جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (2 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
19 November, 2023
19 November, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
بادئ ذي بدء، إنَّ التاريخ لا يكتب بهذا الشكل المبتور العاطفي مع إضفاء الذاتيَّة النفسيَّة على تسجيل الأحداث التي خلت، وتجاهل الأخطاء الكثيرة التي مارستها القيادات الشمالية (الوطنيَّة)، وإبعاد الجذور والمنطلقات التاريخيَّة والفروق الثقافيَّة التي تساعد في الفهم، والإلمام بالقضية قيد البحث، وتقشع غبار الأباطيل المتداولة عما أسموه "مشكلة الجنوب" ابتداءً، وذلك قبل أن يتم تصحيح المصطلح إلى مشكل السُّودان في الجنوب. لعلَّ من أفدح الأخطاء البحثيَّة كتابة التاريخ باستخدام المنهج الديني في التحليل. محاولة أسلمة التاريخ قطعاً يرمي بالمؤرِّخ في المحظورات البحثيَّة، لأنَّ إطار دراسة التاريخ هو إطار دنيوي يخضع للقوانين الكونيَّة والسنن الاجتماعيَّة، ولا علاقة له بالواجبات والتكاليف الشرعيَّة الدينيَّة، ومن ثمَّ فإنَّ وسائل البحث فيه هي الحس والتجربة والعقل. في هذه الأثناء يقتصر دور المؤرِّخ لأحداث التاريخ على المشاهدة والتدوين الأمين والاستفادة من عبرها. أما فرض أفكار وفلسفات مسبقة ومقرَّرة من خارج التاريخ فهي عمليَّة فجة وغريبة عن طبيعة التاريخ، وتؤدِّي في النهاية إلى تشويه حقائقه.
بحثنا في أمر الزبير باشا رحمة ما وسعنا البحث في جميع السجلات التاريخيَّة العديدة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، ولم نعثر على معلومة واحدة تشير إلى أنَّ الزبير باشا رحمة ذهب إلى جنوب السُّودان للتبشير بالدين الإسلامي. لعلَّ كل ما يعرفه الداني والقاصي عن الزبير أنَّه كان تاجراً مغامراً، وقد سافر إلى الجنوب في معيَّة كفيله، وأنشأ لاحقاً إمبراطوريَّة ضخمة لتجارة الرِّق، وكوَّن من هؤلاء الأرقاء جنوداً (بازنغر) حارب بها القبائل في الجنوب في سبيل صيد الرقيق، وذلك قبل أن يحارب بها قبيلة الرزيقات التي كانت تعترض قوافل تجارته في البشر والسلع الأخرى. وبعد عدائيات مع الرزيقات فرَّ بعض شيوخهم مستغيثين بسلطان دارفور، ونشبت حربٌ شعواء بين الزبير وسلطنة دارفور في موقعة منواشي العام 1874م، حيث استبسل فيها السلطان إبراهيم بن محمد حسين بن محمد الفضل بن عبد الرحمن الرشيد (المعروف بإبراهيم قرض). بهزيمة السلطان واستشهاده في هذه المعركة استطاع الزبير رحمة السيطرة على سلطنة دارفور، وتسليمها من بعد لوالي مصر محمد علي باشا مقابل منحه لقب الباشا. إذاً، أين جهود نشر الإسلام من قبل الزبير ود رحمة في النشاطات التجاريَّة التي كان يزاولها في بحر الغزال من ريش النعام وسن الفيل (العاج) والعسل وجلود الحيوانات وغيرها، والأسوأ في الأمر تجارة الرِّق. ذاك هو التاريخ في بعده الماضوي الحقيقي إذا ابتغينا إعادة وصله بما دار في ذينك الزمان والمكان. بيد أنَّ الزبير لم يكن وحده لا شريك له في هذه التجارة النحسة، بل كان هناك كثر من التجار ممن وفدوا من الشام ومصر وأوروبا، وانخرطوا في هذا المورد المالي الشنيع البشع، وقد كتبنا عنهم بشيء من الإسهاب شديد في إصداراتنا التي نشرناها، وهي متوفِّرة في المكتبات ومعارض الكتاب، التي تقام في العواصم العربيَّة بين الحين والأخر.
الدكتور العلي لم يكن موفقاً في الادِّعاء بأنَّ سكان السُّودان "ما هم إلا قبائل مهاجرة من مناطق أخرى"، مما يعني أنَّ أرض السُّودان كانت بلقاءً بلا مواطنين! إذا كان الأمر كذلك فضد مَنْ كانت تلك الحروب التي خاضها الغزاة لدخول السُّودان؟ سواء أكانت معركة دنقلا بين العرب المسلمين ومملكة النوبة المسيحيَّة العام 652م وتوقيع معاهدة البقط، أم معارك الأتراك-المصريين ضد مملكة سنار (الفونج) في سنار العام 1821م، أم ضد مملكة المسبَّعات في الأُبيِّض في معركة بارا الشهيرة العام 1821م. في تلك المعارك استبسل سكان البلاد الأصلاء في ساحات الوغي أيما استبسال! قد يكون هناك بعض القبائل الحدوديَّة المتساكنة في دولتين متجاورتين أو أكثر حسب الحدود السياسيَّة التي رسمها الاستعمار. بيد أنَّ هذا ليس بالشيء الغريب، والسُّودان ليس فريداً في هذا الشأن، بل في أغلب دول العالم تشارك مجموعات إثنيَّة أراضي دولها.
أما النسبة المئويَّة التي أوردها الدكتور العلي بأنَّ القبائل العربيَّة تشكِّل 40% من تعداد سكان السُّودان، فنحن إذ نندهش أين له بهذه النسبة التي أوردها دون أن يذكر مصدرها. حسبما ورد في الإحصاء السكاني الأول في السُّودان العام 1955م، وجرى الإعلان عن نتائج العام 1956م، فقد تمَّ تصنيف السكان إلى ثمانٍ مجموعات إثنيَّة رئيسة ومجموعة دون انتماء قبلي
حتى هؤلاء الذين عبَّروا عن أنفسهم بأنَّهم عرب، ولنا في عروبتهم شك مريب، إلا أنَّهم حالما يعبرون الحدود شمالاً أو البحر الأحمر تلقاء الحجاز أو شمالاً في الشمام أو شرقاً في بلاد الرافدين، لوجدوا أنفسهم في تصنيف آخر الذي قد يتبعه النعت القدحي ليس في الشرق الأوسط فحسب، ولكن في الدول الغربيَّة كافة. وفي هذا الأمر تقبع أزمة السُّودان في الهُويَّة القوميَّة كما عبَّر عن ذلك صديقنا الحميم الدكتور الباقر عفيف مختار في ورقة أكاديميَّة ذائعة الصيت والموسومة "متاهة قومٍ سود في ثقافة بيضاء".
للمقال بقايا باقيات،،،
بادئ ذي بدء، إنَّ التاريخ لا يكتب بهذا الشكل المبتور العاطفي مع إضفاء الذاتيَّة النفسيَّة على تسجيل الأحداث التي خلت، وتجاهل الأخطاء الكثيرة التي مارستها القيادات الشمالية (الوطنيَّة)، وإبعاد الجذور والمنطلقات التاريخيَّة والفروق الثقافيَّة التي تساعد في الفهم، والإلمام بالقضية قيد البحث، وتقشع غبار الأباطيل المتداولة عما أسموه "مشكلة الجنوب" ابتداءً، وذلك قبل أن يتم تصحيح المصطلح إلى مشكل السُّودان في الجنوب. لعلَّ من أفدح الأخطاء البحثيَّة كتابة التاريخ باستخدام المنهج الديني في التحليل. محاولة أسلمة التاريخ قطعاً يرمي بالمؤرِّخ في المحظورات البحثيَّة، لأنَّ إطار دراسة التاريخ هو إطار دنيوي يخضع للقوانين الكونيَّة والسنن الاجتماعيَّة، ولا علاقة له بالواجبات والتكاليف الشرعيَّة الدينيَّة، ومن ثمَّ فإنَّ وسائل البحث فيه هي الحس والتجربة والعقل. في هذه الأثناء يقتصر دور المؤرِّخ لأحداث التاريخ على المشاهدة والتدوين الأمين والاستفادة من عبرها. أما فرض أفكار وفلسفات مسبقة ومقرَّرة من خارج التاريخ فهي عمليَّة فجة وغريبة عن طبيعة التاريخ، وتؤدِّي في النهاية إلى تشويه حقائقه.
بحثنا في أمر الزبير باشا رحمة ما وسعنا البحث في جميع السجلات التاريخيَّة العديدة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، ولم نعثر على معلومة واحدة تشير إلى أنَّ الزبير باشا رحمة ذهب إلى جنوب السُّودان للتبشير بالدين الإسلامي. لعلَّ كل ما يعرفه الداني والقاصي عن الزبير أنَّه كان تاجراً مغامراً، وقد سافر إلى الجنوب في معيَّة كفيله، وأنشأ لاحقاً إمبراطوريَّة ضخمة لتجارة الرِّق، وكوَّن من هؤلاء الأرقاء جنوداً (بازنغر) حارب بها القبائل في الجنوب في سبيل صيد الرقيق، وذلك قبل أن يحارب بها قبيلة الرزيقات التي كانت تعترض قوافل تجارته في البشر والسلع الأخرى. وبعد عدائيات مع الرزيقات فرَّ بعض شيوخهم مستغيثين بسلطان دارفور، ونشبت حربٌ شعواء بين الزبير وسلطنة دارفور في موقعة منواشي العام 1874م، حيث استبسل فيها السلطان إبراهيم بن محمد حسين بن محمد الفضل بن عبد الرحمن الرشيد (المعروف بإبراهيم قرض). بهزيمة السلطان واستشهاده في هذه المعركة استطاع الزبير رحمة السيطرة على سلطنة دارفور، وتسليمها من بعد لوالي مصر محمد علي باشا مقابل منحه لقب الباشا. إذاً، أين جهود نشر الإسلام من قبل الزبير ود رحمة في النشاطات التجاريَّة التي كان يزاولها في بحر الغزال من ريش النعام وسن الفيل (العاج) والعسل وجلود الحيوانات وغيرها، والأسوأ في الأمر تجارة الرِّق. ذاك هو التاريخ في بعده الماضوي الحقيقي إذا ابتغينا إعادة وصله بما دار في ذينك الزمان والمكان. بيد أنَّ الزبير لم يكن وحده لا شريك له في هذه التجارة النحسة، بل كان هناك كثر من التجار ممن وفدوا من الشام ومصر وأوروبا، وانخرطوا في هذا المورد المالي الشنيع البشع، وقد كتبنا عنهم بشيء من الإسهاب شديد في إصداراتنا التي نشرناها، وهي متوفِّرة في المكتبات ومعارض الكتاب، التي تقام في العواصم العربيَّة بين الحين والأخر.
الدكتور العلي لم يكن موفقاً في الادِّعاء بأنَّ سكان السُّودان "ما هم إلا قبائل مهاجرة من مناطق أخرى"، مما يعني أنَّ أرض السُّودان كانت بلقاءً بلا مواطنين! إذا كان الأمر كذلك فضد مَنْ كانت تلك الحروب التي خاضها الغزاة لدخول السُّودان؟ سواء أكانت معركة دنقلا بين العرب المسلمين ومملكة النوبة المسيحيَّة العام 652م وتوقيع معاهدة البقط، أم معارك الأتراك-المصريين ضد مملكة سنار (الفونج) في سنار العام 1821م، أم ضد مملكة المسبَّعات في الأُبيِّض في معركة بارا الشهيرة العام 1821م. في تلك المعارك استبسل سكان البلاد الأصلاء في ساحات الوغي أيما استبسال! قد يكون هناك بعض القبائل الحدوديَّة المتساكنة في دولتين متجاورتين أو أكثر حسب الحدود السياسيَّة التي رسمها الاستعمار. بيد أنَّ هذا ليس بالشيء الغريب، والسُّودان ليس فريداً في هذا الشأن، بل في أغلب دول العالم تشارك مجموعات إثنيَّة أراضي دولها.
أما النسبة المئويَّة التي أوردها الدكتور العلي بأنَّ القبائل العربيَّة تشكِّل 40% من تعداد سكان السُّودان، فنحن إذ نندهش أين له بهذه النسبة التي أوردها دون أن يذكر مصدرها. حسبما ورد في الإحصاء السكاني الأول في السُّودان العام 1955م، وجرى الإعلان عن نتائج العام 1956م، فقد تمَّ تصنيف السكان إلى ثمانٍ مجموعات إثنيَّة رئيسة ومجموعة دون انتماء قبلي
حتى هؤلاء الذين عبَّروا عن أنفسهم بأنَّهم عرب، ولنا في عروبتهم شك مريب، إلا أنَّهم حالما يعبرون الحدود شمالاً أو البحر الأحمر تلقاء الحجاز أو شمالاً في الشمام أو شرقاً في بلاد الرافدين، لوجدوا أنفسهم في تصنيف آخر الذي قد يتبعه النعت القدحي ليس في الشرق الأوسط فحسب، ولكن في الدول الغربيَّة كافة. وفي هذا الأمر تقبع أزمة السُّودان في الهُويَّة القوميَّة كما عبَّر عن ذلك صديقنا الحميم الدكتور الباقر عفيف مختار في ورقة أكاديميَّة ذائعة الصيت والموسومة "متاهة قومٍ سود في ثقافة بيضاء".
للمقال بقايا باقيات،،،