كانت مخافة الصحابة والتابعين والسلف الصالح شديدة من إصدار الفتوى بل كانوا لا يستعجلون إعطاء أراءهم حول أي قضية، وإن فعلوا لا يجزمون بأن ذلك هو حكم الشرع، لأنهم يدركون عظمة تلك الفتوى وما يترتب عليها، وكيف أنهم من خلالها يبرزون رأي الدين الإسلامي بصورة تطابق أو تقترب من مقصود القران والسنة. كان عبدالله أبن عمر إذا إستفتى يقول " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا ظُهُورَنَا جُسُورًا لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، أَنْ تَقُولُوا أَفْتَانَا ابْنُ عُمَرَ بِهَذَا ". وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول".. قال الشعبي والحسن وأبي حصين "إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر". عمر بن الخطاب الذي ورد في رواية لابن ماجة أن الرسول "ص" دعى قائلاً " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ". وكان القران الكريم ينزل أحيانا ليؤيد رأي قاله سيدنا عمر بن الخطاب. ورغم كل ذلك كان سيدنا عمر "رضي" يخاف على نفسه من النفاق فيسأل أمين السر حذيفة بن اليمان "أقسمت عليك بالله أأنا منهم؟ قال : لا. ولا أبرى بعدك أحداً". و تحكي السيرة النبوية كيف أن عمر بن الخطاب كان يبكي ويقول "ياليت أم عمر لم تلد عمر" !!! ثم تبدلت الأزمان وقل العلم بالدين بموت العلماء، قال "ص" "إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" [أخرجه البخاري ومسلم] ". نعم، جاء أخر الزمان وكثرت الفتن والمحن وتفاقمت الأزمات وأعتد كل فرد وجماعة برائه معتقداً بأنه إستوعب دون غيره فحوى الرسالة القرانية وفقه السنة النبوية ، وإن كل ما يقوم به من أقوال وأفعال هي موافقة للشريعة إن لم نقل هي الشريعة نفسها!!! في حين إنه يعتقد يقيناً بأن أتقى الأخرين فات عليه مقصود الشرع ، أو هو رقيق التدين أو ضال أو خرج من الدين كما يمرق السهم من كنانته ولا يعود إليها!!!. ولنأخذ أمثلة من واقع حكومة الإنقاذ التي تتخبط خبط عشواء في ليلة دهماء ثم تلصق أفعالها بالشريعة، وعلى سبيل المثال لا الحصر حادثة قريبة، فبعد إنضمام ومبايعة حوالى 400 من قيادات حزب الأمة بولاية النيل الأبيض لحزب المؤتمر الوطني ، قال د.مصطفى عثمان إسماعيل رئيس القطاع السياسي بالمؤتمر الوطني في 28 يناير 2015م، بمركز الشهيد الزبير محمد صالح " إن الإنضمام الى المؤتمر الوطني يعني أن الوطن فوق القبيلة والحزب". جازما بأن "الترقي – في الحزب- يتم بالتقوى والخوف من الله مؤكدا بإن البلاد محفوظة برعاية الله" ... " وسخر ممن توقعوا أن انفصال الجنوب سيكون كارثة تنهي النظام بذهاب البترول مضيفاً " أنزل الله مطراً ما زال يحصد خيره المزارعون حتى الآن" ، لافتاً إلى انخفاض أسعار النفط عالمياً وتلى (من يتقي الله يجعل له مخرجاً)، ... وتعهد بتوفير الخدمات لولاية النيل الأبيض!!!. فقط نريد أن نلفت إنتباه القاريء إلا إنه ومن باب حسن الظن سنقول بأنه ليس هناك ثمن مستتر "تحت تحت" لإنضمام ومبايعة قادة حزب الأمة بالنيل الأبيض لحزب المؤتمر الوطني ولكن يبقى لها ثمن ظاهري ورد في الجملة الأخيرة ألا وهو " وتعهد بتوفير الخدمات لولاية النيل الأبيض" !!! ثم نسأل دكتور مصطفى عثمان، سؤالا بسيطا هل ذلك يعني إنه إذا إنضم كل قادة الأحزاب بالولايات للمؤتمر الوطني سيتعهد بتوفير الخدمات لتلك الولايات ؟؟؟ وإذا لم ينضموا لن يوفر لهم الخدمات؟؟؟ كذلك يأتي السؤال، هل يمكن من باب مفهوم المخالفة تعليل إرتفاع أسعار النفط والغلاء الحادث في السودان بأنهم في الإنقاذ لما لم يتقوا الله لم يجعل لهم مخرجا وكان الغلاء؟؟؟ ثم أنظر إلى ذلك خداع مصطفى عثمان إسماعيل البارع فأنه لا يربط بين ذهاب بترول الجنوب وأنهم لم يتقوا الله، ولكن يربط بين إنخفاض أسعار النفط عالميا ويرده لأنهم إتقوا الله ويورد الآية "من يتق الله يجعل له مخرجا"!!! ويرد على د.مصطفى إسماعيل بقول الترابي في 4-1-2012م، " إن الحكومة عوضت خسارة معظم مواردها من النفط بعد انفصال الجنوب الغني بالبترول بفرض المزيد من الضرائب التي أثقلت كاهل الشعب السوداني" !!! وبمناسبة إنضمام قادة من حزب الأمة لحزب المؤتمر الوطني نجد أن "رئيس الكتلة البرلمانية لنواب المؤتمر الوطني مهدي إبراهيم قال ما معناه أن " انتقال قيادات من حزب الأمة القومي الى المؤتمر الوطني هو إنتقال مقدس يشبه الهجرة، واعتبر أنه له مغزى عظيم لخدمة الدين" ...وقال "نحن في جلسة ربما تحفها الملائكة"!!! . ترى ما هو الشيء المقدس عند المسلمين، وهل يمكن إضفاء صفة القداسة على إنتقال البعض من حزب لأخر!!! وهل يمكن غداً أو بعد غد إضفاء صفة القداسة إيضا على إنتقال لاعب كرة من فريق إلى فريق!!! أرأيتم إلى أين يمكن أن يقود التلاعب بالدين!!! وعلى ذات المنوال كيف يكون إنتقال أفراد من حزب الامة إلى حزب الوطني "له مغزى عظيم لخدمة الدين"!!! تلك كانت أخر مظاهر التلاعب والمتاجرة بالدين من قبل الطغمة الإنقاذية، وإن كانت تلك التجارة قد بدأت منذ بدايات الإنقاذ !! فنجد أنه عندما قامت الإنقاذ، في يونيو 1989.. صرح الدكتور حسن الترابي لعادل سيد احمد محرر صحيفة الوطن، قائلاً "البشير هو هبة الله، لأهل الأرض" !!! و لا نملك إلا أن نسأل الترابي من أنبأك ذلك ؟؟؟ كذلك أوردت الاخبار في 11 يناير 1994م، ان الترابي قال في مؤتمر صحافي عقده في مقر وكالة السودان للإنباء "تعلمون انني لست لست من الكاذبين...وأقسم لكم على الأقل إن الجبهة القومية الإسلامية التي تسمى جبهة قومية لا توجد الان في الحكم لا سراً ولا علنا" !!! وهو قول يتعارض مع ما نسبه الصحفي فائز السليك لعبد الرحيم عمر محي الدين في كتابه الذي أطلق عليه اسم "القصر والمنشية / صراع الهوى والهوية " أن وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين قال" قبل شهرين من التنفيذ قمنا باداء القسم، قسم تامين وولاء للحركة، وهو بان لانفشي السر ، وفي ذلك الحين قام العميد عمر حسن البشير بتوجيه سؤال للترابي : اذا نجح هذا الانقلاب فمتى تظهر علاقة هذه الحركة الانقلابية بالحركة الاسلامية؟ .... ، ؟ فرد الترابي بأنه حريص على عدم افشاء السر، ومعرفة العلاقة بين الاسلاميين والتحرك العسكري، ولو بعد 30 سنةً". ثم نستمع لدكتور نافع علي نافع في يوم 20 ديسمبر 2014م وخلال مداخلة له أمام الملتقى التنظيمي الرابع للحركة الإسلامية السودانية للقطاع الأوسط، يقول " ان هجرة أهل السودان إلى الله ضرورية لأن الله اصطفاهم لرفع رايته، ..." !!! ترى هل لحديثه هذا معنى غير التلاعب بالمشاعر الدينية والمتاجرة بالدين !!! وماذا يعني تعبير هجرة أهل السودان الى الله ومن قال لنافع بإن الله إصطفى أهل السودان لرفع رايته!!! هل هو تقول على الله أم "كلام والسلام"!!! مثال أخر للتلاعب بالدين يبرز في كلمة دكتورة سعاد الفاتح التي دعت في 10/12/2014م خلال مداولات النواب حول أداء قطاع الحكم والإدارة، إلى مراجعة سياسات الإعلام، ... و حذرت من التهاون في قول كلمة الحق قائلة " لو ما قلنا الحق حندخل النار طوالي"!!! ثم دعت دكتورة سعاد الفاتح وزارة الإعلام لصد الانتقادات من بعض السودانيين بالفضائيات، وقالت «ماسكين ميكرفونات وينتقدوا بلا كتاب منير»!!! ومن الطبيعي أن نسألها هل معنى قولها إن الذين يتم إنتقادهم معهم كتاب منير ؟؟؟ وما دليلها على ذلك !!!. ولناخذ مثال أخير، فلقد إنتقد القيادي بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبد الرازق آدم الذين ينتقدون الترابي ويقولون بأنه "لا تتوافر فيه شروط أن يفتي ولا يمكن وصفه (عالم دين) ليصدر فتاوى في الدين؟". قال عنهم أبوبكر عبدالرازق في 11/12/2014م، " لأنهم جهلاء لم يقرأوا هذا الفقه الإسلامي، وأغلبهم سلفيون، للأسف، لم يقرأوا للإمام (ابن تيمية) وهؤلاء أئمتهم. رأي الترابي صحيح يتناسب مع قدرته كفقيه مُحدث ومُجدد، ويتناسب مع الموروث الفقهي التاريخي الإسلامي الذي قرأه ويتناسب مع الترابي كمحام وأستاذ في القانون، وهم ليسوا أحرص على الدين من الترابي ومنهم من كانوا تلاميذه في يوم من الأيام، وهم لديهم علل نفسية ولا يقدمون على الدين ليصححوا به عللهم النفسية والعقلية ولكن يفهموا الدين من مدخل عللهم هذه ومن مدخل التقاليد والأعراف البالية، الله أعلم بإيمان دكتور الترابي الذي بذل عمره لأجل الدعوة الإسلامية وكل من سيكفره سيبوء مقعده من النار بإذن الله"... لاحظ أخي القاري تعبير دكتورة سعاد الفاتح ""حندخل النار طوالي" وقول ابوبكر عبدالرازق "سيبؤ بمقعده من النار" !!! لماذا هذه الجراءة وإصدار أحكام نهائية، بدل الاستغفار والتعوذ من النار !!! أم أن الامر لا يعدو أن يكون متاجرة بالدين ليس الا!!! ثم إذا كان هذا القيادي "الاسلامي" يصف منتقدي الترابي من "الاسلاميين" بإن لديهم علل نفسية.......و... يفهموا الدين من مدخل عللهم"، فبماذا يمكن أن يصف معارضي ومخالفي الترابي في الرأي من غير الإسلاميين !!! بعد أن سقنا تلك الأمثلة كدلالة على فساد تجار الدين، يبقى إن همنا الأوحد بعد أن نقدم لهم النصيحة بأن يتوبوا إلى الله ويستغفروه ، أن نبصرهم أيضا بأفضل السبل لتعويض كل تلك الهنّات إن لم نقل المعاصي وإستبدالها بحسنات كالجبال. إذن إن أفضل عمل لحسن الختام لكل الإنقاذيين ومن لف لفهم أو شارك او إستفاد من الإنقاذ هو السعي بكل ما أوتي لإيقاف الحرب وإحلال السلام وإنقاذ أرواح برئية من الموت. جاء في كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني . قَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ : " كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ ؟ " قَالَ : سِتُّونَ سَنَةً , قَالَ : " فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ تُوشِكُ.أَنْ تَبْلُغَ " , فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا أَبَا عَلِيٍّ ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ سورة البقرة آية 156 , قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ : " تَعْلَمُ مَا تَقُولُ ؟ " قَالَ الرَّجُلُ : قُلْتُ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ سورة البقرة آية 156، قَالَ الْفُضَيْلُ : " تَعْلَمُ مَا تَفْسِيرُهُ ؟ " قَالَ الرَّجُلُ : فَسِّرْهُ لَنَا يَا أَبَا عَلِيٍّ , قَالَ : " قَوْلُكَ إِنَّا لِلَّهُ ، تَقُولُ : أَنَا لِلَّهِ عَبْدٌ ، وَأَنَا إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ , فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ , فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ , وَمَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَسْئُولٌ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالَ جَوَابًا " فَقَالَ الرَّجُلُ : فَمَا الْحِيلَةُ ؟ قَالَ : " يَسِيرَةٌ " قَالَ : مَا هِيَ ؟ قَالَ : " تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ ، يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ , فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ ". wadrawda@hotmail.fr