ثمن الديمقراطية وهشاشة المدنيّة في السودان
د. عبد الوهاب الأفندي
17 August, 2023
17 August, 2023
الحقيقة الصاعقة التي كشفت عنها جائحة غزوة برابرة الأعراب الأبريلية في السودان كانت هشاشة الدولة، ومعها هشاشة المدنية، في واحدة من أكثر عواصم العالم مدنية وتحضراً. فبين عشية وضحاها، لم يعد التظاهر ممكناً في الخرطوم. بل ولا المشي في شوارعها. كلا، بل لم يعد البقاء في البيت متاحاً، كما أن قول الحقّ قد يودي بك إلى التهلكة، فقد اختُطف حاكم ولاية وقُتل شرّ قتلة ومعه حرّاس له وأفراد عائلته، ومثل بجثثهم، لمجرّد أنه انتقد البرابرة في مقابلة تلفزيونية. وعندما تضامن قادة أحزابٍ كانت تحكم البلاد بإدانة خجولة لهذه الجريمة البشعة، لم يسمّوا الجاني، جبناً (إذا حسنا الظن).
كان السودان ولا يزال واحة تحضّر مدني (civility) فريدة في عالمنا. يمكن لأي عابر سبيلٍ يمرّ بقريةٍ لا يعرف أهلها ولا يعرفونه، فيجد المأوى والضيافة والمأكل. لا يساءل عن هوية، ولا يُطالب بأوراق ثبوتية. يكفي أنه ضيف. وكنت قضيتُ سنواتي الأولى في قريةٍ نائيةٍ في شمال السودان، كان الطعام لا بد أن يُجهّز فيها كاملاً في البيت: يُعجن الخبز ويخبز، ويذبح للحم، ولو كان دجاجة. وكنتُ، في أحيان كثيرة، أستيقظ في هجعة الليل على جلبةٍ ونار توقد، فلا أستغرب. فهذا يعني أن ضيوفاً قد وصلوا ليلاً. تُرجمت هذه المدنيّة إلى علاقات احترام متبادَل بين الخصوم السياسيين، فلا يشكّ أيٌّ كان في أن يلقى البشاشة والترحاب، لو زار منزل أشرس خصومه السياسيين.
إلا أن المدنيّة السياسية الحديثة قيمةٌ تُضاف إلى هذه الفطرة، وإنْ تستند إليها. وقد أرّخ يورغن هابرماس لهذه المدنيّة الناجمة بنشأة ما سمّاه الفضاء العام الرأسمالي، متمثلاً في ظهور المقاهي والمنتديات، حيث يلتقي الغرباء ويتبادلون الرأي في الشأن العام. وقد تعزّزت هذه الساحة مع تطوّر الإعلام الحديث الذي فتح ساحة النقاش بسعة المدينة أو القطر، وحالياً العالم.
ويشتمل تعريف المدنية (والمجتمع المدني) على نشأتها في كنف الدولة، فلا قوام للمجتمع المدني (وحتى المجتمع السياسي إن أردنا) بدون دولةٍ تخلق وتحمي فضاءه بحصرها العنف خارجه، في يد الجهات المخوّلة لذلك والمنضبطة بالقانون. وتُتاح كذلك آليات لحسم النزاع سلمياً عبر المحاكم وغيرها. ويصبح احتكار شرعية العنف للدولة وحدها الضمانة للنشاط المدني. بمعنى آخر، وجود الدولة شرط المدنيّة، ووجود الجيش شرط الدولة.
لا قوام للمجتمع المدني (وحتى المجتمع السياسي إن أردنا) بدون دولةٍ تخلق وتحمي فضاءه بحصرها العنف خارجه
وقد كان اكتشاف السودانيين هذه الحقيقة مؤلماً بعد أن دهمتهم قوة غاشمة حرمتهم الأمن في بيوتهم وطرقاتهم، واعتدت عليهم وسلبتهم كل عزيزٍ لديهم، ولم يجدوا سوى الجيش جهةً تدافع عنهم. أما حلفاء المليشيا من الساسة "المدنيين" (وكثير منهم قادة مليشيات بدورهم) فلم يستطيعوا مجرّد استعطاف المليشيا لوقف فظائعها، فضلاً عن إدانة جرائمها. بل إن القوم أنفسهم كانوا أول الفارّين بجلودهم وأسرهم وما ملكت أيديهم، حيث لم يكونوا يثقون في سلامتهم في حماية مليشيا دعم الديمقراطية بزعمهم. وهذا اعترافٌ بأنهم على الأقل لم يخدعوا أنفسهم وهم يخادعون الشعب، فالمليشيا لم توفر منازل "أصدقائها" والمدافعين عنها، ولا من هم أحقّ بالحماية. وقد اطلعت وأنا أكتب هذه السطور على خبر عن قتل المليشيا شخصا مريضا عقلياً بتهمة أنه من "الاستخبارات". ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يحدُث فيها هذا الأمر.
وكنتُ أعلق كلما سمعت مناداة بعضهم بتفكيك الجيش الوطني بأن المنادين بذلك سيكونون أول من يفتقده، فالنشاط المدني من تظاهر واحتجاج وغيره مستحيلٌ في غياب دولةٍ تؤمّن المتظاهر، حتى وهي تفرّق تظاهرته، وتعتقله، ... إلخ. فهو، في النهاية، يطلق سراحه أو يُحال إلى القضاء. ولكن لا يفكّر عاقل حالياً في ترتيب أي نشاط مدني، مهما كان هامشياً، إلا في الأماكن التي ما تزال تحت سيطرة الجيش الكاملة. ولن تكون الأمور أفضل في مملكة آل دقلو إن سمح للمليشيا وأصدقائها بإقامتها.
ولقد دفع السودانيون ثمناً غالياً لحرّيتهم ونضالهم من أجل الديمقراطية والحكم الراشد الخاضع للقانون وإرادة الشعب. ولكن الشعب خُذل أكثر من مرّة في الفترة الانتقالية التي بدأت بصفقة لاأخلاقية بين تحالف حزبي مضطرب وتحالف الدعم السريع/ اللجنة الأمنية الذي أشرف على فضّ الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة (يونيو/ حزيران 2019). ولم تتحرّك الحكومة الانتقالية خطوة واحدة نحو التأسيس للديمقراطية، عبر توسيع الحرّيات، خصوصا حرّية التعبير والتنظيم. وأكاد أجزم أن فترة رئاسة عبدالله حمدوك الحكومة كانت أسوأ فترة من ناحية حرية التعبير، لأنه حتى حمدوك ووزراؤه كانوا يخافون من التصريح بما في نفوسهم، حتى لا يتهمهم الغوغاء بأنهم "كيزان" (إسلاميون). لم تفكّر الحكومة في مجرّد إنشاء مفوّضية انتخابات، أو سنّ قانون انتخابي، ... إلخ. بل بالعكس، ضاعت معظم الفترة في جهودٍ شملت إغلاق صحف ومحطات تلفزة، وتدمير مؤسّسات اقتصادية وإنسانية وتعليمية ومدنية. وقد توقفت معظم الجامعات الحكومية عن العمل في تلك الفترة. وأسوأ من ذلك كله، تمت شرعنة مليشيا الدعم السريع، التي عُيّن قائدها نائباً لرئيس البلاد، ورئيساً للجنة الاقتصادية، وزاد عدد منسوبيها من ثلاثين ألفاً عند سقوط عمر البشير، إلى مائة وعشرين ألفاً عشية محاولتها الرعناء للانقضاض على السلطة في أبريل/ نيسان الماضي. سمح للمليشيا بالاستيلاء على مناجم ذهب، وفرض الإتاوات، وإنشاء شركات نهبٍ خارج رقابة الدولة، وتمّت الاستجابة لمطالبها بفصل مئاتٍ من ضباط الجيش، وحلّ بعض المؤسّسات العسكرية، وتمليكها معسكرات ومقارّ عسكرية ومدنية في كل أنحاء العاصمة، وتكليفها حماية مقارّ رسمية مثل القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون، إلخ.
دفع السودانيون ثمناً غالياً لحرّيتهم ونضالهم من أجل الديمقراطية والحكم الراشد الخاضع للقانون وإرادة الشعب
وكنا قد حذّرنا مراراً من خطل هذه السياسات الخرقاء وخطرها، وانشغال القيادات بالتناحر الحزبي وهوس الإقصاء عن أي جهدٍ بنّاء، وأنها ستعمّق عسكرة الدولة، وتهدر فرصة نادرة لبناء دولة ديمقراطية معافاة. فلم تحظ حكومة سودانية من قبل بمثل هذا الإجماع الوطني، والدعم الخارجي. ولا يعود ذلك إلى الافتتان بأحزاب التحالف، ولا بأشخاص وزرائها وممثليها، ومعظمهم من الهواة خفيفي الوزن، ولكن بنيّة لإعطاء الديمقراطية فرصة كانت هناك، وحماس لدعمها. حتى قيادات النظام السابق استسلمت، وأعلنت أنها لا تريد المشاركة في الفترة الانتقالية، وستنتظر الانتخابات.
ولكن كل هذه الثقة والنيات الحسنة بدّدت عبر الفشل الذريع في المهام التي كلفت الحكومة الانتقالية بها نفسها (وهي الانخراط في مشاريع ثقافية - سياسية مثيرة للجدل، وتقديم وعودٍ غير قابلة للتحقيق حول معالجة الاقتصاد، والانشغال بصراعاتٍ داخلية ومساع فاشلة لإعادة صياغة الساحة السياسية بصورة غير ديمقراطية)، على حساب المهامّ الأساس لأي حكومةٍ انتقالية، وهي عقد مؤتمر وطني لصياغة دستورٍ توافقي، والتحضير للانتخابات، ... إلخ. وقد كان نصيبها فشلا مزدوجا، حيث إنها لم تلتفت إلى واجباتها الديمقراطية، وكلفت نفسها أموراً ليست من اختصاصها، وفشلت فيها.
وقد نفت "قوى الحرية والتغيير" (قحت) تسريباً من صحافي كان على صلة بقائد الدعم السريع بتورّطها في خطّة دبّرها قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) للإعلان، بعد قتل رئيس مجلس السيادة قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان أو اعتقاله، عن انقلابٍ باسم الجيش، وتعيين مجلس سيادة ووزارة من المدنيين الموالين له، وادّعاء أن انقلابه كان لاستعادة الديمقراطية. ولكن تصدّي الجيش أفشل الخطة، ودفع به إلى التحوّل إلى قتال الشوارع، وارتكاب ما ارتكبه من الفظائع. ولكن هذا لا يُخفي التواطؤ المستمر بالفشل في إدانة جرائم "الدعم السريع"، والإصرار على فرض المليشيا شريكاً في العملية السياسية، وهو أسوأ مما لو كانت تآمرت في الانقلاب. فعلى الأقل، دُبّر الانقلاب قبل انفضاح همجية المليشيا ولا أخلاقيتها. أما الاستمرار في دعمها سرّاً وعلانية بعد كل ما حدث فهو انتحار سياسي، يحمل معه وصمة التماهي أمام الرأي العام السوداني (والعالمي) مع ممارساتٍ لاإنسانية بلغت حدّ الإبادة.
إنّ فترة رئاسة عبدالله حمدوك الحكومة كانت أسوأ فترة من ناحية حرية التعبير، لأنه حتى حمدوك ووزراؤه كانوا يخافون من التصريح بما في نفوسهم
وكما أسلفنا، أحدثت هذه التطوّرات زلزالاً غيّر وجه الساحة السياسية. وسيدفع الغافلون فيه ثمناً سياسياً باهظاً، أقلّه خسارتهم أي دعوى بأنهم ممثلو الشعب، بعد أن تلبّستهم فضيحة المليشيا التي لم تتورّع عن أحط صنوف الإذلال للمواطنين. مع ذلك، تستوجب المسؤولية السياسية التعامل بحكمة حتى مع من ظلموا أنفسهم كل هذا الظلم، حتى لا تتكرّر أخطاء الماضي، فقد ارتكب النظام السابق خطأ كبيراً بالإقصاء القسري للخصوم السياسيين، وتورّطت القوى المنخرطة في الحكم الانتقالي في التوجهات الإقصائية نفسها، محوّلة الفترة وخطابها إلى ساحة "حرب" ضد خصوم حقيقيين ومتوّهمين، وخطاب الحروب والإقصاء لا يصنع الديمقراطية.
نشاهد الآن أيضاً ملامح خطاب حربٍ يسود الساحة، وهو مبرّر من ناحية المبدأ، فخطاب الحرب الذي ساد الفترة الانتقالية كان موجّهاً إلى خصم هزم واستسلم، وأخلى الساحة مؤقتاً، ولم تكن ملاحقته أولوية إلا بغرض الانتقام. أما حالياً فإن الشعب السوداني يدافع عن وطنه ومنازله، وعن شرفه وعرضه وماله ضد عدوٍ شرسٍ لم يقبل أن يوقف عدوانه لحظة واحدة، رغم الهدن. بل كان يستغلها للتمدّد في بيوت الناس، والاعتداء على الأبرياء. وعلى دعاة "لا للحرب"، إن كانوا صادقين، أن يقنعوا هؤلاء البرابرة بإيقاف هجماتهم على المدنيين والمدنيّة، فلا يمكن أن يعني وقف الحرب إجبار الأبرياء على التوقف عن الدفاع عن أنفسهم، في الوقت الذي تستمرّ فيه الانتهاكات وتتّسع. فإذا توقفت الحرب، فعندها لا بد أولاً من معاقبة مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب، خصوصا الإبادة والاغتصاب. ولا بد من إجبار من نهَب على إرجاع المال الحرام، أو التعويض عنه. وربما لا مفرّ من معاقبة من تواطأ من غير المتقاتلين، إذا ثبت ضلوعُهم في جريمة. ولكن من الأفضل من أجل المستقبل أن يُترك من ارتكبوا أخطاء سياسية ليدفعوا الثمن على الساحة السياسية، وبيد الناخبين.
نعلم، بالطبع، أن هناك غضبا جماهيريا كاسحا ضد من انفصلوا تماماً عن الشعب وصدمته وآلامه، وحتى عن أبسط مقوّمات الإنسانية، واستمرّوا في الدفاع والتبرير، أو التهوين من عدوانٍ أجنبي بربري، لم يرقب في الوطن وأهله إلاً ولا ذمّة. ونتفق مع الغالبية بأن المليشيا لا يمكن أن يكون لها وجود في أي بقعة من هذه الأرض التي طهّرتها دماء شرفائها، فصلاَ عن أن يكون لها دور سياسي، مهما صغر. ولكن من الحكمة الابتعاد عن الإدانة الجماعية والشيطنة لمن كانت لهم اجتهاداتٌ مخالفة.
المطلوب حكومة قومية من حكماء أهل البلاد، يمكن أن تكون مزيجاً من مدنيين وعسكريين سابقين أو حاليين، مشهود لهم بالاستقامة
بالطبع، ما يزال أمام من شيطنوا أنفسهم وأضاعوا كل صدقية بالكذب المفضوح لصالح البرابرة، وبالانحياز لكل جبّار عنيد من طغاة المنطقة، فرصة الإفاقة والخروج من المستنقع الآسن الذي أغرقوا فيه أنفسهم، والانحياز مجدّداً إلى الشعب في دفاعه عن إنسانيته وحضارته وكرامته. وقد يحتاج كثيرون منهم إلى أكثر مما فعله الراحل جمال زمقان، الذي اتّبع نصيحة موسى عليه السلام إلى قومه أن "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسهم"، ذلك أن عبادة "عجول" مليشيا الدعم السريع وحميرها قد لا تقلّ إثماً عن عبادة عجل بني إسرائيل، خصوصا أن عجل بني قوى الحرية والتغيير هو أيضاً فرعون، يقتل أبناء السودان ولا يستحيي نساءه.
مهما يكن، هناك اتفاق على أمرين اليوم، أنه لا عودة إلى تجربة الإنقاذ (النظام السابق) الفاشلة، ولا لتجربة "قحت" الأفشل. فلن يكون هناك شيك على بياض لفئةٍ تدّعي أنها تمثل الشعب، لتحكم الناس بأمر نفسها، بعد أن أعطيت الفرصة فأثبتت فشلها، كما لن يتاح لمرتكبي كبائر "الإنقاذ"، من أحمد هارون وأمثاله، مكان إلا في قفص الاتهام. والمطلوب الآن أن تشكّل حكومة قومية من حكماء أهل البلاد، ولا يشترط أن تكون "مدنيّة"، بل يمكن أن تكون مزيجاً من مدنيين وعسكريين سابقين أو حاليين، مشهود لهم بالاستقامة. وأن تتولى ما كان ينبغي أن تتولّاه حكومة حمدوك، وهو الاستعانة بالخبراء الوطنيين لوضع مسوّدة دستور للبلاد (ويمكن أن تكون البداية بدستور عام 2005 الذي أجمع عليه السودانيون، مع تعديلاتٍ مناسبة)، ووضع ترتيباتٍ لنظامٍ سياسيٍّ ديمقراطي لاإقصائي، والترتيب لنظامٍ انتخابيٍّ عادل ويحمل ضمانات للأقليات وللحريات. ويلي ذلك عقد مؤتمر وطني جامع يناقش المقترحات ويجيزها في صيغتها النهائية. وبهذا، تخرُج البلاد من عهد التيه والاحتراب إلى كلمةٍ سواء، يكون فيها كل مواطن آمناً في وطنه، مطمئناً على حقوقه التي لا يكون النسب أو القبيلة أو الديانة المعيار في نيلها، وإنما الجدّ وحسن البلاء في خدمة الوطن، فقد دفع السودانيون ثمناً كافياً لعهد الامتيازات الطفيلية لكل دعيٍّ يرى أنه أحقّ بالأمر، محتالاً لذلك بحسبٍ أو نسبٍ أو قداسة، أو حتى تمثيل "المهمّشين" الذين أصبحوا كذلك لأن مثله يدّعي الحديث باسمهم.
نقلا عن العربي الجديد
كان السودان ولا يزال واحة تحضّر مدني (civility) فريدة في عالمنا. يمكن لأي عابر سبيلٍ يمرّ بقريةٍ لا يعرف أهلها ولا يعرفونه، فيجد المأوى والضيافة والمأكل. لا يساءل عن هوية، ولا يُطالب بأوراق ثبوتية. يكفي أنه ضيف. وكنت قضيتُ سنواتي الأولى في قريةٍ نائيةٍ في شمال السودان، كان الطعام لا بد أن يُجهّز فيها كاملاً في البيت: يُعجن الخبز ويخبز، ويذبح للحم، ولو كان دجاجة. وكنتُ، في أحيان كثيرة، أستيقظ في هجعة الليل على جلبةٍ ونار توقد، فلا أستغرب. فهذا يعني أن ضيوفاً قد وصلوا ليلاً. تُرجمت هذه المدنيّة إلى علاقات احترام متبادَل بين الخصوم السياسيين، فلا يشكّ أيٌّ كان في أن يلقى البشاشة والترحاب، لو زار منزل أشرس خصومه السياسيين.
إلا أن المدنيّة السياسية الحديثة قيمةٌ تُضاف إلى هذه الفطرة، وإنْ تستند إليها. وقد أرّخ يورغن هابرماس لهذه المدنيّة الناجمة بنشأة ما سمّاه الفضاء العام الرأسمالي، متمثلاً في ظهور المقاهي والمنتديات، حيث يلتقي الغرباء ويتبادلون الرأي في الشأن العام. وقد تعزّزت هذه الساحة مع تطوّر الإعلام الحديث الذي فتح ساحة النقاش بسعة المدينة أو القطر، وحالياً العالم.
ويشتمل تعريف المدنية (والمجتمع المدني) على نشأتها في كنف الدولة، فلا قوام للمجتمع المدني (وحتى المجتمع السياسي إن أردنا) بدون دولةٍ تخلق وتحمي فضاءه بحصرها العنف خارجه، في يد الجهات المخوّلة لذلك والمنضبطة بالقانون. وتُتاح كذلك آليات لحسم النزاع سلمياً عبر المحاكم وغيرها. ويصبح احتكار شرعية العنف للدولة وحدها الضمانة للنشاط المدني. بمعنى آخر، وجود الدولة شرط المدنيّة، ووجود الجيش شرط الدولة.
لا قوام للمجتمع المدني (وحتى المجتمع السياسي إن أردنا) بدون دولةٍ تخلق وتحمي فضاءه بحصرها العنف خارجه
وقد كان اكتشاف السودانيين هذه الحقيقة مؤلماً بعد أن دهمتهم قوة غاشمة حرمتهم الأمن في بيوتهم وطرقاتهم، واعتدت عليهم وسلبتهم كل عزيزٍ لديهم، ولم يجدوا سوى الجيش جهةً تدافع عنهم. أما حلفاء المليشيا من الساسة "المدنيين" (وكثير منهم قادة مليشيات بدورهم) فلم يستطيعوا مجرّد استعطاف المليشيا لوقف فظائعها، فضلاً عن إدانة جرائمها. بل إن القوم أنفسهم كانوا أول الفارّين بجلودهم وأسرهم وما ملكت أيديهم، حيث لم يكونوا يثقون في سلامتهم في حماية مليشيا دعم الديمقراطية بزعمهم. وهذا اعترافٌ بأنهم على الأقل لم يخدعوا أنفسهم وهم يخادعون الشعب، فالمليشيا لم توفر منازل "أصدقائها" والمدافعين عنها، ولا من هم أحقّ بالحماية. وقد اطلعت وأنا أكتب هذه السطور على خبر عن قتل المليشيا شخصا مريضا عقلياً بتهمة أنه من "الاستخبارات". ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يحدُث فيها هذا الأمر.
وكنتُ أعلق كلما سمعت مناداة بعضهم بتفكيك الجيش الوطني بأن المنادين بذلك سيكونون أول من يفتقده، فالنشاط المدني من تظاهر واحتجاج وغيره مستحيلٌ في غياب دولةٍ تؤمّن المتظاهر، حتى وهي تفرّق تظاهرته، وتعتقله، ... إلخ. فهو، في النهاية، يطلق سراحه أو يُحال إلى القضاء. ولكن لا يفكّر عاقل حالياً في ترتيب أي نشاط مدني، مهما كان هامشياً، إلا في الأماكن التي ما تزال تحت سيطرة الجيش الكاملة. ولن تكون الأمور أفضل في مملكة آل دقلو إن سمح للمليشيا وأصدقائها بإقامتها.
ولقد دفع السودانيون ثمناً غالياً لحرّيتهم ونضالهم من أجل الديمقراطية والحكم الراشد الخاضع للقانون وإرادة الشعب. ولكن الشعب خُذل أكثر من مرّة في الفترة الانتقالية التي بدأت بصفقة لاأخلاقية بين تحالف حزبي مضطرب وتحالف الدعم السريع/ اللجنة الأمنية الذي أشرف على فضّ الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة (يونيو/ حزيران 2019). ولم تتحرّك الحكومة الانتقالية خطوة واحدة نحو التأسيس للديمقراطية، عبر توسيع الحرّيات، خصوصا حرّية التعبير والتنظيم. وأكاد أجزم أن فترة رئاسة عبدالله حمدوك الحكومة كانت أسوأ فترة من ناحية حرية التعبير، لأنه حتى حمدوك ووزراؤه كانوا يخافون من التصريح بما في نفوسهم، حتى لا يتهمهم الغوغاء بأنهم "كيزان" (إسلاميون). لم تفكّر الحكومة في مجرّد إنشاء مفوّضية انتخابات، أو سنّ قانون انتخابي، ... إلخ. بل بالعكس، ضاعت معظم الفترة في جهودٍ شملت إغلاق صحف ومحطات تلفزة، وتدمير مؤسّسات اقتصادية وإنسانية وتعليمية ومدنية. وقد توقفت معظم الجامعات الحكومية عن العمل في تلك الفترة. وأسوأ من ذلك كله، تمت شرعنة مليشيا الدعم السريع، التي عُيّن قائدها نائباً لرئيس البلاد، ورئيساً للجنة الاقتصادية، وزاد عدد منسوبيها من ثلاثين ألفاً عند سقوط عمر البشير، إلى مائة وعشرين ألفاً عشية محاولتها الرعناء للانقضاض على السلطة في أبريل/ نيسان الماضي. سمح للمليشيا بالاستيلاء على مناجم ذهب، وفرض الإتاوات، وإنشاء شركات نهبٍ خارج رقابة الدولة، وتمّت الاستجابة لمطالبها بفصل مئاتٍ من ضباط الجيش، وحلّ بعض المؤسّسات العسكرية، وتمليكها معسكرات ومقارّ عسكرية ومدنية في كل أنحاء العاصمة، وتكليفها حماية مقارّ رسمية مثل القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون، إلخ.
دفع السودانيون ثمناً غالياً لحرّيتهم ونضالهم من أجل الديمقراطية والحكم الراشد الخاضع للقانون وإرادة الشعب
وكنا قد حذّرنا مراراً من خطل هذه السياسات الخرقاء وخطرها، وانشغال القيادات بالتناحر الحزبي وهوس الإقصاء عن أي جهدٍ بنّاء، وأنها ستعمّق عسكرة الدولة، وتهدر فرصة نادرة لبناء دولة ديمقراطية معافاة. فلم تحظ حكومة سودانية من قبل بمثل هذا الإجماع الوطني، والدعم الخارجي. ولا يعود ذلك إلى الافتتان بأحزاب التحالف، ولا بأشخاص وزرائها وممثليها، ومعظمهم من الهواة خفيفي الوزن، ولكن بنيّة لإعطاء الديمقراطية فرصة كانت هناك، وحماس لدعمها. حتى قيادات النظام السابق استسلمت، وأعلنت أنها لا تريد المشاركة في الفترة الانتقالية، وستنتظر الانتخابات.
ولكن كل هذه الثقة والنيات الحسنة بدّدت عبر الفشل الذريع في المهام التي كلفت الحكومة الانتقالية بها نفسها (وهي الانخراط في مشاريع ثقافية - سياسية مثيرة للجدل، وتقديم وعودٍ غير قابلة للتحقيق حول معالجة الاقتصاد، والانشغال بصراعاتٍ داخلية ومساع فاشلة لإعادة صياغة الساحة السياسية بصورة غير ديمقراطية)، على حساب المهامّ الأساس لأي حكومةٍ انتقالية، وهي عقد مؤتمر وطني لصياغة دستورٍ توافقي، والتحضير للانتخابات، ... إلخ. وقد كان نصيبها فشلا مزدوجا، حيث إنها لم تلتفت إلى واجباتها الديمقراطية، وكلفت نفسها أموراً ليست من اختصاصها، وفشلت فيها.
وقد نفت "قوى الحرية والتغيير" (قحت) تسريباً من صحافي كان على صلة بقائد الدعم السريع بتورّطها في خطّة دبّرها قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) للإعلان، بعد قتل رئيس مجلس السيادة قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان أو اعتقاله، عن انقلابٍ باسم الجيش، وتعيين مجلس سيادة ووزارة من المدنيين الموالين له، وادّعاء أن انقلابه كان لاستعادة الديمقراطية. ولكن تصدّي الجيش أفشل الخطة، ودفع به إلى التحوّل إلى قتال الشوارع، وارتكاب ما ارتكبه من الفظائع. ولكن هذا لا يُخفي التواطؤ المستمر بالفشل في إدانة جرائم "الدعم السريع"، والإصرار على فرض المليشيا شريكاً في العملية السياسية، وهو أسوأ مما لو كانت تآمرت في الانقلاب. فعلى الأقل، دُبّر الانقلاب قبل انفضاح همجية المليشيا ولا أخلاقيتها. أما الاستمرار في دعمها سرّاً وعلانية بعد كل ما حدث فهو انتحار سياسي، يحمل معه وصمة التماهي أمام الرأي العام السوداني (والعالمي) مع ممارساتٍ لاإنسانية بلغت حدّ الإبادة.
إنّ فترة رئاسة عبدالله حمدوك الحكومة كانت أسوأ فترة من ناحية حرية التعبير، لأنه حتى حمدوك ووزراؤه كانوا يخافون من التصريح بما في نفوسهم
وكما أسلفنا، أحدثت هذه التطوّرات زلزالاً غيّر وجه الساحة السياسية. وسيدفع الغافلون فيه ثمناً سياسياً باهظاً، أقلّه خسارتهم أي دعوى بأنهم ممثلو الشعب، بعد أن تلبّستهم فضيحة المليشيا التي لم تتورّع عن أحط صنوف الإذلال للمواطنين. مع ذلك، تستوجب المسؤولية السياسية التعامل بحكمة حتى مع من ظلموا أنفسهم كل هذا الظلم، حتى لا تتكرّر أخطاء الماضي، فقد ارتكب النظام السابق خطأ كبيراً بالإقصاء القسري للخصوم السياسيين، وتورّطت القوى المنخرطة في الحكم الانتقالي في التوجهات الإقصائية نفسها، محوّلة الفترة وخطابها إلى ساحة "حرب" ضد خصوم حقيقيين ومتوّهمين، وخطاب الحروب والإقصاء لا يصنع الديمقراطية.
نشاهد الآن أيضاً ملامح خطاب حربٍ يسود الساحة، وهو مبرّر من ناحية المبدأ، فخطاب الحرب الذي ساد الفترة الانتقالية كان موجّهاً إلى خصم هزم واستسلم، وأخلى الساحة مؤقتاً، ولم تكن ملاحقته أولوية إلا بغرض الانتقام. أما حالياً فإن الشعب السوداني يدافع عن وطنه ومنازله، وعن شرفه وعرضه وماله ضد عدوٍ شرسٍ لم يقبل أن يوقف عدوانه لحظة واحدة، رغم الهدن. بل كان يستغلها للتمدّد في بيوت الناس، والاعتداء على الأبرياء. وعلى دعاة "لا للحرب"، إن كانوا صادقين، أن يقنعوا هؤلاء البرابرة بإيقاف هجماتهم على المدنيين والمدنيّة، فلا يمكن أن يعني وقف الحرب إجبار الأبرياء على التوقف عن الدفاع عن أنفسهم، في الوقت الذي تستمرّ فيه الانتهاكات وتتّسع. فإذا توقفت الحرب، فعندها لا بد أولاً من معاقبة مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب، خصوصا الإبادة والاغتصاب. ولا بد من إجبار من نهَب على إرجاع المال الحرام، أو التعويض عنه. وربما لا مفرّ من معاقبة من تواطأ من غير المتقاتلين، إذا ثبت ضلوعُهم في جريمة. ولكن من الأفضل من أجل المستقبل أن يُترك من ارتكبوا أخطاء سياسية ليدفعوا الثمن على الساحة السياسية، وبيد الناخبين.
نعلم، بالطبع، أن هناك غضبا جماهيريا كاسحا ضد من انفصلوا تماماً عن الشعب وصدمته وآلامه، وحتى عن أبسط مقوّمات الإنسانية، واستمرّوا في الدفاع والتبرير، أو التهوين من عدوانٍ أجنبي بربري، لم يرقب في الوطن وأهله إلاً ولا ذمّة. ونتفق مع الغالبية بأن المليشيا لا يمكن أن يكون لها وجود في أي بقعة من هذه الأرض التي طهّرتها دماء شرفائها، فصلاَ عن أن يكون لها دور سياسي، مهما صغر. ولكن من الحكمة الابتعاد عن الإدانة الجماعية والشيطنة لمن كانت لهم اجتهاداتٌ مخالفة.
المطلوب حكومة قومية من حكماء أهل البلاد، يمكن أن تكون مزيجاً من مدنيين وعسكريين سابقين أو حاليين، مشهود لهم بالاستقامة
بالطبع، ما يزال أمام من شيطنوا أنفسهم وأضاعوا كل صدقية بالكذب المفضوح لصالح البرابرة، وبالانحياز لكل جبّار عنيد من طغاة المنطقة، فرصة الإفاقة والخروج من المستنقع الآسن الذي أغرقوا فيه أنفسهم، والانحياز مجدّداً إلى الشعب في دفاعه عن إنسانيته وحضارته وكرامته. وقد يحتاج كثيرون منهم إلى أكثر مما فعله الراحل جمال زمقان، الذي اتّبع نصيحة موسى عليه السلام إلى قومه أن "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسهم"، ذلك أن عبادة "عجول" مليشيا الدعم السريع وحميرها قد لا تقلّ إثماً عن عبادة عجل بني إسرائيل، خصوصا أن عجل بني قوى الحرية والتغيير هو أيضاً فرعون، يقتل أبناء السودان ولا يستحيي نساءه.
مهما يكن، هناك اتفاق على أمرين اليوم، أنه لا عودة إلى تجربة الإنقاذ (النظام السابق) الفاشلة، ولا لتجربة "قحت" الأفشل. فلن يكون هناك شيك على بياض لفئةٍ تدّعي أنها تمثل الشعب، لتحكم الناس بأمر نفسها، بعد أن أعطيت الفرصة فأثبتت فشلها، كما لن يتاح لمرتكبي كبائر "الإنقاذ"، من أحمد هارون وأمثاله، مكان إلا في قفص الاتهام. والمطلوب الآن أن تشكّل حكومة قومية من حكماء أهل البلاد، ولا يشترط أن تكون "مدنيّة"، بل يمكن أن تكون مزيجاً من مدنيين وعسكريين سابقين أو حاليين، مشهود لهم بالاستقامة. وأن تتولى ما كان ينبغي أن تتولّاه حكومة حمدوك، وهو الاستعانة بالخبراء الوطنيين لوضع مسوّدة دستور للبلاد (ويمكن أن تكون البداية بدستور عام 2005 الذي أجمع عليه السودانيون، مع تعديلاتٍ مناسبة)، ووضع ترتيباتٍ لنظامٍ سياسيٍّ ديمقراطي لاإقصائي، والترتيب لنظامٍ انتخابيٍّ عادل ويحمل ضمانات للأقليات وللحريات. ويلي ذلك عقد مؤتمر وطني جامع يناقش المقترحات ويجيزها في صيغتها النهائية. وبهذا، تخرُج البلاد من عهد التيه والاحتراب إلى كلمةٍ سواء، يكون فيها كل مواطن آمناً في وطنه، مطمئناً على حقوقه التي لا يكون النسب أو القبيلة أو الديانة المعيار في نيلها، وإنما الجدّ وحسن البلاء في خدمة الوطن، فقد دفع السودانيون ثمناً كافياً لعهد الامتيازات الطفيلية لكل دعيٍّ يرى أنه أحقّ بالأمر، محتالاً لذلك بحسبٍ أو نسبٍ أو قداسة، أو حتى تمثيل "المهمّشين" الذين أصبحوا كذلك لأن مثله يدّعي الحديث باسمهم.
نقلا عن العربي الجديد