جـوهـر القـضـيـة .. بقلـم: عمـر العمـر
عمر العمر
4 November, 2021
4 November, 2021
في كل ثورة سودانية يثبت الشارع العام أنه أنفذ رؤية، اكثر صلابة وأبعد طموحاً من قياداته السياسية. فلولا غياب القيادة الموحدة المقتدرة المواكبة للمد الجماهيري لأصبحت مواكب الثلاثين من أكتوبر ثورة تصحيحية فعلية ترسم مستقبلاً زاهيا لشعب أبي. لكن عدم وجود تلك الرأس القائدة الموحدة المدبرة المصممة أجهضت الأحلام الجماهيرية العظيمة. ذلك هو حالنا في أكتوبر من قبل ثم إبريل فديسمبر. صحيح ساهمت سياسة القهر في كل مرة في إضعاف تلك القيادات الحزبية وتفتيت إراداتها لكن ذلك لا يكفي لتبرير تدني الوعي باللحظة التاريخية و تطلعات الجماهير في كل مرة. ذلك شرط توفر إلى حدٍما إبان ثورة أكتوبر دون لاحقتيها بفعل وهج الحركة النقابية المتوقد إبان فترة النظام العسكري الأول.
*** *** ***
ذلك البناء التنظيم شكل مظلة ذات عصبية جاذبة تخطى بها القادة والقواعد الإنتماءات الضيقة من جهوية، قبلية أوحتى حزبية بما اكتسبت من وعي ومن حقوق عبر نضالها الدؤوب في حقول عملها المتنوعة. القيادات الحزبية الحالية افتقدت وهج ذلك الوعي الأكتوبري المكتسب بفعل غياب الإلتحام الحميم بين القواعد والقيادات على إيقاع يومي. في كل ثورة تخرج القيادات الحزبية من أكمامها أو أوكارها في محاولات ركيكية لملاحقة هدير الشارع دون جدوى جوهرية. فلا هي نجحت في تقديم نموذج ملهم ولا الشارع نجح في إفراز قيادات بديلة. في ديسمبر أفلح إتحاد المهنيين في إشعال شمعة وضّاءة للأمل لكن قيادته سريعاً ما أخفقت فأخمدت بنفسها شعاع تلك الشعلة عندما سقطت في التشقق .
*** *** ***
قبيل بلوغ الإحتقان بين الشعب والجيش درجة الإشتعال في أكتور 1964 خفت كوكبة من كبار الضباط بينهم محمد الباقر أحمد ومزمل غندور إلى كبار الجنرالات محذرين من مغبة دفع الجانبين إلى مواجهة لن يخرج منها طرفُ رابح. تلك المبادرة أبانت لعبود أبعاد الصورة وراء الزخم الجماهيري في الخرطوم. عقب ذلك التجاوب العاقل النبيل إشتبكت قوى الأحزاب في جدل محموم في شأن التشكيل الوزاري. لما كانت مسألة الجنوب هي المحرك المباشر لإتفجار غضب الشعب تجاه النظام العسكري فقد شكل عمق التجربة العملية في سيرة سرالختم الخليفة العنصر الغالب لرئاسة الحكومة. لكن " القوى التقليدية" لم تحتمل حكومة يغلب على هيكلها وتوجهاتها طابع "القوى الحديثة" فلجأت لإستخدام "عنف البادية " لإطاحتها عقب شهيرات محدودة.تلك هي المغامرة الأولى لقطع الطريق أمام جماهير الثورة.
*** *** ***
لما بلغت الهبة الشعبية ذروتها في إبريل 1985 لاح مجدداً شبح الصدام بين الجيش والشعب. هذه المرة تجاوز كبار الجنرالات نائب الرئيس ومدير امنه عمر محمد الطيب فطافوا معسكرات الجيش في العاصمة ثم أعلنوا الإنحياز إلى الثورة. تجمع المهنيين وقتذاك كان أكثر صلابة وأشد مراساً إذ تصدى لمهمة مفاوضة العسكر على تسليم السلطة والتشكيل الوزاري. من يتأمل صورة تلك الحكومة يرى فيها ملامح التجمع آنذاك. الذهاب العجول إلى صناديق الإقتراع لم يكن وفاءً محضا لتعهد الجنرالات برد السلطة إلى الشعب بنهاية سنة يتيمة كما يتم ترويج تلك المقولة . بل اشتمل على جينات مخطط خفي غايته قطع الطريق أمام الثورة قبل استكمال غاياتها عبر بناها المدنية. في هذه الحالة جرى استخدام بعض منطق الثورة نفسها. فالإستدعاء السريع للإنتخابات لم يستهدف إصلاح حال البيئة السياسية أو تحقيق غايات الثورة وتطلعات الجماهير لبناء نظام ديمقراطي وطيد.
*** *** ***
عند منحنانا الراهن تصاعد خطر الصدام بين الشعب والقوى المسلحة متعددة القبعات أكثر من أي وقت مضى .لكن لم يخرج من المعسكرات من يعلن الإنحياز الوفي للثورة. هكذا بدأ قطع الطريق أمام الثورة مبكرا وبكل المناهج والأدوات ومن داخل معسكر الثورة نفسه غفلة أو عمداً. فالجنرالات المتمردون على الرئيس المقتلع لم يخلصوا في الإنحياز إلى الثورة بقدر بذلهم من أجل الحفاظ على بنى النظام القديم تحت مظلة جديدة. في حالتي الثورة السابقتين شكّل تسليم واستلام السلطة محور التفاوض الأساسي بين الجانبين ؛ الساسي المدني والعسكري. في الحالة الثالثة تطاول الجنرالات بالتفاوض إلى إقتسام السلطة . هشاشة تجمع المهنيين والقوى الحزبية ساهمة في إنزلاق المفاوضين إلى مخطط الجنرالات أكثر مما أفضى إلى تحقيق طموحات جماهير الثورة. تلك الغفلة لم تعبر وعي الجماهير إذ حذرت منصة الإعتصام من مغبة الإنجرار مع تيار ما اسموه " الهبوط الناعم".
*** *** ***
ذلك التطاول العسكري وتلك الهشاشة السياسية أفرزا الخطيئة الأولى والكبرى في صناعة المستقبل الجديد. فالإنزلاق إإلى إقتسام السلطة أنتج خطيئة المحاصصة. فالعسكر صمموا على أحتكار مقاعد في مجلسي الوزراء والسيادة مما مكّنهم من إنتزاع سلطات واحتكار سلطات أخرى منحتهم نفوذاً غير مقنن بالإضافة إلى الحفاظ على مكتسبات شريحة عريضة من المنتفعين بظل الإنقاذ. تلك الخطيئة حفرت نفق التنازع على السلطة بين الجانبين كما أفسحت الأفق ىأمام طامعين جدد.. في هذا النفق تراكمت أخطاء عديدة بعضها مدبّرُ وآخر أنتجته طبيعة الصراع أ وطبع المتصارعين أو الاثنتين معا. أي قرآة في متن إنقلاب البرهان تتجاوز هذه العقدة تصبح غير موضوعية وغير نافذة إلى جذور الأزمة. هذه الحماقة العسكرية زادت الإزمة تأزيماً. أكثر من ذلك أعادت شبح الصدام بين الجانبين إلى المشهد السياسي حتى بدا الإنفجار حتمياً
*** *** ***
في سياق معادلة الضعف المتبادل بين الفريقين والخوف من إنهيارٍ بدا هوالآخر حتمياً دخل على المشهد عنصرٌ مستجد؛ هو ما يعرف حاليا بالوساطة.
هو عاملُ يؤشر إلى ضعف الفريقين أكثر مما يعطي إنطباعا خاطئا بالقوة في أحد المعسكرين أو كليهما. فالجيش يفتقد إلى طراز الضباط أو الجنرالات المبادرين في التجربتين السابقتين. كما غاب عن الكتلة السياسية القيادات الملهمة أو المؤثرة بالوعي والرصيد الشعبي فانبهم السبيل أو إنغلق لدى مفترق طرق تبدو كلها مسدودة أمام الجميع . عندها نهضت ثلة من ذوي الإستقامة والهمة الوطنيتين في محاولة لتجسير الفجوة بين الفريقين من أجل عبور الأزمة بسلام هذه ما يطلق عليها حاليا "الوسطاء".. هؤلاء يمارسون دورا سياسياً محوريا بالغ الأهمية على الصعيد الوطني . لكن معضلتهم أنهم يتصدون لهذه المهمة السياسية الوطنية النبيلة في سياق المفاهيم السودانية التقليدية " أجاويد ". فهذه الكوكبة الكريمة من الوطنيين لا تملك من أسباب القوة ما يؤلهم لفرض نفوذهم على الفرقاء ترغيباً أو ترهيباً . ذلك شرط التوصيف القانوني والسياسي للوساطة الناجعة. كلما في رصيدهم هو النوايا الحسنة وحسن الظن. لذلك تتعثر بهم الخطوات.
*** *** ***
هذا الضعف السوداني المركّب جعل البعض يميلون للتفاؤل بدخول لاعبين أجانب على جهود الوساطة مع أن كثيرا من أؤلئك المتفائلين – إن لم يكن كلهم- يعزون إنقلاب البرهان إلى أيادٍ خارجية بل ربما يسمي ععد منهم جهات تنشط ضمن جهود الوساطة. هذه رؤية قد لا تجافي الواقع في سياق ما يعرف بلعبة الأمم .تلك ليست هي المسألة لكن جوهر المسألة يتجسد في بقاء الوطن رهينة للاعبين في الخارج. لهذا من العقل تجاوب الفرقاء مع الوسطاء السودانيين "الأجاويد" بغية إخراج الوطن من رقعة تقاطع المصالح الخارجية .كما ان هؤلاء الأجاويد أكثر فهما لعمق الصراع وأصدق إخلاصا في بلوغ تسوية شافية.
aloomar@gmail.com