ثورة ياسمين بعطر الإعلام!!
ثورة تونس ليست ثورة جياع، إنما هي منتوج لثورة الإعلام. لعب الإعلام في هذه الثورة دوراً حاسماً وساهم في تعبئة الجماهير التونسية بشكل لم تفعله الأحزاب التونسية التي لحقت بالثورة في ساعة متأخرة من فجرها. هنالك أدوار حاسمة قامت بها الفضائيات والوسائط الحديثة في دفع هذه الثورة لنهاياتها المنطقية والعادلة. النظر لهذه الأدوار مفيد لأخذ التجارب في طرائق عمل الإعلام وأثره المتعاظم في التأثير على حركة الجماهير.
الذين تابعوا يوميات الثورة التونسية أدركو خطورة وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات التي بدأت تزداد أهمية مع بديات التسعينات من القرن الماضي، فالإنترنت تقدم بصورة مذهلة وتزايد تأثيره، وحسب بعض الإحصائيات فإن نسبة مشاهدة المواطنين في العالم للصحافة الإلكترونية تقارب الـ 60%، مهددة الصحافة الورقية التي تخضع الآن لرقابات شتى، وتتصاعد تكاليفها، وتتدنى أرقام توزيعها في العالم بشكل مقلق. أكدت دراسة أجرتها ميكروسوفت: أن العالم سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية في عام 2018!!، أيها الناشرون أين المفر، كلا لا وزر!!.
ثورة الاتصال هذه تجلت تأثيراتها في ثورة الياسمين التي تنسم التونسيون عطرها عبر الفيس بوك. يقول تقرير إعلامي صدر حديثاً: (إن عدد مستخدمي فيس بوك في تونس يتجاوز المليونين، وهو أكبر رقم في إفريقيا، ومن أرفع النسب في العالم العربي، وأضاف: أن الأعمار بين 18و 34 تمثل نسبة 75% من مستخدمي فيس بوك التونسيين). وقال زياد كريشان رئيس تحرير جريدة حقائق التونسية: (هذه الثورة لم تكن لتقوم لولا التلفزيون والإنترنت). استخدم التونسيون الفيس بوك كوسيط فعال لبرمجه فعاليات الثورة المشتعلة في الشارع، ثم إذاعه ونشر أخبارها عبر الفيس بوك وتوتير وغيرها. تم استخدم موقع توتير بشكل مبدع عبر بث الرسائل القصيرة والصور على أجهزة الموبايل والإنترنت، فساهمت تلك الرسائل القصيرة المرسلة لآلاف الهواتف في تحريك قطاعات واسعة من الجماهير ودفعها إلى الشارع. لاحظ هنا الاستفادة من هذه الوسيلة التي تم استخدامها بكفاءة إبان التظاهرات الإيرانية التي أعقبت انتخابات الرئاسة الأخيرة. تمَّ استخدام هذه الوسائل وسط غياب تام لأي جهاز إعلامي تونسي، فأخذ الإعلام التونسي التقليدي صفراً كبيراً في إنجازات هذه الثورة. كانت هذه رسالة بلغية للذين يتوهمون أن السيطرة على الإعلام ممكنة في هذا الفضاء المفتوح بتقنياته الحديثة.
هامَ ابن علي في الفضاء باحثاً عن مأوى، ولكن الفضاء لم يكن أقل ثورة مِن مَن هم على الأرض. كانت الصور في الفضائيات تتناثر لترسم صورة طائرة ابن علي تعبر فضاء ليبيا، ثم مالطا، ففضاء القاهرة، يا لهذا الفضاء الثائر!! لم يجد الرئيس فضاءً آمنا لطائرته.
لعبت قناة الجزيرة دورا مهما في إسقاط نظام ابن علي. فالذي تابعوا تغطيتها منذ بداية الثورة يلحظون القصدية في فعل القناة لدفع خطى الثورة للأمام. فبدأت القناة في بث أخبارها على رأس الساعة عن مجريات الثورة، ثم عملت على استضافة معارضي النظام على مستوى العالم، ومن ثم تقدمت خطوة أخرى مع تصاعد إيقاع الثورة، فأضحت تقبل وتبث سيلاً من الصور التي يلتقطها الثوار الشباب بهواتفهم النقالة، وهي صورة ضعيفة لا تصلح للبث في الأحوال العادية، ولكنها فعلت فعل السحر في إبراز الفظائع التي يرتكبها زبانية النظام التونسي وهم يلهبون ظهور الشعب بأدوات قمعهم. هذه الصورة المبثوثة بشكل كثيف كانت وقوداً يومياً وإضافياً للثوار التونسيين. صورة جسد بوعزيزي المشتعل، قنبلة انشطارية سرعان ما تفجرت بصورة متوالية في جسد النظام المتداعي. يقول صلاح الدين الجورشي مدير تحرير صحيفة الشرق التونسية: (قناة الجزيره أحدثت تغييراً نوعياً في الأحداث، ابن علي ارتبك مع أيام التغطية الأولى وطلب من فعاليات كثيرة حوله إصدار البيانات ضد الجزيرة. وأكد أن أول إنجاز للجزيرة في تغيير نظام كان هو تغيير النظام التونسي.). دون التقليل من المسبباب الاجتماعية الأخرى فإن ثورة تونس هي منتوج الإعلام الجديد والفضاء المفتوح، هي ثورة ياسمين بعطر الإعلام.