جماع الخيرات: في غياب الناظر جماع مردس، ويا له من غياب!!
عالم عباس محمد نور
6 June, 2021
6 June, 2021
يجتاحنا الحزن أحياناً، فتخنقنا الكلمات فننبهت ويصيبنا العي، حتى أننا نغالط ، فنظن أن ما أصابنا مجرد كابوس من نوم مزعج ، سنفيق منه ، وهيهات! في مثل هذه المواقف المهولة، ربما تتذكر، وأنت تستعيد وعيك رويداً رويدا، وما تبقى من بعض يقينك وإيمانك، وتسترتجع، (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فإن أسعفتك الذاكرة، فقد يطوف بذهنك من أبيات أبي تمام في رثائياته الغرر، أو ابن الرومي أو المتنبي من أمثال: (طوى الجزيرة حتى جاءني خبر/ فزعت فيه بآمالي إلى الكذب.)!
عرفته في منتصف ثمانينات القرن الماضي، جمعني به صديقي وتوأم شعري الأستاذ فضيلي جماع، وكان يعمل مستشاراً بإحدى الشركات الخاصة الكبرى بالمملكة. لم أجد أحداً مهتماً بالثقافة والفن والسياسة مثله، وهو الأنصاري القح، ناظر القبيلة، في أرفع نماذجها وذو الصلات الواسعة، والشخصية الكاريزمية الممتلئة باللطف والهيبة والود. كريم إلى حد متلف، رقيق الحاشية في وداعة الأطفال، طويل البال، واسع الحلم والأناة، أما إذا غضب، ونادراً ما يحدث ذلك، فإنه(شديد الخنزوانة لا يبالي/ أصاب إذا تنمّر أو أصيبا)!
أول لقائنا بدأ في (صالون كردفان) بجدة. كان صالوناً أدبيا، ذاع صيته، وسط السودانيين المقيمين بالمنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، والزوار والمعتمرين، كان "البروف" محمد عبدالله الريح (حساس محمد حساس)، يأتيه من الطائف، كل نصف شهر ليحضر منتداه، وينشط في لجنته التنفيذية، ضمن كوكبة رائعة من الانتلجنسيا، أمثال البروف التجاني الفاتح النور، والبروف ميرغني عبد العزيز، والبروف يونس وأعلام أخرين ، وكان الصالون يجمع أهل الثقافة والفن والأدب ممن رمت بهم ريح المنافي لأسباب عديدة، أواخر التسعينات وبخاصة في تلك الأيام الكالحة من ضراوة أهل الإنقاذ، وفجورهم في الخصومة، أيام الجبهة الوطنية التي نشطت في مقاومة الإنقاذ ولاقت منها ما لاقت من تشريد ومضايقات والامتناع عن تجديد الجوازات وغيرها من صنوف النكال الذي أذاقوه للسودانيين في مختلف مهاجرهم، وبالأخص في دول الخليج! كان صاحبنا، بهمته ومروءته المؤصلة، رجل النجدات والمبادرات المشهودة، وبحكم وزنه قي حزب الأمة، كان محط آمال الكثيرين من أعضاء الحزب، تشهد له بذلك صوره العديدة مع الإمام الراحل، وصديقه الأثير مبارك الفاضل، والذي يكن له محبة ومودة وتقديراً عظيماً، ولا يرضى أن يمسه أي نقد(بالحق أم بالباطل!) وغيرهم من رموز حزب الأمة، تراها في تلك الصور التي تزين جدران شقته الرحبة في تلك الديار.، ويا طالما سهر أهل بيته، (السيدة العظيمة أم كريمتيه، ملاذ وحباب)، الليالي العديدة، في صبر ومحبة وبشاشة، جبلوا عليها، يخدمون التاظر جماع وضيوفه الذين يتوافدون إليه زرافات ووحدانا، ومنهم أصحاب الحوائج والمنقطعون لأسباب عديدة، ومنهم أهل السياسة العابرون، وغيرهم من ذوي الأغراض والمهام. لا يقتصر فضله على هؤلاء، فهو (كالشمس من حيث اتجهت وجدته/ يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا. كالبحر، يهدي للقريب جواهراً/ جوداً، ويرسل للبعيد سحائبا). لقد اشتهر بأنه ظل سخياً بدرجة عظيمة مع أهل الفن والرياضة والثقافة والأدب ممن يفدون إلى جدة، لأسباب مختلفة، يستقبلهم ويستضيفهم ويحشد لهم الناس، وينظم لهم اللقاءات. ليس هذا فحسب، فكم من هؤلاء من جاء مستشفياً فاستعان بمعارفه من أهل الطب فيسروا له العلاج، في المملكة أو بالسفر إلى دولة أخرى، أقعدته التكلفة فتصدى لتذليلها له عبر علاقاته الإنسانية الواسعة. المغتربون الذين في المملكة يعرفون معاناة أقرانهم في جدة، حيث الحجاج والمعتمرون وطلاب الوظائف والذين جاءوا وهدفهم البحث عن عمل، والمنقطعون لأسباب عديدة، حتى سرى بين المغتربين، أن الذي رماه حظ الاغتراب في جدة فعليه بالصبر، والسعي للمخارجة، وإلا ضاعت سنواته هدراً وبلا طائل، فلن يستطيع أن يدخر ريالاً يعود به من غربته!
في إحدى أماسي الصالون المنعقدة في شقته الرحيبة بجدة، في أواخر التسعينات، وكان قد ضم العديد من الرموز الوطنية، لاحظ الدكتور الباقر أحمد عبدالله، رئيس مجلس إدارة جريدة الخرطوم، والتي كانت تصدر إبانئذ من القاهرة، أن الصالون يضم أطيافاً عديدة من الساسة والمثقفين وأهل الفن من جميع السودان، ورأى أن تسمية المنتدى بصالون كردفان يقلل من حجمه، ويحصره في منطقة ضيقة، وبما أن الصالون بهذا الوسع وهذه الرحابة، فإنه يقترح أن يسمى الصالون بمنتدى الإمام عبد الرحمن المهدي، سيما وأن الإمام عبدالرحمن اشتهر بأن كل ألوان الطيف الثقافي والسياسي يجدون عنده الترحاب والأبوة والكرم، والذي يمثله بحق، هذا الصالون، فوجد الاقتراح هوى في النفوس وأجمع الحاضرون عليه. ومنذئذ تحول الصالون إلى منتدى الإمام عبدالرحمن المهدي، وانتخب جماع مردس رئيساً له بالإجماع.
من بعض عورات العمل التطوعي أننا عادة ما نبدأ الأمر بحماس شديد ثم ما يلبث أن تفتر همتنا ويفرنقع الناس فلا تبقى إلا قلة ينهض بهم عبء العمل كله. حتى اللجان التنفيذية التي توكل إليها الإدارة تجد أن الجهد يتحمله البعض منهم فحسب! لم يكن منتدى الإمام استثناءاً، فكان جماع ينهض بالعبء معظمه، جهداً ومالاً واستثماراً لعلاقاته الواسعة، ربما يعاني ويتضايق من هذه الاتكالية، ولكنه لا يتقاعس ويتفهم طبيعة الناس والعمل التطوعي، ويلتمس لهم الأعذار، وهو الناظر الزعيم الخبير بأدواء العمل العام، والحفاظ على شعرة معاوية! يأخذ الناس كما هم، ويلمهم على شعث، وهكذا استمر المنتدى، يجمع الناس باهتماماتهم المختلفة، ومشاربهم فظل واحة يتفيأ ظلالها أهل الأدب والفن والرياضة والثقافة، من المقيمين والعابرين، وما أكثر العابرين من وإلى وعبر جدة! لا أعلم مثقفاً ذا شأن أو رياضياً أو فناناً موسيقياً، مسرحياً أو تشكيلياً مر من هنا دون أن يستقبله جماع باعتباره رئيساً للمنتدى أو بصفته الشخصية، مر من هنا حميد، القدال، أزهري محمد علي، عبدالقادر الكتيابي، الفاتح محيي الدين، وغيرهم وغيرهم، من جاء مدعواً إلى سوق عكاظ، أو إلى الجنادرية في الرياض، ومر عبر جدة زائراً أو معتمراً، مستشفياً أو حتى متبضعاً، إلا وكان وجد منه الترحاب والهدايا، وحسن الاستقبال. ظل المنتدى يقيم الليالي واللقاءات الراتبة للمناسبات السودانية المختلفة، الاحتفاء بذكرى استقلال السودان، ذكرى أكتوبر، انتفاضة ابريل، الاحتفاء بحميد، مصطفى سيداحمد، حملة علاج محمد وردي، عبدالرحمن عبدالله، محجوب شريف، دعم الحملات الخيرية للمنكوبين من الفيضانات وغيرها من المبادرات والفعاليات، منفرداً أو بالتضامن مع منتدى السودان الثقافي الاجتماعي، برئاسة البروف ميرغني أحمد عبد العزيز، والناشط محمد كتي، هذا المنتدي العريق الآخر والذي قام وما يزال يقوم بدور عظيم في العناية بالثقافة والفن وأهله في المنطقة الغربية بالمملكة العربية السعودية، ولعل الكثيرين من المقيمين بجدة يذكرون التجربة الجريئة التي قام بها منتدى الإمام في ابريل، عام 2004، حين أصبح حزب الأمة شريكاً في الحكم، إبان المصالحة الأولى، إذ طلبوا مني تقديم محاضرة عن (دور منظمات المجتمع المدني السوداني في دارفور والخروج من حالة العجز الراهنة)، وأن تكون المحاضرة داخل القنصلية السودانية بجدة، وهي المكان الذي ظل حكراً لأهل الإنقاذ، وكانت نقلة نوعية أن يتم اقتحام القنصلية بمثل هذه الاسهامات الفكرية، وصادف أن كان الرجل الثاني في القنصلية، السفير فيما بعد، الأستاذ ماجد يوسف، وهو من ابناء دارفور من ذوي الفهم المستنير، قد بارك هذه الخطوة، فتمت المحاضرة بنجاح وحضور منقطع النظير، ووسط اعتراض كبير من أهل الانقاذ حتى أنهم وصفوا المحاضر بأنه يتبنى أجندة التمرد وأن الطرح لا ينصف جهد الحكومة في حل الأزمة، وأن القنصلية يجب ألا تفتح أبوابها لمثل هذه الأنشطة! كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي نظمت فيها فعالية ثقافية في القنصلية، منذ عقود، بمثل تلك الجرأة والشفافية. كانت فكرة جماع أن تفتح أبواب القنصلية كملتقى للسودانيين جميعاً وأن يكون منبراً للفكر والثقافة والفن والرياضة، وفق ضوابط ونظم دولة المقر، ولكن ماعون الإنقاذ ما كان ليتسع لمثل هذا!
ظل البروف ميرغني أحمد عبد العزيز، رئيس منتدى السودان الثقافي الاجتماعي، يلقب الأستاذ جماع مردس، دائماً، ب(جماع الخيرات)، في كل مرة يخاطبه فيها، تأكيداً واعترافاً بما يقدمه بأريحية وكرم بالغين، فلقد كان جماع، وهو رئيس منتدى الإمام عبدالرحمن المهدي، عضواً فعالاً نشطاً أيضاً في هذا المنتدى، وكم من صولات وجولات له فيه وأياد.
لايقتصر دور جماع فيما ذكرنا فحسب، فلقد كان ناظر قبيلة عن جدارة واستحقاق، ويتجلى ذلك ليس في التأبين الضخم الذي أقامه أبناء دار حامد، بمناطقهم المختلفة ومهاجرهم، أو كما قال أبو النور، أحد شعرائهم (فقد العامة مو فقد المعاليا براها، النوق ترزم والخيل فارقت مجراها)، فجماع كان يرعى في كتمان وصمت، عوائل وأرامل ومحتاجين، يتعهدهم ويتفقد أحوالهم، ويمدهم بما تيسر، بانتظام وخقاء، ويستجيب لنداء المستغيث والملهوف، وكان كثير التأثر قريب الدمعة، سريع الاستجابة وعظيم الوفاء لأهله وأصدقائه، وما أكثرهم! حتى تظن أن كل فرد صديقه أو من أهله. كان كاتباً نشطاً في "سودانايل" و"الراكوبة"، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب السودانيين، وأسهم مع الأصدقاء د. بشرى الفاضل ود. لمياء شمت ، والأستاذ الطيب برير، والأستاذ عثمان عابدين في تكوين فرع لاتحاد الكتاب السودانيين بجدة، وقد قاموا بجهد رائع هنالك ، وإن تعثر مسعاهم بعدئذ، لدواع وأسباب مختلفة كالهجرة، والعودة للوطن وغيرها من الأسباب.
لن تنمحي من ذاكرتي أبداً الاحتفاءات التي أقامها المنتدى لشخصي في المناسبات المختلفة، ولا الوداع الفخيم الذي خصوني به إبان عودتي النهائية للوطن في يناير 2008، ولا الكلمات الدرر التي قلدونيها، وما أزال كلما أعود، في كل عام إلى جدة، كان هو أول من يستقبلني، وينظم اللقاءات الثقافية على شرفي، ويجعل من حضوري مناسبة ثقافية، يجنمع حولها الأحباب الذين عشت بينهم ربع قرن من الزمان، سنوات مفعمة بالحيوية وأعذب الذكريات. كان أخي بحق، على نهج أبي تمام:
( وقلت أخي، قالوا أخٌ ذو قرابة فقلتُ ولكن الشكول أقارب).
أحزنني أني يوم وصلت جدة في العاشر من أكتوبر، لم يكن جماع في استقبالي، كان الكرونا قد أصابه، وكان في العزل الصحي، فلم يلبث سوى يومين من وصولي حتى لبى نداء ربه، راضياً مرضياً، وترك لنا الحسرة والتفجع على فقدنا العظيم.
(فتي ينفح الأقوام من طيب ذكره ثناءاً كأن العنبر الورد شامله
مليك لأملاك تضيف ضيوفه ويرجى مرجّيه، ويسأل سائله) " ابو تمام"
وهكذا لن تبدو جدة في عيني أبداً كما كانت، ولا في أعين الكثيرين الذي عرفوا جماع مردس عبدالله، فثمة منارة سامقة وانطفأت، ومورد عذب أصبح ماؤه غوراً، والعلم الذي كانت تأتم الهداة به، عصف الدهر به فهوى، وهاأنذا استرجع قول أبي تمام متحسراً:
(فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ووحدة من فيها لمصرع واحد
خلائق كانت كالثغور تخرقت وكان عليها واقفاً كالمجاهد)
عالم عباس/ الخرطوم مايو2021
alim.nor@gmail.com
////////////////////
عرفته في منتصف ثمانينات القرن الماضي، جمعني به صديقي وتوأم شعري الأستاذ فضيلي جماع، وكان يعمل مستشاراً بإحدى الشركات الخاصة الكبرى بالمملكة. لم أجد أحداً مهتماً بالثقافة والفن والسياسة مثله، وهو الأنصاري القح، ناظر القبيلة، في أرفع نماذجها وذو الصلات الواسعة، والشخصية الكاريزمية الممتلئة باللطف والهيبة والود. كريم إلى حد متلف، رقيق الحاشية في وداعة الأطفال، طويل البال، واسع الحلم والأناة، أما إذا غضب، ونادراً ما يحدث ذلك، فإنه(شديد الخنزوانة لا يبالي/ أصاب إذا تنمّر أو أصيبا)!
أول لقائنا بدأ في (صالون كردفان) بجدة. كان صالوناً أدبيا، ذاع صيته، وسط السودانيين المقيمين بالمنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، والزوار والمعتمرين، كان "البروف" محمد عبدالله الريح (حساس محمد حساس)، يأتيه من الطائف، كل نصف شهر ليحضر منتداه، وينشط في لجنته التنفيذية، ضمن كوكبة رائعة من الانتلجنسيا، أمثال البروف التجاني الفاتح النور، والبروف ميرغني عبد العزيز، والبروف يونس وأعلام أخرين ، وكان الصالون يجمع أهل الثقافة والفن والأدب ممن رمت بهم ريح المنافي لأسباب عديدة، أواخر التسعينات وبخاصة في تلك الأيام الكالحة من ضراوة أهل الإنقاذ، وفجورهم في الخصومة، أيام الجبهة الوطنية التي نشطت في مقاومة الإنقاذ ولاقت منها ما لاقت من تشريد ومضايقات والامتناع عن تجديد الجوازات وغيرها من صنوف النكال الذي أذاقوه للسودانيين في مختلف مهاجرهم، وبالأخص في دول الخليج! كان صاحبنا، بهمته ومروءته المؤصلة، رجل النجدات والمبادرات المشهودة، وبحكم وزنه قي حزب الأمة، كان محط آمال الكثيرين من أعضاء الحزب، تشهد له بذلك صوره العديدة مع الإمام الراحل، وصديقه الأثير مبارك الفاضل، والذي يكن له محبة ومودة وتقديراً عظيماً، ولا يرضى أن يمسه أي نقد(بالحق أم بالباطل!) وغيرهم من رموز حزب الأمة، تراها في تلك الصور التي تزين جدران شقته الرحبة في تلك الديار.، ويا طالما سهر أهل بيته، (السيدة العظيمة أم كريمتيه، ملاذ وحباب)، الليالي العديدة، في صبر ومحبة وبشاشة، جبلوا عليها، يخدمون التاظر جماع وضيوفه الذين يتوافدون إليه زرافات ووحدانا، ومنهم أصحاب الحوائج والمنقطعون لأسباب عديدة، ومنهم أهل السياسة العابرون، وغيرهم من ذوي الأغراض والمهام. لا يقتصر فضله على هؤلاء، فهو (كالشمس من حيث اتجهت وجدته/ يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا. كالبحر، يهدي للقريب جواهراً/ جوداً، ويرسل للبعيد سحائبا). لقد اشتهر بأنه ظل سخياً بدرجة عظيمة مع أهل الفن والرياضة والثقافة والأدب ممن يفدون إلى جدة، لأسباب مختلفة، يستقبلهم ويستضيفهم ويحشد لهم الناس، وينظم لهم اللقاءات. ليس هذا فحسب، فكم من هؤلاء من جاء مستشفياً فاستعان بمعارفه من أهل الطب فيسروا له العلاج، في المملكة أو بالسفر إلى دولة أخرى، أقعدته التكلفة فتصدى لتذليلها له عبر علاقاته الإنسانية الواسعة. المغتربون الذين في المملكة يعرفون معاناة أقرانهم في جدة، حيث الحجاج والمعتمرون وطلاب الوظائف والذين جاءوا وهدفهم البحث عن عمل، والمنقطعون لأسباب عديدة، حتى سرى بين المغتربين، أن الذي رماه حظ الاغتراب في جدة فعليه بالصبر، والسعي للمخارجة، وإلا ضاعت سنواته هدراً وبلا طائل، فلن يستطيع أن يدخر ريالاً يعود به من غربته!
في إحدى أماسي الصالون المنعقدة في شقته الرحيبة بجدة، في أواخر التسعينات، وكان قد ضم العديد من الرموز الوطنية، لاحظ الدكتور الباقر أحمد عبدالله، رئيس مجلس إدارة جريدة الخرطوم، والتي كانت تصدر إبانئذ من القاهرة، أن الصالون يضم أطيافاً عديدة من الساسة والمثقفين وأهل الفن من جميع السودان، ورأى أن تسمية المنتدى بصالون كردفان يقلل من حجمه، ويحصره في منطقة ضيقة، وبما أن الصالون بهذا الوسع وهذه الرحابة، فإنه يقترح أن يسمى الصالون بمنتدى الإمام عبد الرحمن المهدي، سيما وأن الإمام عبدالرحمن اشتهر بأن كل ألوان الطيف الثقافي والسياسي يجدون عنده الترحاب والأبوة والكرم، والذي يمثله بحق، هذا الصالون، فوجد الاقتراح هوى في النفوس وأجمع الحاضرون عليه. ومنذئذ تحول الصالون إلى منتدى الإمام عبدالرحمن المهدي، وانتخب جماع مردس رئيساً له بالإجماع.
من بعض عورات العمل التطوعي أننا عادة ما نبدأ الأمر بحماس شديد ثم ما يلبث أن تفتر همتنا ويفرنقع الناس فلا تبقى إلا قلة ينهض بهم عبء العمل كله. حتى اللجان التنفيذية التي توكل إليها الإدارة تجد أن الجهد يتحمله البعض منهم فحسب! لم يكن منتدى الإمام استثناءاً، فكان جماع ينهض بالعبء معظمه، جهداً ومالاً واستثماراً لعلاقاته الواسعة، ربما يعاني ويتضايق من هذه الاتكالية، ولكنه لا يتقاعس ويتفهم طبيعة الناس والعمل التطوعي، ويلتمس لهم الأعذار، وهو الناظر الزعيم الخبير بأدواء العمل العام، والحفاظ على شعرة معاوية! يأخذ الناس كما هم، ويلمهم على شعث، وهكذا استمر المنتدى، يجمع الناس باهتماماتهم المختلفة، ومشاربهم فظل واحة يتفيأ ظلالها أهل الأدب والفن والرياضة والثقافة، من المقيمين والعابرين، وما أكثر العابرين من وإلى وعبر جدة! لا أعلم مثقفاً ذا شأن أو رياضياً أو فناناً موسيقياً، مسرحياً أو تشكيلياً مر من هنا دون أن يستقبله جماع باعتباره رئيساً للمنتدى أو بصفته الشخصية، مر من هنا حميد، القدال، أزهري محمد علي، عبدالقادر الكتيابي، الفاتح محيي الدين، وغيرهم وغيرهم، من جاء مدعواً إلى سوق عكاظ، أو إلى الجنادرية في الرياض، ومر عبر جدة زائراً أو معتمراً، مستشفياً أو حتى متبضعاً، إلا وكان وجد منه الترحاب والهدايا، وحسن الاستقبال. ظل المنتدى يقيم الليالي واللقاءات الراتبة للمناسبات السودانية المختلفة، الاحتفاء بذكرى استقلال السودان، ذكرى أكتوبر، انتفاضة ابريل، الاحتفاء بحميد، مصطفى سيداحمد، حملة علاج محمد وردي، عبدالرحمن عبدالله، محجوب شريف، دعم الحملات الخيرية للمنكوبين من الفيضانات وغيرها من المبادرات والفعاليات، منفرداً أو بالتضامن مع منتدى السودان الثقافي الاجتماعي، برئاسة البروف ميرغني أحمد عبد العزيز، والناشط محمد كتي، هذا المنتدي العريق الآخر والذي قام وما يزال يقوم بدور عظيم في العناية بالثقافة والفن وأهله في المنطقة الغربية بالمملكة العربية السعودية، ولعل الكثيرين من المقيمين بجدة يذكرون التجربة الجريئة التي قام بها منتدى الإمام في ابريل، عام 2004، حين أصبح حزب الأمة شريكاً في الحكم، إبان المصالحة الأولى، إذ طلبوا مني تقديم محاضرة عن (دور منظمات المجتمع المدني السوداني في دارفور والخروج من حالة العجز الراهنة)، وأن تكون المحاضرة داخل القنصلية السودانية بجدة، وهي المكان الذي ظل حكراً لأهل الإنقاذ، وكانت نقلة نوعية أن يتم اقتحام القنصلية بمثل هذه الاسهامات الفكرية، وصادف أن كان الرجل الثاني في القنصلية، السفير فيما بعد، الأستاذ ماجد يوسف، وهو من ابناء دارفور من ذوي الفهم المستنير، قد بارك هذه الخطوة، فتمت المحاضرة بنجاح وحضور منقطع النظير، ووسط اعتراض كبير من أهل الانقاذ حتى أنهم وصفوا المحاضر بأنه يتبنى أجندة التمرد وأن الطرح لا ينصف جهد الحكومة في حل الأزمة، وأن القنصلية يجب ألا تفتح أبوابها لمثل هذه الأنشطة! كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي نظمت فيها فعالية ثقافية في القنصلية، منذ عقود، بمثل تلك الجرأة والشفافية. كانت فكرة جماع أن تفتح أبواب القنصلية كملتقى للسودانيين جميعاً وأن يكون منبراً للفكر والثقافة والفن والرياضة، وفق ضوابط ونظم دولة المقر، ولكن ماعون الإنقاذ ما كان ليتسع لمثل هذا!
ظل البروف ميرغني أحمد عبد العزيز، رئيس منتدى السودان الثقافي الاجتماعي، يلقب الأستاذ جماع مردس، دائماً، ب(جماع الخيرات)، في كل مرة يخاطبه فيها، تأكيداً واعترافاً بما يقدمه بأريحية وكرم بالغين، فلقد كان جماع، وهو رئيس منتدى الإمام عبدالرحمن المهدي، عضواً فعالاً نشطاً أيضاً في هذا المنتدى، وكم من صولات وجولات له فيه وأياد.
لايقتصر دور جماع فيما ذكرنا فحسب، فلقد كان ناظر قبيلة عن جدارة واستحقاق، ويتجلى ذلك ليس في التأبين الضخم الذي أقامه أبناء دار حامد، بمناطقهم المختلفة ومهاجرهم، أو كما قال أبو النور، أحد شعرائهم (فقد العامة مو فقد المعاليا براها، النوق ترزم والخيل فارقت مجراها)، فجماع كان يرعى في كتمان وصمت، عوائل وأرامل ومحتاجين، يتعهدهم ويتفقد أحوالهم، ويمدهم بما تيسر، بانتظام وخقاء، ويستجيب لنداء المستغيث والملهوف، وكان كثير التأثر قريب الدمعة، سريع الاستجابة وعظيم الوفاء لأهله وأصدقائه، وما أكثرهم! حتى تظن أن كل فرد صديقه أو من أهله. كان كاتباً نشطاً في "سودانايل" و"الراكوبة"، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب السودانيين، وأسهم مع الأصدقاء د. بشرى الفاضل ود. لمياء شمت ، والأستاذ الطيب برير، والأستاذ عثمان عابدين في تكوين فرع لاتحاد الكتاب السودانيين بجدة، وقد قاموا بجهد رائع هنالك ، وإن تعثر مسعاهم بعدئذ، لدواع وأسباب مختلفة كالهجرة، والعودة للوطن وغيرها من الأسباب.
لن تنمحي من ذاكرتي أبداً الاحتفاءات التي أقامها المنتدى لشخصي في المناسبات المختلفة، ولا الوداع الفخيم الذي خصوني به إبان عودتي النهائية للوطن في يناير 2008، ولا الكلمات الدرر التي قلدونيها، وما أزال كلما أعود، في كل عام إلى جدة، كان هو أول من يستقبلني، وينظم اللقاءات الثقافية على شرفي، ويجعل من حضوري مناسبة ثقافية، يجنمع حولها الأحباب الذين عشت بينهم ربع قرن من الزمان، سنوات مفعمة بالحيوية وأعذب الذكريات. كان أخي بحق، على نهج أبي تمام:
( وقلت أخي، قالوا أخٌ ذو قرابة فقلتُ ولكن الشكول أقارب).
أحزنني أني يوم وصلت جدة في العاشر من أكتوبر، لم يكن جماع في استقبالي، كان الكرونا قد أصابه، وكان في العزل الصحي، فلم يلبث سوى يومين من وصولي حتى لبى نداء ربه، راضياً مرضياً، وترك لنا الحسرة والتفجع على فقدنا العظيم.
(فتي ينفح الأقوام من طيب ذكره ثناءاً كأن العنبر الورد شامله
مليك لأملاك تضيف ضيوفه ويرجى مرجّيه، ويسأل سائله) " ابو تمام"
وهكذا لن تبدو جدة في عيني أبداً كما كانت، ولا في أعين الكثيرين الذي عرفوا جماع مردس عبدالله، فثمة منارة سامقة وانطفأت، ومورد عذب أصبح ماؤه غوراً، والعلم الذي كانت تأتم الهداة به، عصف الدهر به فهوى، وهاأنذا استرجع قول أبي تمام متحسراً:
(فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ووحدة من فيها لمصرع واحد
خلائق كانت كالثغور تخرقت وكان عليها واقفاً كالمجاهد)
عالم عباس/ الخرطوم مايو2021
alim.nor@gmail.com
////////////////////