ثورة ديسمبر هزيمة الكل أمام التاريخ
زين العابدين صالح عبد الرحمن
20 December, 2024
20 December, 2024
زين العابدين صالح عبد الرحمن
عندما وصلت الخرطوم في الإسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2018م، كانت الحياة تسير بهدوء في الخرطوم إلا من أزمة يعاني منها المواطنين في الحصول على الرغيف بعد جهد و ساعات الوقوف في طوابير أمام المخابز و أيضا صفوف في محطات البترول و لكنها أنفرجت بعد أيام ، و عندما اندلعت التظاهرات في عطبرة كان الناس يتناقلون الأخبار عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، و السبب الذي جعل التظاهرات تنتقل إلي بقية المدن و العاصمة المثلثة اقدام الشباب في عطبرة على حرق مقر حزب المؤتمر الوطني، الذي اعتبرته الأغلبية بداية مسيرة نضالية قوية لإسقاط النظام، و عندما بدأت تنتظم التظاهرات في العاصمة كان الشباب هم وحدهم الذين ينظمونها و يقودونها و يطلقون شعاراتها، رغم سياط و عصى الجنجويد التي كانت تترك أثارا على ظهورهم.. أسقط الشباب بإرادتهم حكم الإنقاذ.. و مهما إدعت قيادات الإنقاذ أنها كانت مؤامرة دولية للتقليل من الثورة، لكن الشباب هم الذين اسقطوا الإنقاذ بإصرارهم على الهدف الذي كان مرفوعا في الشعار الذي يرددونه..
كان المتوقع من آهل الإنقاذ أن يتبينوا من خلال المنهج النقدي ما هي الأسباب التي أدت إلي سقوط نظامهم، و يقدموا مراجعة تاريخية لمرجعتيهم السياسية " و ليس الإسلام" و لماذا راهنوا على الحزب الواحد كنظام حكم بدلا عن الديمقراطية التعددية، و هذه ليست بعيدة عن فكرهم الذي قبل عام 1977م من خلال " المصالحة مع مايو" على قبولهم الدخول في " الاتحاد الاشتراكي" فالقناعة بالحزب الواحد تعد جزء من مرجعيتهم الفكرية " السياسية و ليس الإسلام" الغريب أن الدكتور الترابي عرب " حركة الإسلام السياسي" وحده من القيادة هو الذي قدم نقدا لهذا المسار في الحوارات التي أجراها معه أحمد منصور في قناة " الجزيرة" و أيضا هناك قيادات إسلامية بشكل فردي قدمت نقدا للتجربة من خلال المرجعية نفسها " البروف حسن مكي و الدكتور الطيب زين العابدين و الدكتور عبد الوهاب الأفندي و الدكتور التجاني عبد القادر و الدكتور خالد التجاني و الدكتور المحبوب عبد السلام و غيرهم، لكن التنظيمات لم تقدم مراجعات بالصورة التي تعيد تقيم للتجربة السياسية و تقدم تصوراتها الجديدة..
في الجانب الأخر للمشهد السياسي بينت ثورة ديسمبر حالة الضعف التي تعيش فيها القوى السياسية الأخرى، إذا كانت في الوسط أو اليسار و اليمين، حتى أن مجموعة من مرافيد الأحزاب اليسارية قيادة داخل مكتب رئيس الوزراء لإدارة الفترة الانتقالية بعيدا عن ما يسمى بقوى الحرية و التغيير، و كانت هذه القيادة هي التي ترسم مسار الحكومة لسيطرتها الكاملة على رئيس الوزراء.. لكنها فشلت في إدارة معركتها، و فشلت حتى في تعين بعض الشخصيات التي كانت مسجلة في كشكولها لكي تصبح على رأس المفوضيات المذكورة في الوثيقة الدستورية.. أن ثورة ديسمبر بعد نجاحها قد تم إدارتها من قبل اليسار الذي كان فاقد الرؤية تماما، و كان يعاني من ضعف في القيادة حتى اليوم، و أيضا فشل اليسار " العروبي" في محاولاته في تجيير الثورة لنفسه، و فشل حتى في صياغة "وثيقة دستورية" عندما تبنى صياغتها، كان أي خطوة تقوم بها القيادات التي استلمت زمام العمل السياسي لإدارة الفترة الانتقالية تؤكد ضحالة الخبرة، و تواضع القدرات، و تبين عندما خسرت الشارع الذي كان يحفظ لها توازن القوة، الذي ظهر في مليونية ما بعد الاعتصام في يونيو 2019م ، خسران الشارع بداية لخسران القيادة في السلطة..
أن الحرب الدائرة الآن هي تأكيد لفشل الأحزاب السياسية و ضعفها في إدارة الأزمة، و هذه القيادات مقتنعة بضعفها لذلك لم ترجع للشارع مرة أخرى لتعيد عملية توازن القوى في المجتمع، لكنها فضلت الإنصياع لإملاءات الخارج لكي يعيدها مرة أخرى للسلطة و فشل الخارج أيضا في إدارة الأزمة مع العسكر، الأمر الذي قادهم لفكرة " انقلاب عسكري" تقوده ميليشيا آل دقلو، فشل الانقلاب لحسن إدارة الجيش للعملية العسكرية و لوعي الشباب في جميع مناطق السودان أن الحرب الهدف منها هو تقسيم السودان و استغلال ثرواته، انخراط الشباب كمجندين مستنفرين و مقاومة شعبية هو الذي أفشل المؤامرات التي تحاك ضد الوطن، و هو الذي غير المعادلة في الساحة السياسية..
منذ عقد التسعينات في القرن الماضي و سقوط الاتحاد السوفيتي، و تحول دول الشرق إلي الليبرالية كان بداية الهبوط لليسار الماركسي في السودان، الذي أصبح الآن على هامش العملية السياسية، قيادة وقف ذهنها عند تحالف " الجذرية" التي لم يضاف إليها أي مكنون غير مكونات و واجهات الحزب الشيوعي.. الأمر الذي يؤكد أن الحزب فقد فاعليته الشعبية التي كانت تدور في فلكه، عمل على انقسام في تجمع المهنيين لعله يستطيع أن ينقذه من حالة الضمور التي يعانيها لكنه فشل في ذلك.. أما اليسار العروبي قد خسر أخر سلطة له في " سوريا" أصبح الآن يعيش على إجترار ماضي لم يسجل فيه نجاح في أية مصطلح من شعاره " وحدة حرية اشتراكية" هؤلاء سوف يتحولون من تحالف إلي أخر فاقدي الرؤية و البصيرة.. أما حركة الوسط التي يعتقد الاتحاديون يمثلونها أنها فقدت فاعليتها منذ أنتفاضة إبريل 1985م ، و أصبحت جزر معزولة عن بعضها البعض هي نفسها تحتاج إلي ثورة تهز جزعها لكي تتساقط كل فروعها التي اصيبت باليباس.. و حزب أمة لم يجد غير أن يعيد البلاد إلي عهد الخليفة التعايشي بكل سوءات نظامه.. أن ثورة ديسمبر لم تسقط نظام الإنقاذ لوحده بل بينت أن الكل يعاني من حالات موت سريري و لابد من التغيير.. أن الحرب يجب أن تفرز قيادات جديدة و واقع جديد لسودان أمن مستقر ديمقراطي يجد فيه الكل مساحات للتعبير عن ذاته، و احترام للقيم و عقائد المجتمع.. نسأل الله حسن البصير...
zainsalih@hotmail.com
عندما وصلت الخرطوم في الإسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2018م، كانت الحياة تسير بهدوء في الخرطوم إلا من أزمة يعاني منها المواطنين في الحصول على الرغيف بعد جهد و ساعات الوقوف في طوابير أمام المخابز و أيضا صفوف في محطات البترول و لكنها أنفرجت بعد أيام ، و عندما اندلعت التظاهرات في عطبرة كان الناس يتناقلون الأخبار عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، و السبب الذي جعل التظاهرات تنتقل إلي بقية المدن و العاصمة المثلثة اقدام الشباب في عطبرة على حرق مقر حزب المؤتمر الوطني، الذي اعتبرته الأغلبية بداية مسيرة نضالية قوية لإسقاط النظام، و عندما بدأت تنتظم التظاهرات في العاصمة كان الشباب هم وحدهم الذين ينظمونها و يقودونها و يطلقون شعاراتها، رغم سياط و عصى الجنجويد التي كانت تترك أثارا على ظهورهم.. أسقط الشباب بإرادتهم حكم الإنقاذ.. و مهما إدعت قيادات الإنقاذ أنها كانت مؤامرة دولية للتقليل من الثورة، لكن الشباب هم الذين اسقطوا الإنقاذ بإصرارهم على الهدف الذي كان مرفوعا في الشعار الذي يرددونه..
كان المتوقع من آهل الإنقاذ أن يتبينوا من خلال المنهج النقدي ما هي الأسباب التي أدت إلي سقوط نظامهم، و يقدموا مراجعة تاريخية لمرجعتيهم السياسية " و ليس الإسلام" و لماذا راهنوا على الحزب الواحد كنظام حكم بدلا عن الديمقراطية التعددية، و هذه ليست بعيدة عن فكرهم الذي قبل عام 1977م من خلال " المصالحة مع مايو" على قبولهم الدخول في " الاتحاد الاشتراكي" فالقناعة بالحزب الواحد تعد جزء من مرجعيتهم الفكرية " السياسية و ليس الإسلام" الغريب أن الدكتور الترابي عرب " حركة الإسلام السياسي" وحده من القيادة هو الذي قدم نقدا لهذا المسار في الحوارات التي أجراها معه أحمد منصور في قناة " الجزيرة" و أيضا هناك قيادات إسلامية بشكل فردي قدمت نقدا للتجربة من خلال المرجعية نفسها " البروف حسن مكي و الدكتور الطيب زين العابدين و الدكتور عبد الوهاب الأفندي و الدكتور التجاني عبد القادر و الدكتور خالد التجاني و الدكتور المحبوب عبد السلام و غيرهم، لكن التنظيمات لم تقدم مراجعات بالصورة التي تعيد تقيم للتجربة السياسية و تقدم تصوراتها الجديدة..
في الجانب الأخر للمشهد السياسي بينت ثورة ديسمبر حالة الضعف التي تعيش فيها القوى السياسية الأخرى، إذا كانت في الوسط أو اليسار و اليمين، حتى أن مجموعة من مرافيد الأحزاب اليسارية قيادة داخل مكتب رئيس الوزراء لإدارة الفترة الانتقالية بعيدا عن ما يسمى بقوى الحرية و التغيير، و كانت هذه القيادة هي التي ترسم مسار الحكومة لسيطرتها الكاملة على رئيس الوزراء.. لكنها فشلت في إدارة معركتها، و فشلت حتى في تعين بعض الشخصيات التي كانت مسجلة في كشكولها لكي تصبح على رأس المفوضيات المذكورة في الوثيقة الدستورية.. أن ثورة ديسمبر بعد نجاحها قد تم إدارتها من قبل اليسار الذي كان فاقد الرؤية تماما، و كان يعاني من ضعف في القيادة حتى اليوم، و أيضا فشل اليسار " العروبي" في محاولاته في تجيير الثورة لنفسه، و فشل حتى في صياغة "وثيقة دستورية" عندما تبنى صياغتها، كان أي خطوة تقوم بها القيادات التي استلمت زمام العمل السياسي لإدارة الفترة الانتقالية تؤكد ضحالة الخبرة، و تواضع القدرات، و تبين عندما خسرت الشارع الذي كان يحفظ لها توازن القوة، الذي ظهر في مليونية ما بعد الاعتصام في يونيو 2019م ، خسران الشارع بداية لخسران القيادة في السلطة..
أن الحرب الدائرة الآن هي تأكيد لفشل الأحزاب السياسية و ضعفها في إدارة الأزمة، و هذه القيادات مقتنعة بضعفها لذلك لم ترجع للشارع مرة أخرى لتعيد عملية توازن القوى في المجتمع، لكنها فضلت الإنصياع لإملاءات الخارج لكي يعيدها مرة أخرى للسلطة و فشل الخارج أيضا في إدارة الأزمة مع العسكر، الأمر الذي قادهم لفكرة " انقلاب عسكري" تقوده ميليشيا آل دقلو، فشل الانقلاب لحسن إدارة الجيش للعملية العسكرية و لوعي الشباب في جميع مناطق السودان أن الحرب الهدف منها هو تقسيم السودان و استغلال ثرواته، انخراط الشباب كمجندين مستنفرين و مقاومة شعبية هو الذي أفشل المؤامرات التي تحاك ضد الوطن، و هو الذي غير المعادلة في الساحة السياسية..
منذ عقد التسعينات في القرن الماضي و سقوط الاتحاد السوفيتي، و تحول دول الشرق إلي الليبرالية كان بداية الهبوط لليسار الماركسي في السودان، الذي أصبح الآن على هامش العملية السياسية، قيادة وقف ذهنها عند تحالف " الجذرية" التي لم يضاف إليها أي مكنون غير مكونات و واجهات الحزب الشيوعي.. الأمر الذي يؤكد أن الحزب فقد فاعليته الشعبية التي كانت تدور في فلكه، عمل على انقسام في تجمع المهنيين لعله يستطيع أن ينقذه من حالة الضمور التي يعانيها لكنه فشل في ذلك.. أما اليسار العروبي قد خسر أخر سلطة له في " سوريا" أصبح الآن يعيش على إجترار ماضي لم يسجل فيه نجاح في أية مصطلح من شعاره " وحدة حرية اشتراكية" هؤلاء سوف يتحولون من تحالف إلي أخر فاقدي الرؤية و البصيرة.. أما حركة الوسط التي يعتقد الاتحاديون يمثلونها أنها فقدت فاعليتها منذ أنتفاضة إبريل 1985م ، و أصبحت جزر معزولة عن بعضها البعض هي نفسها تحتاج إلي ثورة تهز جزعها لكي تتساقط كل فروعها التي اصيبت باليباس.. و حزب أمة لم يجد غير أن يعيد البلاد إلي عهد الخليفة التعايشي بكل سوءات نظامه.. أن ثورة ديسمبر لم تسقط نظام الإنقاذ لوحده بل بينت أن الكل يعاني من حالات موت سريري و لابد من التغيير.. أن الحرب يجب أن تفرز قيادات جديدة و واقع جديد لسودان أمن مستقر ديمقراطي يجد فيه الكل مساحات للتعبير عن ذاته، و احترام للقيم و عقائد المجتمع.. نسأل الله حسن البصير...
zainsalih@hotmail.com