جوبا … الوطن إذ يزهر ويذبل!!

 


 

عادل الباز
22 October, 2009

 

عادل الباز

 

 

 

قصصتُ عليكم من قبل حكاية جدّي الشيخ الريح رحمة الله عليه، ولا بأس من إعادتها بمناسبة مؤتمر جوبا. كان جدّي إذا أطلّ في البيت صبي وزغردت النساء، هرول إليهن (تزغردن عارفاتنو يطلع شنو.. عاطل ولاباطل). الذين زغردوا لمؤتمر جوبا قبل أن يروا مخرجاته، كنسوة جدي تعجلوا والذين عادوه ما أعجلهم.

انتظرت لأرى ما سيتمخّض عنه المؤتمر من نتائج لتقييم ماجرى بشكل موضوعي، فالأعمال بخواتيمها. ويجدر بي الآن التوقف عند محطته بما يستحق من عناية. وقبل ذلك نسجل أن أي توافق وطني يجعل القوى السياسية تقف على أرضية واحدة يجد منا الترحيب، فاشد ابتلاءات الساحة السياسية هو التشرذم والصراع وعدم توفر حد أدنى من التراضي الوطني، الشيء الذي جعل من الوطن مسرحا لصراعات لامتناهية منذ الاستقلال وحتى يوم الناس هذا، المؤتمر أنشأ حالة من الحيوية السياسية افتقدتها البلاد ردحا من الزمان، ومثل وقائع اللحظات الفارقة باتجاه تحول ديمقراطي حقيقي، وما التحول الديمقراطي سوى هذا الحراك الحر الساخن. إذن نحن بالاتجاه الصحيح تماما لا أعرف كيف يمكننا بلع مقولة القائد سلفا إن اتفاقية السلام لم يُنفذ منها شيء، وهو على المنصة رئيسا لحكومة الجنوب بموجب نيفاشا، ويرعى هذا الحراك الديمقراطي في الجو الذي أتاحته نيفاشا!!

سأتوقف عند أربع فقرات في إعلان جوبا جديرة بالتأمل.

 تنص الفقرة الثالثة (ب) من إعلان جوبا (وضع قانون الاستفتاء على تقرير المصير خلال الدورة البرلمانية القادمة التي تبدأ في 5 أكتوبر 2009 واعتماد نسبة الأغلبية البسيطة للحسم بين خياري الوحدة أو الانفصال مع ضمان حق جميع الجنوبيين في الاستفتاء).

بهذه الفقرة أذعنت القوى الشمالية لرغبة انفصاليي الجنوب الذين يسعون لفصل الجنوب بأبخس ثمن!!. كيف يمكن للقوى الشمالية التي تنادي بالوحدة أن توافق على الأغلبية البسيطة (50 +1) لفصل الجنوب؟! الرغبة في مكايدة المؤتمر الوطني تقودنا الآن للعبث بمستقبل البلد واستسهال تمزيقه، كان بإمكان القوى الشمالية أن تكون حكما عدلا بين تطرف المؤتمرالوطني الذي يطالب بنسبة 75% وبين مطلب الحركة بالأغلبية البسيطة. موافقة القوى الشمالية على هذه النسبة تشي بأن الأحزاب الشمالية يئست تماما بل هى زاهدة في الوحدة. الغريب أن بعض هذه القوى رفضت منح الجنوبيين الحكم الذاتي عام 1947.

الحركة الشعبية هي الكاسب الأكبر من انتزاع هذا التنازل المجاني من القوى السياسية الشمالية، ولو أن الحركة الشعبية لم تخرج من المؤتمر إلا بهذا المكسب لكفاها، التنازل الوحيد الذي تضمنه هذا البند هو موافقة الحركة أن يشمل الاستفتاء جميع الجنوبيين رغم أن هذا المطلب وافقت عليه الحركة من قبل بحسب تصريحات مشار مع وضع شرط المراقبة الدولية.

 في البند الثاني من إعلان جوبا الذي عالجت فقراته مسألة دارفور تمت مخاطبة القضية بطريقة انتهازية استهدفت أساسا إضعاف الحكومة في المفاوضات المقبلة. الإنقاذ طال الزمن أم قصر ستتبدل لكن الوطن أبقى، فدمج الدولة بالإنقاذ أو المؤتمر الوطني قصر نظر ومناورة صغيرة لاتليق بزعماء، مثلا حين يوافق الزعماء على توحيد دارفور في إقليم واحد وهو واحد من مطالب الحركات فعلى أي أسس ارتكزوا سوى مكايدة المؤتمر الوطني؟ كان الأجدر بالقوى السياسية أن تنادي بالحل العادل لدارفور دون محاولة التأثير على الموقف التفاوضي للحكومة، الشيء الذي سيؤثر على مجمل الأوضاع السياسية في البلد لا على المؤتمر الوطني فحسب. مؤتمر جوبا ذهب ليناقش التفاصيل حتى وصل لموضوع الحيازات القبلية!! واتخذ موقفا مساندا للحركات المسلحة التي ستتسلح الآن بموقف القوى السياسية اللامسئول هذا. يبدو أن المؤتمر الشعبي أفلح بوضع مطالب حلفائه في قلب إعلان جوبا محققا مكسبا صغيرا على حساب قضية كبيرة.

 كل المطالب الأخرى التي دفع بها إعلان جوبا لاجديد فيها، فهي ذات المطالب التي ظلت القوى السياسية تنادي بها، وبعضها ظل بندا ثابتا في المواثيق من لدن ميثاق أسمرا والمواثيق التي تلته حتى القاهرة، دون أن تتمكن هذه القوى السياسية على إجبار الحكومة على إنفاذها. فما الجديد؟

 الجديد هذه المرة أن المعارضة تعتقد أن بيدها كرتا حاسما هو كرت التهديد بمقاطعة الانتخابات في حال عدم إنفاذ مطالبها. وهذا في تقديري كرت ضغط قوي لأن مقاطعة القوى الموقعة على إعلان جوبا - مهما كان وزنها -للانتخابات، يمثل خطر بالغا على اتفاق السلام وبالتالي استقرار البلاد. ولذا على المؤتمر الوطني أن يشرع في حوار موضوعي مع قوى إعلان جوبا للوصول لاتفاق يسهل قيام انتخابات حرة نزيهة بمشاركة واسعة من القوى السياسية كافة. تمترس المؤتمر الوطني فى خانة الرفض التام لكل مايصدر عن المعارضة ليس فى مصلحته ولا في مصلحة استقرار البلاد التي هو مسئول عن سلامتها ووحدتها الآن. أرجو أن يتمخض المؤتمر العام للمؤتمر الوطني عن خطوة كهذه، دعوة للتوافق الوطني بأسس جديدة وصحيحة على عتبة الانتخابات القادمة.

أفضل ما جاء في إعلان جوبا هو الفقرة الخامسة من هذا الإعلان. التي تنص (اتساقا مع الاتفاقية بجعل الوحدة خيارا جاذبا يشكل المؤتمر مجموعة عمل لوضع تصور للتدابير السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية اللازمة لتعزيز فرص الوحدة في ماتبقى من الفترة الإنتقالية، مع التأكيد على احترام خيار الانفصال إذا أسفر عنه الاستفتاء.). هذه اللجنة إذا ما توفرت لها عناصر قومية وسعت بجدية بإمكانها أن تجعل من مستحيل الوحدة ممكنا، أو أن تنال شرف المحاولة وسط هذا اليأس من فرص خيار الوحدة.

 

آراء