ثورة الجنجويد
كوكو موسى
18 December, 2023
18 December, 2023
الحرب المدمرة التي تدور رحاها منذ الخامس عشر من أبريل الماضي وحتى الآن والتي تبدو في ظاهرها حرباً بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ويتم وصفها بالعبثية لأنها ظاهرياً أيضاً تدور بين مجموعة من اللصوص القتلة الذين إختلفوا حول قسمة المسروقات، هي في الحقيقة ليست حرب عبثية بين لصوص ولا هي حرب بين مؤسستين عسكريتين للدولة حول السلطة، بل هي حرب ضاربة بجذورها في عمق الأزمة السودانية وقد تكتب نهاية هذا الفصل من تاريخ السودان. ولكن ما يهمنا هنا هو وضعية الدعم السريع في هذا الصراع وردود فعل الآخرين تجاهه بما أنه - شئنا أم أبينا - هو الفاعل الرئيس في الساحة الآن. ولكي نسلط الضوء قليلاً على الطرف الآخر للصراع وهو القوات المسلحة السودانية، فإننا نعرف بجميع مشاربنا بأنها الجيش الحكومي الرسمي الذي يأتمر بأمر النخبة الحاكمة في السودان سواء أكانت مدنية أو عسكرية وهي ما نسميه بالمركز، وهو يخوض حروب لا منتهية مع كل من يختلف مع وجهة نظر المركز ونخبته حول السلطة والثروة وماهية السودان نفسه. ونعرف كذلك بأن هذه النخبة سيطرت على السودان طوال سنين إستقلاله من الحكم الإستعماري بالإعتماد على القوة العارية لهذا الجيش، وإستخدمته لتصفية الحسابات بينها هي نفسها. ومن المعروف كذلك بأن النخبة المذكورة وقيادة هذا الجيش نفسه بما فيه غالبية القيادات الوسيطة والصغرى تنتمي لإثنية محددة مشهورة تاريخياً بالسيطرة على مقاليد الأمور في البلاد سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وتقوم بتوجيه هذا الجيش لشن حروب بلا هوادة ضد كل من ينازعها على هذه السيطرة التاريخية. لقد كانت النتيجة التي لايمكن أن يماري فيها أحد، بأن قام هذا الجيش بشن حرب على كل الإثنيات السودانية الأخرى التي لم تجد حظاً من الثروة والسلطة بالتتابع وبطريقة منظمة وكأنه يؤدي صلاة ما لمعبود لا يتنزه في علاه، وهذا المعبود ليس سوى المركز. وبالتالي لقد قاتل الجيش السوداني كل السودانيين (الجنوبيين، النوبة، الأنقسنا، الفور، الزغاوة، البجا، الرشايدة، البقارة، .. إلخ.) ما عدا الإثنية الحاكمة. وبالطبع قد قوبل كل ذلك بمقاومة تاريخية معروفة من قبل الإثنيات الأخرى في ما يعرف بثورة الهامش السوداني والتي كان من تداعياتها إنفصال الجنوب وخروج أجزاء كبيرة من البلاد عن سيطرة الحكومة السودانية لصالح ثوار الهامش. لكن لأول مرة تثير إحدى حروب الجيش السوداني ضد مواطنيه لغطاً كثيفاً غير مسبوق وتكون سبباً لتصدع الآراء والإستقطاب الحاد حتى بين أصدقاء وحلفاء الأمس القريب، بل والزملاء في التنظيم الواحد، والسبب أن العدو هذه المرة - رغم أنه ينتمي للهامش - كان حليفاً تاريخياً قوياً للمركز حتى الأمس القريب أيضاً وقد إستخدمه المركز للتنكيل بأعدائه في الهامش أيما تنكيل، وقد كان تاريخياً من الأسباب الرئيسية في عدم تحقيق الهامش لأهدافه المشروعة وكان عقبة كؤود في وجه الهامش الذي ينتمي إليه بينما يعمل ضده في نفس الوقت بسبب التناقضات الموضوعية بينه وبين المهمشين الآخرين وإستغلال النخبة الحاكمة لهذه التناقضات بكفائة مشهودة رغم أن كل من يجيد الحساب البسيط أو حتى قرأ القليل من التاريخ كان يرى بوضوح النهاية الحتمية لهذا الإستغلال. إن النتيجة الحتمية والتي يتهرب الكثيرين من الإعتراف بها كانت هي الثورة على المركز. ولهذا فإن ما يقوم به الدعم السريع هو ثورة كاملة على المركز لاتقل عن أي ثورة للهامش ضد المركز منذ إستقلال السودان وحتى الآن.
أولاً دعونا نحلل الدعم السريع إلى عوامله الأولية لكي لا يكون هناك لبس عن من قام بالثورة ضد من. إن الدعم السريع لا يعدو كونه إسم الدلع للجنجويد، وأعتقد أن الجميع يعرف من هم الجنجويد أو مليشيا الجنجويد سيئة الصيت، ولا أظن بأن هناك مساحة هنا للإسترسال في من هم الجنجويد، ولمن لم يسمع بهم من قبل فإن القليل من البحث في قوقل سيوفر علينا العناء والمساحة للتعريف بهم هنا. ولكن علينا تسليط الضوء على أن الدعم السريع هو تطوير لمؤسسة الجنجويد الضاربة بجذورها وسط العرب الرحل للهامش والتي لم تكن تحظى بقبول وتأييد جميع العرب الرحل لطبيعتها الإجرامية المشهودة، ولكن بعد تحولها إلى الدعم السريع رغم إحتفاظه بالكثير من خصائص مليشيا الجنجويد الإجرامية، فقد كان هذا على الأقل غطاءاً تم قبوله بالتدريج وأحياناً بالعنف لغالبية العرب الرحل بحيث أصبح القوة المسلحة الرسمية لهؤلاء الرحل والتي تقوم بحماية مصالحهم ضد غرمائهم في الهامش والوعاء الذي يقومون فيه بالعمل بالوكالة للمركز ضد نفس الغرماء. وبالتالي فإن الدعم السريع أصبح هو الآن في الواقع الممثل والذراع العسكري للعرب الرحل (بقارة، وأبالة) في صراعهم داخل الساحة السودانية، رغم إستماتة آلته الإعلامية في نفي هذه الصبغة عنهم بغرض إستمالة حلفاء من المركز نفسه ومن الهامش الغير عربي، وهو بالطبع أمر مفهوم.
منذ البداية وقبل سنين من إندلاع هذه الحرب كانت بوادر التمرد بائنة على الدعم السريع وكان يلوح خلفها ململة العرب الرحل وإنتظارهم بفارغ الصبر للحظة الصفر، بغض النظر عن من أشعل الحرب أولاً. إن كل من إحتك بعناصر الدعم السريع منذ أواخر عهد البشير كان يعرف بأن هذه اللحظة قادمة لا محالة. إن السخط تجاه المركز ونخبته ومؤسساته بما فيها القوات المسلحة كان يتم التعبير عنه بوضوح وصفاقة حتى من قائد الدعم السريع نفسه دون المراعاة للبروتوكولات والتقاليد القديمة. لقد كان واضحاً أن سخط العرب الرحل كان لايقل، وفي الحقيقة قد يزيد، عن سخط الجنوبيين سابقاً والنوبة حالياً تجاه المركز. لقد كان هذا السخط ينذر بكارثة لا تحمد عقباها، أرى أنا شخصياً أنه بمعجزة ما فإن هذه الكارثة لم تحدث، لقد كان مذهلاً أن الدعم السريع، رغم تصفيته لحساباته في الجنينة مثلاً، لم يرتكب الإبادة الجماعية ضد الإثنية المهيمنة على المركز عند سيطرتهم على الخرطوم وأجزاء واسعة من وسط السودان وتوغلهم شمالاً أحياناً إلى معقل هذه الإثنية التاريخي بطريقة إستعراضية ترسل رسالة معينة في هذا الإتجاه. وقد يكون التفسير والتحليل الأقرب لهذه الظاهرة هو ثورة ديسمبر وتأثيرها على الدعم السريع وقادته وتعديلها لأجندتهم وتهذيبها لطرق وصولهم لطموحاتهم، وقد كان هذا واضحاً حتى قبل إندلاع الحرب في نسخة قوات الدعم السريع التي كانت ترابط في الخرطوم إبان ثورة ديسمبر والفترة التي تليها، لقد كنا نعلق في المجالس الخاصة بأن هذه النسخة لا علاقة لها بالدعم السريع الذي نعرفه في الهامش وبأن هذه القوة قد تم تنويرها بكثافة حتى لا تتسبب بكارثة سياسية وإجتماعية لقادتها تحرجهم أمام حلفائهم الجدد وتجهض طموحاتهم.
رغم رفض الكثير من المثقفين في المركز والهامش الإعتراف بأن ما يقوم به العرب الرحل من بوابة الدعم السريع هو ثورة كاملة الدسم ضد المركز، إلا أنها كذلك. إذا إستلهمنا إضاءات فرانتز فانون عن الثورة خصوصاً في العالم الثالث فإن الثورة ليس من الضروري أن يحضر لها ويشعلها المثقفون الثورييون والذين في الغالب تكون ثقافتهم أجنبية ووسائلهم غير مناسبة للمجتمعات المحلية، ولكن عندما تثور هذه المجتمعات فعليهم أن ينخرطوا في هذه الثورة والتعلم منها ومن جماهيرها وليس العكس. وليس على الثوري أن يتخرج من مدرسة كادر ليكون ثورياً، كما أن الثورة الحقيقية في مجتمعاتنا كعالم ثالث قوامها طبقة ما دون العمال Lumpenproletariat والفلاحين والرعاة. كما أنه للأسف فإننا نشتم رائحة العنصرية والتحيز الثقافي بائنة في رفض ثورة العرب الرحل على المركز من قبل مثقفي المركز والهامش معاً، وللمفارقة التاريخية فلقد تم وضعهم في نفس خانة الجنوبيين سابقاً ويمارس عليهم نفس الخطاب العنصري بحزافيره، وقد إنجر خلفه للدهشة نفر كبير من مثقفي الهامش، إن المثقف رغم تحيزاته العرقية والإثنية والثقافية فإن تجرده في تحليل الظواهر بعيداً عن هذه التحيزات هو ما يجعل منه مثقف. في هذا السياق فلقد قرأت مؤخراً مقالاً في وسائل التواصل الإجتماعي ينتقد المفكر الأستاذ د. محمد جلال هاشم بقسوة لآرائه المعلنة عن هذه الحرب والتي يفهم منها تحيزه للجيش الحكومي والدولة، والتعليقات الأكثر قسوة على شخصه وآرائه، ولم أجد ما أختم به أفضل من إيراد تعليقي الشخصي على المقال في الفيس بوك، وقمت بإقتباس هذا التعليق حرفياً في الأسطر التالية: (للأسف عندما بدأت الكتلة التاريخية الحرجة التي بشر بها الدكتور جلال هاشم والدكتور أبكر آدم إسماعيل تتبلور من بوابة لم يتوقعها أحد، وهي عرب الهامش الرحل، كان تجرع هذه الحقيقة والنزول إلى الواقع الغير رومانسي مراً على الجميع، خصوصاً لنخب وجمهور الهامش الأسود والغير عربي، الأمر الذي أفشل فرصة للتغيير الجذري الحقيقي لن تتكرر قريباً إذا لم يتم تدارك الأمر، الذي أصبح تداركه يصعب شيئاً فشيئاً خصوصاً مع الأخطاء المذهلة التي وقعت فيها نخبة وقواعد العرب البدو الرحل للهامش متمثلة في الدعم السريع وقياداته ومستشاريه، والأخطاء التي لاتقل عنها والتي وقعت فيها قيادات ونخب الحركات المسلحة للهامش الأسود، وهذه الأخطاء المذهلة كانت تغذي بعضها بعضا من قبل العرب والزرقة وقد تؤدي إلى وضع مشوه لن يرضي المهمشين ولا المركز! لقد كان التصور الرومانسي لنموذج شرق أفريقيا الذي بشر به الدكتور جلال هاشم سبباً مباشراً لحالة الإنكار التي وقع فيها معظم الراديكاليين (مناصري التغيير الجذري الحقيقي) ولقد كان هذا التصور يفضي إلى أن حركات الهامش المسلحة عالية التسييس والتشبع بالفكر اليساري الثوري الحديث بالتحالف مع الثوريين اليساريين الراديكاليين من جميع أنحاء السودان بغض النظر عن إنتمائهم الإثني سوف يقومون بإجتياح المركز الظالم في جميع أنحاء السودان (وقد وضحنا في مقالاتنا من قبل بأن المركز ليس الخرطوم فقط) وإنهاء هذا المركز مكانياً وثقافياً إلى غير رجعة. ولم يكن من المتصور بأن العرب البدو الرحل الهمج الرعاع والذين لا مكان للسياسة والثقافة والوعي الثوري في رؤوسهم وأداة المركز الأولى في قهر المهمشين الآخرين ومؤخراً معارضي المركز نفسه، سوف يكون لهم دور أساسي في إنهاء هذا المركز. وكان المطلوب تضافر جميع الجهود وتوجيه هذا الدور للعرب الرحل ليفضى إلى التغيير المنشود من جميع متضرري السودان القديم، وهو مالم يحدث، وتشرزم جميع المهمشين كالعادة وقاموا بمجاراة المركز في لعبته التقليدية مرة أخرى بكل سهولة و قاموا فقط بقلب الأدوار، حيث وقف الزرقة هذه المرة مع المركز (رغم تقديرنا للظروف العاجلة التي دعتهم لذلك) وإصطفوا كتفاً بكتف مع نفس الجيش الحكومي الذي هو رأس مآسيهم كلها، بينما وقف الدعم السريع مكان الحركات المسلحة ضد هذا الجيش، وهي مفارقة تاريخية لم يكن ليتصورها أقصى مجنون في السياسة السودانية من قبل، وسببها المباشر عدم مقدرة الهامش على لملمة أطرافه والمقدرة التاريخية للمركز على اللعب بتناقضات الهامش، وعدم مقدرة نخب الهامش على الفكاك من هذه المصيدة. لقد كان التاريخ دوماً يقول بأن التغيير الثوري الحاسم والنهائي يأتي من الرعاع والبدو وطبقة ما دون البوليتاريا، وهذه حقيقة تاريخية معروفة، ولكن كما قال العلامة ودكتورنا الجليل محمد جلال هاشم نفسه بأن نخبنا وصفوتنا لا تقرأ، ولكن دكتورنا الجليل قرأ ونكر للأسف بعد أن إستحوزت عليه الحالة الرومانسية، والتاريخ وديناميكية التغيير لا علاقة لها بالرومانسية من قريب أو بعيد.) إنتهى الإقتباس.
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com
//////////////////
أولاً دعونا نحلل الدعم السريع إلى عوامله الأولية لكي لا يكون هناك لبس عن من قام بالثورة ضد من. إن الدعم السريع لا يعدو كونه إسم الدلع للجنجويد، وأعتقد أن الجميع يعرف من هم الجنجويد أو مليشيا الجنجويد سيئة الصيت، ولا أظن بأن هناك مساحة هنا للإسترسال في من هم الجنجويد، ولمن لم يسمع بهم من قبل فإن القليل من البحث في قوقل سيوفر علينا العناء والمساحة للتعريف بهم هنا. ولكن علينا تسليط الضوء على أن الدعم السريع هو تطوير لمؤسسة الجنجويد الضاربة بجذورها وسط العرب الرحل للهامش والتي لم تكن تحظى بقبول وتأييد جميع العرب الرحل لطبيعتها الإجرامية المشهودة، ولكن بعد تحولها إلى الدعم السريع رغم إحتفاظه بالكثير من خصائص مليشيا الجنجويد الإجرامية، فقد كان هذا على الأقل غطاءاً تم قبوله بالتدريج وأحياناً بالعنف لغالبية العرب الرحل بحيث أصبح القوة المسلحة الرسمية لهؤلاء الرحل والتي تقوم بحماية مصالحهم ضد غرمائهم في الهامش والوعاء الذي يقومون فيه بالعمل بالوكالة للمركز ضد نفس الغرماء. وبالتالي فإن الدعم السريع أصبح هو الآن في الواقع الممثل والذراع العسكري للعرب الرحل (بقارة، وأبالة) في صراعهم داخل الساحة السودانية، رغم إستماتة آلته الإعلامية في نفي هذه الصبغة عنهم بغرض إستمالة حلفاء من المركز نفسه ومن الهامش الغير عربي، وهو بالطبع أمر مفهوم.
منذ البداية وقبل سنين من إندلاع هذه الحرب كانت بوادر التمرد بائنة على الدعم السريع وكان يلوح خلفها ململة العرب الرحل وإنتظارهم بفارغ الصبر للحظة الصفر، بغض النظر عن من أشعل الحرب أولاً. إن كل من إحتك بعناصر الدعم السريع منذ أواخر عهد البشير كان يعرف بأن هذه اللحظة قادمة لا محالة. إن السخط تجاه المركز ونخبته ومؤسساته بما فيها القوات المسلحة كان يتم التعبير عنه بوضوح وصفاقة حتى من قائد الدعم السريع نفسه دون المراعاة للبروتوكولات والتقاليد القديمة. لقد كان واضحاً أن سخط العرب الرحل كان لايقل، وفي الحقيقة قد يزيد، عن سخط الجنوبيين سابقاً والنوبة حالياً تجاه المركز. لقد كان هذا السخط ينذر بكارثة لا تحمد عقباها، أرى أنا شخصياً أنه بمعجزة ما فإن هذه الكارثة لم تحدث، لقد كان مذهلاً أن الدعم السريع، رغم تصفيته لحساباته في الجنينة مثلاً، لم يرتكب الإبادة الجماعية ضد الإثنية المهيمنة على المركز عند سيطرتهم على الخرطوم وأجزاء واسعة من وسط السودان وتوغلهم شمالاً أحياناً إلى معقل هذه الإثنية التاريخي بطريقة إستعراضية ترسل رسالة معينة في هذا الإتجاه. وقد يكون التفسير والتحليل الأقرب لهذه الظاهرة هو ثورة ديسمبر وتأثيرها على الدعم السريع وقادته وتعديلها لأجندتهم وتهذيبها لطرق وصولهم لطموحاتهم، وقد كان هذا واضحاً حتى قبل إندلاع الحرب في نسخة قوات الدعم السريع التي كانت ترابط في الخرطوم إبان ثورة ديسمبر والفترة التي تليها، لقد كنا نعلق في المجالس الخاصة بأن هذه النسخة لا علاقة لها بالدعم السريع الذي نعرفه في الهامش وبأن هذه القوة قد تم تنويرها بكثافة حتى لا تتسبب بكارثة سياسية وإجتماعية لقادتها تحرجهم أمام حلفائهم الجدد وتجهض طموحاتهم.
رغم رفض الكثير من المثقفين في المركز والهامش الإعتراف بأن ما يقوم به العرب الرحل من بوابة الدعم السريع هو ثورة كاملة الدسم ضد المركز، إلا أنها كذلك. إذا إستلهمنا إضاءات فرانتز فانون عن الثورة خصوصاً في العالم الثالث فإن الثورة ليس من الضروري أن يحضر لها ويشعلها المثقفون الثورييون والذين في الغالب تكون ثقافتهم أجنبية ووسائلهم غير مناسبة للمجتمعات المحلية، ولكن عندما تثور هذه المجتمعات فعليهم أن ينخرطوا في هذه الثورة والتعلم منها ومن جماهيرها وليس العكس. وليس على الثوري أن يتخرج من مدرسة كادر ليكون ثورياً، كما أن الثورة الحقيقية في مجتمعاتنا كعالم ثالث قوامها طبقة ما دون العمال Lumpenproletariat والفلاحين والرعاة. كما أنه للأسف فإننا نشتم رائحة العنصرية والتحيز الثقافي بائنة في رفض ثورة العرب الرحل على المركز من قبل مثقفي المركز والهامش معاً، وللمفارقة التاريخية فلقد تم وضعهم في نفس خانة الجنوبيين سابقاً ويمارس عليهم نفس الخطاب العنصري بحزافيره، وقد إنجر خلفه للدهشة نفر كبير من مثقفي الهامش، إن المثقف رغم تحيزاته العرقية والإثنية والثقافية فإن تجرده في تحليل الظواهر بعيداً عن هذه التحيزات هو ما يجعل منه مثقف. في هذا السياق فلقد قرأت مؤخراً مقالاً في وسائل التواصل الإجتماعي ينتقد المفكر الأستاذ د. محمد جلال هاشم بقسوة لآرائه المعلنة عن هذه الحرب والتي يفهم منها تحيزه للجيش الحكومي والدولة، والتعليقات الأكثر قسوة على شخصه وآرائه، ولم أجد ما أختم به أفضل من إيراد تعليقي الشخصي على المقال في الفيس بوك، وقمت بإقتباس هذا التعليق حرفياً في الأسطر التالية: (للأسف عندما بدأت الكتلة التاريخية الحرجة التي بشر بها الدكتور جلال هاشم والدكتور أبكر آدم إسماعيل تتبلور من بوابة لم يتوقعها أحد، وهي عرب الهامش الرحل، كان تجرع هذه الحقيقة والنزول إلى الواقع الغير رومانسي مراً على الجميع، خصوصاً لنخب وجمهور الهامش الأسود والغير عربي، الأمر الذي أفشل فرصة للتغيير الجذري الحقيقي لن تتكرر قريباً إذا لم يتم تدارك الأمر، الذي أصبح تداركه يصعب شيئاً فشيئاً خصوصاً مع الأخطاء المذهلة التي وقعت فيها نخبة وقواعد العرب البدو الرحل للهامش متمثلة في الدعم السريع وقياداته ومستشاريه، والأخطاء التي لاتقل عنها والتي وقعت فيها قيادات ونخب الحركات المسلحة للهامش الأسود، وهذه الأخطاء المذهلة كانت تغذي بعضها بعضا من قبل العرب والزرقة وقد تؤدي إلى وضع مشوه لن يرضي المهمشين ولا المركز! لقد كان التصور الرومانسي لنموذج شرق أفريقيا الذي بشر به الدكتور جلال هاشم سبباً مباشراً لحالة الإنكار التي وقع فيها معظم الراديكاليين (مناصري التغيير الجذري الحقيقي) ولقد كان هذا التصور يفضي إلى أن حركات الهامش المسلحة عالية التسييس والتشبع بالفكر اليساري الثوري الحديث بالتحالف مع الثوريين اليساريين الراديكاليين من جميع أنحاء السودان بغض النظر عن إنتمائهم الإثني سوف يقومون بإجتياح المركز الظالم في جميع أنحاء السودان (وقد وضحنا في مقالاتنا من قبل بأن المركز ليس الخرطوم فقط) وإنهاء هذا المركز مكانياً وثقافياً إلى غير رجعة. ولم يكن من المتصور بأن العرب البدو الرحل الهمج الرعاع والذين لا مكان للسياسة والثقافة والوعي الثوري في رؤوسهم وأداة المركز الأولى في قهر المهمشين الآخرين ومؤخراً معارضي المركز نفسه، سوف يكون لهم دور أساسي في إنهاء هذا المركز. وكان المطلوب تضافر جميع الجهود وتوجيه هذا الدور للعرب الرحل ليفضى إلى التغيير المنشود من جميع متضرري السودان القديم، وهو مالم يحدث، وتشرزم جميع المهمشين كالعادة وقاموا بمجاراة المركز في لعبته التقليدية مرة أخرى بكل سهولة و قاموا فقط بقلب الأدوار، حيث وقف الزرقة هذه المرة مع المركز (رغم تقديرنا للظروف العاجلة التي دعتهم لذلك) وإصطفوا كتفاً بكتف مع نفس الجيش الحكومي الذي هو رأس مآسيهم كلها، بينما وقف الدعم السريع مكان الحركات المسلحة ضد هذا الجيش، وهي مفارقة تاريخية لم يكن ليتصورها أقصى مجنون في السياسة السودانية من قبل، وسببها المباشر عدم مقدرة الهامش على لملمة أطرافه والمقدرة التاريخية للمركز على اللعب بتناقضات الهامش، وعدم مقدرة نخب الهامش على الفكاك من هذه المصيدة. لقد كان التاريخ دوماً يقول بأن التغيير الثوري الحاسم والنهائي يأتي من الرعاع والبدو وطبقة ما دون البوليتاريا، وهذه حقيقة تاريخية معروفة، ولكن كما قال العلامة ودكتورنا الجليل محمد جلال هاشم نفسه بأن نخبنا وصفوتنا لا تقرأ، ولكن دكتورنا الجليل قرأ ونكر للأسف بعد أن إستحوزت عليه الحالة الرومانسية، والتاريخ وديناميكية التغيير لا علاقة لها بالرومانسية من قريب أو بعيد.) إنتهى الإقتباس.
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com
//////////////////