تقاعس المفكرين سبب إطالة أزمة السودان

 


 

 

يقول شريعتي "أن المفكر و المثقف كليهما يمنحان المجتمع الإيمان و تحليل الأمرض الاجتماعية و بث الوعي في الناس لتحديد أهدافهم"
أن المفكرين و المثقفين مناط بهم لعب دور بارز في عملية التغيير في المجتمع، باعتبار أنهم منتجين للأفكار، و أيضا قادرين على تقدم الرؤى الجديدة، و هي الخاصية التي فشل فيها السياسيون الآن. و الأزمة السياسية المعقدة المتواصلة منذ سقوط نظام الإنقاذ في 11 إبريل 2019م حتى اليوم (أربعة سنوات) ترجع لغياب هؤلاء المفكرين و المثقفين عن الساحة السياسية، و الغياب سببه الضعف الذي تعاني منه المؤسسات الحزبية دون استثناء، و أيضا منظمات المجتمع المدني. كانت الأحزاب السياسية من قبل هي التي تقدم المفكرين و المثقفين باعتبارهم الطليعة الواعية التي تمتلك أدوات عديدة تحرك بها الماكينة الثقافية و السياسية. السبب الأخر؛ يرجع غياب هؤلاء سببه الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أثرت على الطبقة الوسطى، و جعلتها لا تستطيع أن تقوم بدور الاستنارة في المجتمع، و أيضا أزمة الاقتصاد أضعفت دور الصحافة و النشر، و الطبقة الوسطى على وجه العموم. حيث كانت المجلات و الصحف سابقا تعلب دورا كبيرا في رفد الساحة السياسية بالموضوعات التي تعتقد أنها تحتاج لحوار سياسي و مجتمعي لخلق إضاءات جديدة في الثقافة و الفكر. و بالتالي تفتح صفحاتها لكي تدلي بدلوها كل التيارات الفكرية، الحوارات الفكرية و الثقافية كانت تخلق وعيا متجددا في المجتمع دفعت العديد من المتعلمين إلي الإطلاع و حضور الندوات الفكرية و الثقافية.
كانت النخب السياسية في عقود الخمسينات و الستينات و السبعينات تحاول أن تقدم أفكارها من خلال هذه المساجلات في الصحف و الإصدارات الأخرى، و كانت تتباين الأراء، و تتناقض بعض الشيء بسبب المتغيرات التي تحدث في الشأن السياسي داخليا و خارجيا، مما يدل أن النخب كانت متابعة للتطورات السياسية و التحولات الاجتماعية رغم محدودية وسائل الاتصال و الإعلام. في كتاب ( الماركسية و قضايا الثورة السودانية ص 152) تقول الفقرة عن النظام البرلماني" النظام البرلماني يعبر في واقع الأمر عن تسلط القوى الممعنة في الرجعية و هي تهدم أساسا هاما تقوم عليه الحقوق الديمقراطية البرجوازية أنها تقدم شكلا للنظام البرلماني مجردا من كل محتوى، و قائما على قهر الجماهير المتقدمة التي تشكل عصب الحياة الاقتصادية و السياسية الحديثة، و هذا التناقض من شأنه أن ينمي الصراع و يزيد من حدة التناقضات الاجتماعيةو يعزل النظام البرلماني الشكلي يوما بعد يوم عن حركة الجماهير النشطة التي تلح في إيجاد سبيل للتعبير عن ذاتها و للتصدي لمهام قيادة البلاد في طريق دعم الحرية و الوطنية و في سبيل النهضة و التطور. هذا الحديث هو الذي مهد لانقلاب 1969م. هي الفترة التي كانت فيها سجلات الفكرية داخل التنظيم، و قدم عمر مصطفى المكي مصطلح ( الطليعة الثورية) التي تستطيع أن تقدم نظام ثوريا، هذا الحوار أنتج انقلاب 1969م، و لكن ظلت الرؤية المناهضة لديمقراطية النظام البرلماني مقبولة لدى الزملاء. و يرجعون لمقولات عبد الخالق القديمة في محاولة للتغطية على فكرة الصراع الطبقي " يقول في كتاب ( الماركسية و قضايا الثورة السودانية) " كشفت سنوات الحكم العسكري ( حكم عبود) الضعف المتناهي للتنظيمات البرجوازية التي اختفت عمليا من الوجود إلا في وجود و بقاء بعض الاشخاص. فإذا استثنينا الحزب الشيوعي و التنظيمات الطائفية التي لم يمسسها الحكم العسكري، فإن كافة التنظيمات الأخرى تبخرت و لم يبق منها إلا أثر ضئيل، هذه الحقيقة لا يفسرها ضعف التنظيمات السياسية و حسب، بل ضعف البرجوازية نفسها، و قد أدى هذا الضعف في أحيان كثيرة إلي تطلع أقسام منها للقيادة في النظام العسكري نفسه" إذا عبد الخالق محجوب يشتكي من ضعف البرجوازية، مادام البرجوازية ضعيفة لابد أن تؤدي إلي ضعف المنتوج الثقافي و الفكري. و تؤدي أيضا لضعف الحزب الشيوعي الذي تتكون عضويته من 85% من البرجوازية الصغيرة، و ظهرت معاناة الحزب في شح المنتوج الثقافي و الفكري. و في نفس الوقت تتمسك قيادته ب ( الثورية الجذرية) التي لم تحدد وظيفتها و دورها في عملية التحول الديمقراطي في البلاد. الضعف المستمر للبرجوازية الصغيرة هو سبب الأزمة الاقتصادية التي جعلت حزب الزملاء عاجزا عن تقديم مشروع يجذب كل القوى الحية في المجتمع لحوار يصل بالكل لتوافق وطني. من حق الحزب الشيوعي أن يستخدم المصطلحات التي تتوافق مع مرجعيته الفكرية، لكن السؤال هل يقبل أن يتوافق مع الأخرين لتأمين الدولة و بناء الديمقراطية أم أنه سوف يسير في طريق الصراع الطبقي.
في محطة سياسية أخرى: نجد أن الإمام الصادق المهدي يبين لنا أسباب فشل النظام الديمقراطي في كتابه ( ميزان المصير الوطني في السودان) هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي ألفها الإمام لأنه تناول فيه العديد من القضايا السياسية، و خاصة دورالثقافية في الوعي الوطني، متتبعه منذ بدأية أصدار الصحف و المجلات في البلاد، و الأسئلة التي طرحت في حقل الثقافة، التي لم تجاوب عليها النخب السودانية في مراحلها التاريخية المختلفة. يقول الإمام الصادق في أحدى فقرات الكتاب " لازم النظام السياسي السوداني الفشل في التعريف و الاستيعاب الكافي لحقيقة التعدد الثقافي من ناحية التأخر في التعرف على الهجنة الثقافية على مستوى الثقافات المختلفة و بدرجات مختلفة، من ناحية أخرى معرفة الواقع و أن الوعي القومي السوداني في نشأته الباكرة في النصف الأول من القرن العشرين قام على هوية عربية إسلامية وثيقة الصلة بالشرق الأوسط و شمال أفريقيا لاسيما بمركزها الثقافي الأقوى مصرمع أفتراض أن كل الهويات الثقافية السودانية الآخرى سيتم هضمها لا محالة و إذابتها في هذه الهوية" و ينتقل الإمام لمحور أخر و يقول فيه "المأخذ الخطير للنظام الديمقراطي السوداني الحديث هو فشله في إحداث إصلاح في بنية الاقتصاد الوطني لتوسيع قاعدة التنمية و فشله في مواجهة الحرمان الضاربة بإطنابه في الكثير من أجزاء الوطن و قطاعاته" و ينتقل الإمام أيضا لمحطة يبين فيها مقدرات النخب السياسية مقارنة بقادة الخدمة المدنية يقول " عندما انتقلت السلطة للقوى الوطنية كما جسدتها الأحزاب السياسية كان قادة العمل السياسي أقل تأهيلا للقيام بمهامهم من قادة الخدمة المدنية و من قيادات الخدمات النظامية. كان الساسة الاستقلاليون أكثر كفاءة لأنهم دخلوا في مؤسسات التطور الدستوري التي رفضها الساسة الاتحاديون" أن التنوع في تناول الموضوعات يضفي مزيد من الاهتمام بالكتابة و تحاورها و نقدها.
أن الفقرة الأخيرة يحاول الإمام يحاول دخول حزب الأمة المجلس التشريعي الذي رفضه الاتحاديون. و كانت علاقة الأمة بالانجليز قوية، و كانت قيادة الأمة لا ترفض لهم طلبا، و علاقة حزب الأمة المتواصلة بالخارج حتى الآن، باتت ثقافة لا يستطيع الحزب تخلي عنها. القضية الأخرى تتعلق ب ( التنوع الثقافي) و الحديث عن العروبة و تشكيل الهوية في السودان. هذه القضية مرتبطة بالذين تخرجوا من النظام التعليمي الحديث الذي أسسه المستعمر، فكانت حركة الثقافة و الإطلاع مرتبطة بالثقافة العربية و الانجليز بحكم الاتصال، و أيضا معرفة اللغة. إلي جانب دور الطلاب السودانيين الذين ذهبوا للدراسة في الجامعات المصرية، و استوعبوا في النشاطات السياسية للأحزاب المصرية خاصة القوى الأيديولوجية ( القوميون العرب – الأخوان المسلمين – الشيوعيون) هذه القوى عندما عادت للسودان استطاعت أن تحدث حراك تجاوز الحراك داخل مؤتمر الخريجين من الناحية الفكرية و الثقافية، فالذين درسوا في القاهرة و بيروت و بريطانيا أكثر تحصيلا من أقرانهم الذين درسوا في السودان لدورهم الثقافي و السياسي بعد عودتهم، و كانوا مؤثرين في الناحية الفكرية و الثقافية. هذا التأثير هو الذي فتح منابر الحوار المتعددة في البلاد.
يتضح ذلك بصورة واضحة في كتاب محمد أبو القاسم حاج حمد ( السودان المأزق التاريخي و أفاق المستقبل ص 18) يقول منتقدا الزعيم أسماعيل الأزهري " كان الأزهري أقل الناس إدراكا لدوره كزعيم لحركة المثقفين من جيل الاستقلال، فقد كان هو شخصيا أضعف الحلقات في تكوين المثقف السوداني" و يتسأل حاج حمد لماذا؟ و يجيب على سؤاله " لآن الأزهري نظر إلي الصراع بين حزبه و بين الآخرين في حدود الصراع السياسي المجرد على ( كراسي السلطة) فتحول هو الأخر إلي شيخ لطائفة المثقفين يبارك هذا بالتعيين و يحرم ذالك بالطرد من خلال عبارته " إلي من يهمه الأمر سلام" إذا كان نقد محمد أبو القاسم حاج حمد صحيحا، بكون هو الذي أدركه عبد الوهاب زين العابدين الأمين العام ( للجبهة المعادية للاستعمار) و التي كانت نواة للحزب الشيوعي. أدركه مبكرا عندما رفض فكرة تكوين حزب شيوعي، و أن تصبح الجبهة تيارا فكريا داخل الحركة الاتحادية و تشكل لها العمود الفقري الذي يحفظ تيار الوسط و يجعله أكثر إنتاجا للفكر و الثقافة، و أيضا تكون قوى حامية للمسار الديمقراطي. هنا وقف الفكر السوداني في التعاطي مع القضية، بالصورة التي تحافظ على توسيع دائرة الاستنارة من خلال دفع العملية النقدية ليس فقط في الساحة السياسية بل حتى في المؤسسات الأكاديمية ليربط بين الإنتاج الأكاديمي و بين الممارسة السياسية، حتى يستطيع السياسيون أن يتدراكوا أخطائهم.
أن تتبع حلقات التاريخ السياسي: و معرفة التحديات التي كانت تواجه النظم الديمقراطية، و يبين فشل السياسيون في تجاوزالأخطاء، كما تبين لماذا يتجاهل السياسيون عملية نقد الأخطاء هي أيضا سببا في حالة الفشل المستمر؟ الأسئلة عديدة و متغيرة تحتاج إلي عقول تشتغل بالفكر تستطيع الإجابة عليها. نواصل في معرفة الإخفاقات التي شكلت عقل الأزمة. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
/////////////////////

 

آراء