الفكرة الجمهورية. والنقد مطلوب، غير أن لديه استحقاقاً وشروطاً لابد من استيفائها، وقد لخصها محمود محمد طه في ثلاثة شروط، هي: العلم، والصدق، والمسؤولية.
غني عن القول إن ما أوردناه أعلاه من أسماء لم يكن سوى نماذج فقط، فهو ليس حصراً أو رصداً، فإننا لا نسعى لذلك، ولا يمكننا القيام به في هذه المساحة الضيقة. كما أننا لم نتعرض للكُتاب من الأكاديميين والمثقفين الذين ظلوا يكتبون في الصحف باستمرار. كذلك معلوم أن بعض الصحف التي وردت الإشارة إليها، قد توقفت عن الصدور، غير أنها محفوظة، وكذلك تلك التي لم نذكرها وهي كثيرة، في الذاكرة القومية في الأرشيف الصحفي بدار الوثائق القومية.
كذلك لابد من الإشارة إلى أن ميدان الصحافة في السودان، على الرغم من سجله السلبي تجاه محمود محمد طه، إلا أنه كان من أكثر الميادين التي قدمت العصاميين، أولئك الذين لم ينالوا تعليماً نظامياً، وإنما علموا أنفسهم بأنفسهم تعلماً ذاتياً، نهلوه من مدرسة الحياة، "فالحياة أصدق من العلم" ، كما يقول محمود محمد طه. كان من بين هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، يحيي محمد عبد القادر (1914-2011)، صاحب صحيفة أنباء السودان، وعبد الله رجب، صاحب صحيفة الصراحة، ومحمد الخليفة طه الريفي (1917- 2002)، والفاتح النور (1922- 2000)، صاحب أول صحيفة إقليمية في السودان صحيفة كردفان، والأديب والكاتب الصحفي جعفر الشريف عمر السَّوْري (1924- 1956)، فهو أول صحفي، حسب اطلاعي، أطلقت عليه صحيفة السودان الجديد، في 14 يوليو 1956، عند نعيه، وصف "الصحفي العصامي". وكذلك محمد الحسن أحمد (1932- 2008)، صاحب صحيفة الأضواء، والقائمة طويلة، ولكن هذه مجرد نماذج. كما أن هناك إسهامات وطنية كبيرة وبصمات واضحة ومشرقة لصحفيين كُثر، ظلت باقية ومثلت إضافة حية ومتجددة وسدت فراغاً كبيراً في مسار السودان السياسي والثقافي والاجتماعي والفكري. ولكن هذا لا يمنع القول بأننا في حاجة إلى تحرير ميدان الصحافة والإعلام مما ينطوي عليه من ضعف تجاه دوره في تنمية الوعي وخدمة التنوير. ولا سبيل لهذا التحرير، إلا بترفيع مستوى الأداء وإعمال الحس النقدي، والعمل على إنجاب الصحفي الحر والمسؤول، فضلاً عن الاحتفاء بالنماذج الإرشادية من الصحفيين، والاسترشاد بسيرهم، من أمثال مؤلف هذا الكتاب، الكاتب الصحفي النبيل هاشم كرار، وهو من صحفيي العيش الكفاف .
الأحرار حرب على التعتيم: الصحفي الأول والوحيد الذي كشف حريق نادي الخريجين بود مدني، 1979
لم يكن محمود محمد طه غريباً على فضاءات هاشم كرار، ولم يتعرف عليه مؤخراً، وإنما كان قارئاً له منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وظل مهتماً بأطروحاته وبسيرته الفكرية. كذلك كان محمود محمد طه حاضراً في مناخات أسرة كرار، بل سجل التاريخ لأسرة كرار احترامها لمحمود محمد طه واهتمامها به. ففي عام 1972 كان ابن عم هاشم كرار، الأستاذ الباحث الاجتماعي والكاتب الصحفي العصامي محجوب كرار (1938- 2001)، قد شارك في حوار أجرته مع محمود محمد طه الباحثة البريطانية اليزابيث هودجكنز، بحضور الأستاذ عصام عبد الرحمن البوشي، الذي تولى ترجمة الحوار، ومن ثم قام محجوب بنشر الحوار بعنوان: "محمود محمد طه في حوار صوفي مع مسز اليزابيث هودجكنز"، في صحيفة الصحافة، بتاريخ 16 ديسمبر 1972. أيضاً كانت عينا هاشم قد كحلت كتب محمود محمد طه أول مرة في منزل الأسرة بمدينة الحصاحيصا، وسط السودان. فقد كان شقيقه المهندس عوض كرار (1948- 2016) يأتي بكتب محمود محمد طه للمنزل، يقرأها ويعطي هاشم ليقرأ. وقد صور هاشم هذا المشهد، قائلاً: "كان [عوض كرار] يجيئُ من المحالج، بين فترةٍ وأخرى، بكتيبٍ للجمهوريين، أو كتاب للأستاذ [محمود محمد طه]. كان يجلس العصرية، أمام البيت، يقرأُ. رافعاً رجليه على ساق شجرة نيم، من النيمات الكبيرة التي كان قد زرعها هو، أمام البيت، وتعهدُّتها أنا بالسُقيا والرعاية! كان يقرأ، ويعطيني لأقرأ".
لقد ظهر أثر هذه القراءات عند هاشم فور التحاقه بصحيفة الأيام في العام 1978. إذ لم يمض عام من عمله صحفياً، حتى شهدت مدينة ود مدني، بوسط السودان، واحدة من أبشع مؤامرات رجال الدين ضد الفكرة الجمهورية، عندما قاموا في نهار يوم الجمعة 12 يناير 1979 بحرق نادي الخريجين، بسبب استضافة النادي لمعرض الفكر الجمهوري. التهم الحريق جميع محتويات المعرض، وكل النادي، بما في ذلك مقتنيات ووثائق تعود إلى حقبة النضال ضد الاستعمار. فالنادي يمثل رمزاً وطنياً في النضال ضد الاستعمار، وأداة حداثية لها إسهام عظيم في تنمية الوعي، وإذكاء الروح الوطنية. لاحظ هاشم كرار بأنه وعلى الرغم من خطورة الحدث، إلا أن الصحف لم تهتم به، ولم تورد حتى مجرد خبر عنه. استنكر هاشم مواقف الصحف، وبادر بأن طرح على رئيس تحرير صحيفة الأيام الأستاذ حسن ساتي، فكرة السفر إلى مدينة ود مدني لإجراء تحقيق حول الحدث. وافق ساتي، وسافر هاشم إلى ود مدني، والتقى بالأستاذ صديق محمد الحاج، سكرتير نادي الخريجين، وآخرين.
أثناء تحقيقه أكتشف هاشم بأن التخطيط لحريق النادي بدأ بمسجد دردق بمدينة ود مدني بقيادة إمام المسجد الشيخ حسن عبد العزيز، وأن أطراف المؤامرة لا تقف عند رجال الدين والصحف التي سعت للتعتيم على الخبر، وإنما كان للشرطة والمطافئ دور كذلك. فقد أوضح السيد/ صديق، سكرتير النادي في مقابلاته مع هاشم، بأن تواطؤ الشرطة، وكذلك المطافئ، وتأخرهما في الاستجابة والمجيء، أتاح الفرصة للنيران أن تلتهم كل شيء في النادي. جمع هاشم المعلومات وعاد قافلاً للخرطوم لينشر تحقيقه، بمساندة حسن ساتي، الذي كان صلباً في دعمه لنشر التحقيق. ليكون ذلك أول عمل عبَّر هاشم من خلاله عن موقفه من الفكر الجمهوري، وهو أول صحفي، بل الصحفي الوحيد، الذي كشف للشعب السوداني ما سعت الصحف لقبره وهي تعتم عليه. كان محمود محمد طه قد أرسل خطاباً إلى رئيس نادي الخريجين، في اليوم التالي لحريق النادي، جاء فيه:
"حضرة الأخ الكريم عبد الرحيم محمود أبو عيسى، رئيس نادى الخريجين بمدني
وحضرات الإخوان الكرام أعضاء لجنة النادي الموقرة، وحضرات الإخوان الكرام أعضاء هذا النادي العزيز، تحية طيبة... لقد خرجت من ناديكم، في الثلاثينات، الشعلة الأولى التي كانت نواة الحركة الوطنية العظيمة التي انتهت الى إخراج الاستعمار الحسي حكم الإنجليز من البلاد، فأحرزت بذلك تحريرها.. وستخرج بهذا الصنيع البشع، من هذا القبيل الضائع، من ناديكم الشعلة الثانية التي ستنتهى إلى إخراج الاستعمار المعنوي الجهل بالدين وتسلط هذا الجهل على عقول أفراد شعبنا من العقول بإذن الله، فيتم بذلك ما بدئ، في مضمار التحرير، من إحراز الاستقلال الصحيح...".
وثق هاشم كرار، وهو صحفي يافع، حريق نادي الخريجين في الأرشيف الوطني، وها نحن نبعث توثيقه اليوم من جديد، وبعد مرور (42) عاماً، ليكون برهاناً على سجل رجال الدين، والكشف لمحطة من محطات سعيهم لهزيمة الوعي وتلويث العقول. كان محمود محمد طه، قد أشار لهذا المعنى في خطابة لرئيس النادي، قائلاً: "لقد طالما تحدثنا عن أن مساجد الله قد أصبحت ملوثة بجهالات رجال عقولهم خربة، ونفوسهم مريضة.. وهؤلاء الرجال هم اليوم أئمة الناس ومعلموهم الدين.. ولكن حديثنا كان يفتقر الشاهد المحسوس الملموس، على صدق النذير الذي يسوقه، فوجدناه اليوم بحريق هذا الناد العتيق، العزيز، وجدناه بصورة ستظل نموذجاً حياً في أذهان الناس، كنذير بما ينتظر هذه الأمة، إذا ما قدر لها أن تحكم باسم الإسلام، كما يفهمه هؤلاء الرجال الجهلة، والمريضو النفوس".
44 عاماً من العطاء في سبيل السودان والإنسان
خدم هاشم كرار (44) عاماً في مجال الصحافة، ولا يزال، منها (16) عاماً كانت في السودان، و(26) عاماً استحوذت عليها دولة قطر بمحبة وأريحية ورضا. ظل هاشم يكتب بقلبه وعقله وروحه. تميز قلمه بالرشاقة والمتعة والسلاسة والعفة والعمق والتحفيز على التأمل. واتسم عالمه بالمحبة، فالناظر لوجهه لا يرى سوى المحبة، والجالس معه لا يسمع سوى محاسن الناس. ولا يملك من يلتقيه، من خلال تجربتي معه وعلاقتي بالأصدقاء المشتركين، إلا أن يحبه، ويكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع لدى من يعرفونه، بأنه منبع للمحبة ومصب لها. لم يكن صحفياً متقلباً، وإنما ظل عطاؤه وانتماؤه يتمحور حول السودان والإنسان. يعود تعبير "صحفي متقلب" إلى الصحفي يحيي محمد عبد القادر، وهو من الرعيل الأول من الصحفيين، فقد كتب، قائلاً: "يتهمني الكثيرون بأنني، صحفي متقلب، وهي عبارة مؤدبة لمعنى، صحفي معدوم الضمير، وقد بدأ هذا الاتهام عندما كنت أعمل في جريدة النيل لسان حال آل المهدي، وهي استقلالية، مع احتفاظي بمراسلة الأهرام، وهي صحيفة مصرية، يفترض فيها الدعوة للوحدة بين مصر والسودان، واشتراكي في نفس الفترة في تأسيس الحزب الجمهوري- محمود محمد طه- وهو منظور له كحزب مناهض لآل المهدي... وأن أعلن في جريدة النيل الناطقة بلسان آل المهدي أن الرسائل الواردة للحزب الجمهوري تُعنون باسمي، وهو حزب منظور إليه كخصم لدود لحزب الأمة" . لم يكن هاشم "صحفياً متقلباً"، وإنما ظل حراً التزاماً بوصية شقيقه عوض كرار التي ظلت معه كل الأوقات. فقد كتب هاشم، إن شقيقه عوض أوصاه، قائلاً: "إقرأ لهم - الجمهوريين- ولغيرهم.. بس خليك حُر! ... وظللتُ أنا أحتفظُ بوصيته في عقلي ووجداني وضميري، وظللتُ بها- في كل الأوقات- براً حفيا. ما زلتُ حراً، وسأظل".
بدأ هاشم حياته العملية في صحيفة الأيام عام 1978 واستمر بها حتى اندلاع انتفاضة أبريل 1985. وسافر في شهر سبتمبر من نفس العام ولمدة أربعة أشهر إلى دولة قطر بمعية: مصطفى سند، وحسن أبو عرفات، وصديق الزين، وأسهموا في تأسيس صحيفة الخليج اليوم التي أصبحت في العام 1987 صحيفة الشرق. بعد عودته من دولة قطر رجع للعمل بصحيفة الأيام. ثم انتقل في العام 1987 مديراً لتحرير صحيفة الجريدة، فما لبث أن استقال بسبب اختلافه مع القائمين عليها بشأن استقلالية الصحيفة وخطها التحريري. اختير مديراً لتحرير صحيفة الحوادث التي كان يجب أن يصدر عددها الأول في 30 يونيو 1989، فوقع الانقلاب العسكري المشؤوم، فنسف أحلام فريق صحيفة الحوادث، وأسدل التسلط والقهر سدوله على السودان. كان أول قرار هو إغلاق جميع الصحف، فالتحق هاشم بمكتب صحيفة الشرق الأوسط اللندنية- مكتب الخرطوم. في العام 1994 عاد هاشم إلى دولة قطر ليعمل ضمن الفريق التأسيسي التحريري لصحيفة الوطن، ولايزال مقيماً في دولة قطر بمعية أسرته: زوجته أماني محجوب قوليب، وابنته سارة، وابنائه محجوب وطه وعوض. وقد أصبحت دولة قطر جزءاً أصيلاً في ذاكرتهم الحياتية، ومعطى مركزياً في تكوين الأسرة وأخيلتها.
الأسرة خالقة الجمال والنموذج الذي يحتذى
كانت أسرة هاشم كرار قد كشفت، وفي الفضاء الكوكبي، عن هوية هاشم الزوج والأب، وهي تعبر عن مدى حبها له. فعندما أصيب هاشم مؤخراً بداء السرطان اللعين، ونال العلاج من شعر الرأس فتساقط، فما كان من هذه الأسرة الرائعة، إلا وأن قام أعضاء الأسرة بحلق شعر رؤوسهم، وكانت الأم أول الحالقين، لتجسد الأسرة بهذا المشهد، الحب المعية مع هاشم الأب. استطاعت هذه الأسرة الجميلة وبهذه المبادرة الإنسانية، أن تقدم نموذجاً إرشادياً يحتذى، ويقيني أن الكثير من الناس في العالم اشتهى أن تكون أسرته مثل أسرة هاشم. غير أن جني ثمار المحبة، يبدأ عند غرسها، فمن لا يغرس المحبة يجني السراب، ومن لا يبذلها لا يظفر بها. كما أن الصحة الأسرية والسلام الأسري، يبدأ عند الأب بإقامة السلام الداخلي والصحة الداخلية، وتكريم الزوجة واحترامها كإنسان، كونها مركز دائرة البيت وبوصلة السلام والصحة والمحبة فيه. لا جدال في أن هاشم يعيش في سلام داخلي، وبإقامة السلام الداخلي، يتحقق السلام على الأرض. شكراً هاشم على اهدائنا هذه الأسرة الرائعة، وعلى تقديم هذا النموذج الإنساني التعليمي والذي سيبقى حياً في أذهان الناس.
دعوة للأساتذة والطلاب والباحثين
وهنا أستميح القراء عذراً في أن أوجه الدعوة للطلاب والطالبات والباحثين والباحثات للقيام بإعداد دراسات عن موقف الصحافة من محمود محمد طه. والدعوة موصولة إلى الأساتذة من المعنيين بالإشراف على الدراسات العليا في مجال الصحافة والإعلام والاتصال الجماهيري، وإلى الجامعات كذلك بتوجيه الطلاب لدراسة هذا الموضوع، فهو موضوع كبير ومهم وغني وثر وثري. وفي تقديري، إننا عبر دراسة هذا الموضوع نستطيع تفسير الكثير من معطيات راهن السودان، وتحليل أزمة الفكر الإسلامي بما يحقق إعادة الاعتبار والبعث للفهم الجديد للإسلام، الأمر الذي يخدم تعمير الحياة وأنستها، وإقامة السلام في القلوب وعلى الأرض.
قبل الختام، التهنئة للأستاذ هاشم كرار بإنجازه لهذا الكتاب، وهو في تقديري، بمثابة إعلان موقف أخلاقي تجاه موضوع وَضَعَ كل حملة الأقلام، والصحفيين بصورة خاصة، في امتحان عسير ومستمر مع صباح كل يوم جديد. وستظل المسؤولية فردية في هذا الامتحان، والأسئلة تزداد سطوعاً أمام ناظرينا، والإجابات عليها تنتظر نمو الوعي وشجاعة العقول وتحريرها من الأوصياء عليها، والتحرر من ثقافة القطيع. فما هو موقف حملة الأقلام من الشراكة في اغتيال محمود محمد طه؟ وما هو موقفها من سيرته الفكرية ومشروعه الفكري الفهم الجديد للإسلام، أمام السردية التكفيرية، سردية الكسل العقلي وتناسل الجهل التي ظل يرددها رجال الدين؟ إلى أي مدى أسهم حملة الأقلام، خاصة الصحفيين، في نسج السردية التكفيرية؟ ما هو دور الصحفيين في التجاهل والتغييب والتهميش؟ وهل لا يزالون يمارسون ذلك الدور؟ متى سيستيقظ حملة الأقلام في السودان حتى يقوموا بدورهم تجاه واجب الثقافة وحق الشعب عليهم، في التعبير عن الاحترام لمحمود محمد طه والاحتفاء به، في الوقت الذي قطع فيه حملة الأقلام في فضاءات العراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، والجزائر، وغيرها، شوطاً كبيراً في دراسته والاحتفاء به وبرؤاه؟
هذا الكتاب، في تقديري، يقدم دعوة للصحفيين بضرورة إعادة النظر في مواقفهم من محمود محمد طه، ويذكرنا بأن التجاهل هو سلاح العاجزين، وأن التهميش هو سلوك أصحاب السقوف المعرفية الخفيضة، وأن التغييب، في ظل تيار الوعي المتنامي، أصبح مستحيلاً. وأن توهم النسيان والتناسي لمحمود محمد طه، فعل لا يصدر إلا من أصحاب النظر القصير، والخيال المتكلس. وفوق كل هذا فإن التغيير الجذري والشامل قادم لا محالة، فالثورة في السودان أصبحت كالأكسجين يستنشقها الشعب، وليس هناك سوى التوق للحرية والتغيير. فمتى ما تمت الثورة، الآن أو مستقبلاً، فإن شعوب السودان والإسلام، لن تجد من يعينها على طريق الحرية والتنمية والديمقراطية وكرامة الإنسان، ويسوقها إلى إقامة السلام في القلوب وعلى الأرض، سوى الفهم الجديد للإسلام/ الرسالة الثانية من الإسلام.
ختاماً أتقدم بخالص شكري للأستاذ هاشم كرار لإتاحته الفرصة بطلبه مني تقديم قراءة في هذا الكتاب، والحق أنني احتفيت أيما احتفاء بطلبه هذا. فلقد ظللت عبر عملي في سيرة محمود محمد طه الفكرية والفهم الجديد للإسلام، ساحة مشروعي البحثي المفتوح والمستمر، أسعى لتطهير نفسي وعقلي وجسدي وروحي، كون العمل في ساحته واجب ثقافي ووطني وأخلاقي وإنساني. وأعتذر للقراء والقارئات على هذه الإطالة، غير أن المفكر والمؤرخ الفرنسي هنري مارو (1904-1977)، يسعفني في هذا المقام، إذ كتب مارو، قائلاً: إن "توصيف التاريخ هو ثمرة لجهد جماعي، فإفراط البعض يُقوِّم تقصير البعض الآخر" . مع تمنياتي للجميع بقراءة ممتعة، وباعثة على التأمل في صفحات هذا الكتاب.
الهوامش
محمود محمد طه، الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، أم درمان، 1969، ص 40.
تشكَّل مجلس السيادة الرابع من السادة: إسماعيل الأزهري، والفاضل البشرى المهدي، وجيرفس ياك، وخضر حمد، وداود الخليفة عبد الله.
للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، ط1، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2020.
للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، ط1، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2013.
عبد الله رجب، "الاشتراكية الجمهورية"، صحيفة الصراحة، 16 سبتمبر 1952.
عبد الله رجب، "محمود محمد طه: هل يمثل الآن كياناً سياسياً؟"، صحيفة الصراحة، العدد رقم: (1256)، 3 أغسطس 1958.
عبد الله رجب، "محررو الصحف السودانية جهلاء وفقراء الجيوب والنفوس باستثناء يحيى محمد عبد القادر: هذه هي أفكار زعيم الحزب الجمهوري"، صحيفة الصراحة، العدد رقم: 1272، 23 أغسطس 1958.
عبد الرحيم حمدي، "محمود محمد طه: جاهل أم مخادع؟"، صحيفة الميثاق الإسلامي، الأحد 24 نوفمبر 1968.
نفر من هيئة تحرير صحيفة الرأي العام، "حوار حول نظرية محمود محمد طه: الجمهوريون ينادون بالرسالة الثانية ومعارضوهم يؤكدون استمرارية الرسالة"، صحيفة الرأي العام، 4 ديسمبر 1968.
عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، مرجع سابق.
محمود محمد طه، "كلمة حق"، صحيفة أبناء السودان، العدد رقم: (170)، 29 نوفمبر 1958.
يعد كاتب هذه القراءة في كتاب بعنوان: نهب أفكار محمود محمد طه.
محمود محمد طه، "إلى ابني المبارك عصام [عبد الرحمن البوشي] عصم الله خاطره وفكره ولسانه ويده"، (رسالة)، بتاريخ 18 يناير 1970. حصل كاتب هذه المقدمة على نسخة من هذه الرسالة من عصام عبد الرحمن البوشي بتاريخ 13 يوليو 2010.
ورد تعبير "العيش الكفاف" عند محمود محمد طه في وصفه لأهل مقابر مدينة عطبرة، فقد وصفهم، قائلاً: "إنهم شهداء العيش الكفاف".
يحيي محمد عبد القادر، على هامش الأحداث في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص 17،18، 162.
Henri I. Marrou, the Meaning of History, translation by Robert J. Olsen, Helicon Press Inc, Dublin/Baltimore, 1966, p. 105.
في الأصل صدر الكتاب باللغة الفرنسية، بعنوان: De la connaissance historique, by Edition du Seuil, Paris, 1959, 4th edition.
abdallaelbashir@gmail.com