جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (1 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
17 November, 2023
17 November, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
في 23 شباط (فبراير) 1820م خطَّطت ثلة من المستائين في بريطانيا في القيام بمذبحة مجلس الوزراء، بما فيهم رئيس الوزراء، الذين كانوا يزمعون تناول وجبة العشاء في ميدان قروسفينر، وتعليق رؤوسهم على جسر وستمنستر، وذلك في المخطط الذي عُرف إعلاميَّاً ب"مؤامرة شارع كاتو"، وبعدئذٍ تأسيس حكومة ثوريَّة باسم "لجنة الأمان" مثلما فعل ماكسيميليان روبسبيير وتأسيسه "لجنة السلامة العامة" القويَّة إبَّان الثورة الفرنسيَّة العام 1789م. لكن سرعان ما أُحبطت محاولتهم، وقُتل من قُتل في إسطبل بشارع إيدجور وسط لندن، وأُعدم من قُبض عليه. إذ أقدمت الحكومة البريطانيَّة على تنفيذ هذه العقوبات الغليظة حتى لا يخوض مع الخائضين من تسوَّل له نفسه في هذه السبيل في المستقبل. غير أنَّ استياءهم قد أجبر الحكومة البريطانيَّة على إجراء إصلاحات سياسيَّة، والإقدام على تحسين أوضاع المستائين المزرية المتمثِّلة في القوانين الستة التي ظلَّت تعاقب التجمُّع، وتقيِّد حريَّة التعبير، ولا تُحسن حيواتهم المتمثِّلة في السكن العشوائي، والاكتظاظ الأسري بعددٍ من الأطفال، والرسوخ في الغضب والفقر المدقع.
بعد إعدام قادة التمرُّد في الأحداث التي اندلعت في حامية توريت في جنوب السُّودان في 18 آب (أغسطس) 1955م لم تتم معالجة القضايا السياسيَّة التي في سبيلها تمرَّد هؤلاء الجنود. ولكن هل يعتقد القارئ الحصيف أنَّ حركة توريت انتهت إلى لا شيء؟ كلا، إنَّ كل ثورة، أو حركة، مهما أصابت من النجاح أو الفشل الذريع، هي وقود لثورة قادمة ومعركة تحرُّريَّة تالية. فالثورة غير الناجحة تنجح في تبيان أخطاء إخفاقها، وتقود إلى ثورة أمضى. وحركة توريت في 18 آب (أغسطس) 1955م كانت – على الأرجح – استهلالاً لحركة الأنيانيا، أو حركة تحرير جنوب السُّودان، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وغيرها من الحركات التي نشأت في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وإقليم الفونج وإقليم البجة في شرق السُّودان وإقليم دارفور، وذلك بعد إطالة مرعبة على الحروب الأهليَّة السحيقة في البلاد. غير أنَّ ما ألصق به الحكام في الخرطوم الحركات الاجتماعيَّة والتحرُّريَّة من أعمال منكرة، وأوصاف فاجرة، قد بولغ فيه أيما مبالغة، فيزوِّرون التاريخ، ويلصقون بهذه الحركات التُّهم الخياليَّة التي تتمزق وتتناثر مع الأيَّام، لأنَّ شمس الحقيقة أسطع، ولو كره المزوِّرون.
في مسألة جنوب السُّودان استوقفتني ورقة كتبها الدكتور أحمد العلي بعنوان "جنوب السُّودان.. حقيقة المشكلة ونشأتها"، ونشرها في حوليَّة "السنة". أقدم الكاتب الباحث الدكتور العلي على تدوين سياحة نظريَّة تاريخيَّة حول خلفيَّة دخول الإسلام إلى القارة الإفريقيَّة، وذلك انطلاقاً من "نظريَّة المؤامرة" حيث ربط مشكل السُّودان في جنوبه ب"الاستعمار المباشر وغير المباشر"، وزعم أنَّ الإسلام قد دخل إلى "الجنوب الغربي السُّوداني على يد تاجر مسلم يُدعى الزبير رحمة، الذي أقام مملكة له العام 1274ه (1858م) في بحر الغزال، ثمَّ تمدَّد شمالاً فضمَّ إليه منطقة دارفور بعد أن أسقط مملكة سليمان بن أحمد، ثمَّ بايع العثمانيين، وأذعن لهم." بعدئذٍ مضى الكاتب الباحث مدَّعياً بأنَّ السكان المقيمين في جنوب السُّودان "ما هم إلا قبائل مهاجرة من مناطق أخرى، ولا يمكن لأحدٍ منها أن تزعم أنَّها أصيلة في المنطقة، إذ ليس لها وجود أو استقرار قديم، فضلاً عن أنَّها تنتشر في الدول الأخرى المجاورة." واستطرد الكاتب قائلاً: "تشكل القبائل العربيَّة منها 40%، والباقية من أواسط إفريقيا وأدغالها (...)."
للمقال بقايا باقيات،،،
في 23 شباط (فبراير) 1820م خطَّطت ثلة من المستائين في بريطانيا في القيام بمذبحة مجلس الوزراء، بما فيهم رئيس الوزراء، الذين كانوا يزمعون تناول وجبة العشاء في ميدان قروسفينر، وتعليق رؤوسهم على جسر وستمنستر، وذلك في المخطط الذي عُرف إعلاميَّاً ب"مؤامرة شارع كاتو"، وبعدئذٍ تأسيس حكومة ثوريَّة باسم "لجنة الأمان" مثلما فعل ماكسيميليان روبسبيير وتأسيسه "لجنة السلامة العامة" القويَّة إبَّان الثورة الفرنسيَّة العام 1789م. لكن سرعان ما أُحبطت محاولتهم، وقُتل من قُتل في إسطبل بشارع إيدجور وسط لندن، وأُعدم من قُبض عليه. إذ أقدمت الحكومة البريطانيَّة على تنفيذ هذه العقوبات الغليظة حتى لا يخوض مع الخائضين من تسوَّل له نفسه في هذه السبيل في المستقبل. غير أنَّ استياءهم قد أجبر الحكومة البريطانيَّة على إجراء إصلاحات سياسيَّة، والإقدام على تحسين أوضاع المستائين المزرية المتمثِّلة في القوانين الستة التي ظلَّت تعاقب التجمُّع، وتقيِّد حريَّة التعبير، ولا تُحسن حيواتهم المتمثِّلة في السكن العشوائي، والاكتظاظ الأسري بعددٍ من الأطفال، والرسوخ في الغضب والفقر المدقع.
بعد إعدام قادة التمرُّد في الأحداث التي اندلعت في حامية توريت في جنوب السُّودان في 18 آب (أغسطس) 1955م لم تتم معالجة القضايا السياسيَّة التي في سبيلها تمرَّد هؤلاء الجنود. ولكن هل يعتقد القارئ الحصيف أنَّ حركة توريت انتهت إلى لا شيء؟ كلا، إنَّ كل ثورة، أو حركة، مهما أصابت من النجاح أو الفشل الذريع، هي وقود لثورة قادمة ومعركة تحرُّريَّة تالية. فالثورة غير الناجحة تنجح في تبيان أخطاء إخفاقها، وتقود إلى ثورة أمضى. وحركة توريت في 18 آب (أغسطس) 1955م كانت – على الأرجح – استهلالاً لحركة الأنيانيا، أو حركة تحرير جنوب السُّودان، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وغيرها من الحركات التي نشأت في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وإقليم الفونج وإقليم البجة في شرق السُّودان وإقليم دارفور، وذلك بعد إطالة مرعبة على الحروب الأهليَّة السحيقة في البلاد. غير أنَّ ما ألصق به الحكام في الخرطوم الحركات الاجتماعيَّة والتحرُّريَّة من أعمال منكرة، وأوصاف فاجرة، قد بولغ فيه أيما مبالغة، فيزوِّرون التاريخ، ويلصقون بهذه الحركات التُّهم الخياليَّة التي تتمزق وتتناثر مع الأيَّام، لأنَّ شمس الحقيقة أسطع، ولو كره المزوِّرون.
في مسألة جنوب السُّودان استوقفتني ورقة كتبها الدكتور أحمد العلي بعنوان "جنوب السُّودان.. حقيقة المشكلة ونشأتها"، ونشرها في حوليَّة "السنة". أقدم الكاتب الباحث الدكتور العلي على تدوين سياحة نظريَّة تاريخيَّة حول خلفيَّة دخول الإسلام إلى القارة الإفريقيَّة، وذلك انطلاقاً من "نظريَّة المؤامرة" حيث ربط مشكل السُّودان في جنوبه ب"الاستعمار المباشر وغير المباشر"، وزعم أنَّ الإسلام قد دخل إلى "الجنوب الغربي السُّوداني على يد تاجر مسلم يُدعى الزبير رحمة، الذي أقام مملكة له العام 1274ه (1858م) في بحر الغزال، ثمَّ تمدَّد شمالاً فضمَّ إليه منطقة دارفور بعد أن أسقط مملكة سليمان بن أحمد، ثمَّ بايع العثمانيين، وأذعن لهم." بعدئذٍ مضى الكاتب الباحث مدَّعياً بأنَّ السكان المقيمين في جنوب السُّودان "ما هم إلا قبائل مهاجرة من مناطق أخرى، ولا يمكن لأحدٍ منها أن تزعم أنَّها أصيلة في المنطقة، إذ ليس لها وجود أو استقرار قديم، فضلاً عن أنَّها تنتشر في الدول الأخرى المجاورة." واستطرد الكاتب قائلاً: "تشكل القبائل العربيَّة منها 40%، والباقية من أواسط إفريقيا وأدغالها (...)."
للمقال بقايا باقيات،،،