جولة في حديقة القواسم الإنسانية المشتركة (الإنسانية)!!

 


 

 

 

المعنى العملي والقانوني للإنسانية حسب تعريفنا الخاص هو أن الإنسانية هي الشعور أو التصرف الفطري و/أو المكتسب المشتمل على المساعدة أو التعاطف أو المحبة أو الاحترام والذي يصدر من الإنسان تجاه أي إنسان آخر دون أي تمييز على أساس اختلاف العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الثقافة، أو الرأي، أو أي وضع آخر خلاف ذلك. الملاحظ أن الإنسانية تنقسم إلى درجات وأن أدنى درجة للإنسانية تتمثل في إبداء التعاطف الإنساني مع الآخرين من على البعد وبصورة غير مباشرة، ولا شك أن انتشار الانترنت وشيوع استخدام وسائل التواصل الحديثة في كل أنحاء العالم قد ساهما بقوة في انتشار ظاهرة التعاطف الإنساني من على البعد وفي تسهيل تقديم المساعدات المادية و/أو المعنوية للآخرين عبر الوسائل الإلكترونية التي لا يستدعي استخدامها سوى نقرة واحدة فقط لا غير!! وأن أعلى درجة للإنسانية هي عمليات الانقاذ المباشر لضحايا الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل والحرائق. من حسن حظ البشرية أن الأغلبية العظمى من البشر تنحاز للإنسانية بصورة عفوية لأنها لا تنطوي على أي اختلافات عقائدية أو سياسية أو فكرية مثيرة للانقسام، فالإنسانية هي الخيط المتين الذي يربط كل حبات العقد الفريد الأخرى المكونة للمشتركات الإنسانية الثمينة، ولا شك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948م بمواده الثلاثين والذي صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم يمثل القاسم المشترك الأعظم الذي يشكل جوهر الإنسانية العالمية والذي ينبغي أن تلتزم بتطبيقه كافة الشعوب والحكومات وأن تجعله مقرراً يدرس في كل المدارس والجامعات علماً بأن كل دول العالم قد وقعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالتالي فقد أصبحت هذه الوثيقة القانونية الدولية سائدة على كل الدساتير والقوانين المحلية لكافة دول العالم وأصبح مجرد الاعتداء على أي حق من الحقوق والحريات الإنسانية الواردة فيها، مثل حق الحياة، حرية الاعتقاد، حق التفكير، وحرية التعبير، يستجلب إدانة المنظمات الدولية وقد يستدعي التدخل الدولي المباشر أو فرض العقوبات الدولية أو الفردية على الدول أو الأشخاص المنتهكين لحقوق الإنسان، ولعل أكبر دليل على عالمية الإنسانية هو أن كل القوانين الجنائية في جميع دول العالم تشترك في الزام الإنسان العادي بتقديم المساعدة للآخرين عند وقوع الحوادث المرورية إذا كان تقديم المساعدة لا يعرض مقدمها للخطر وتعاقب من يرفض تقديم المساعدة الإنسانية في تلك الظروف الطارئة، علماً بأنه لا يوجد قانون واحد في العالم يلزمك بالقيام بالحد الأدنى من درجات الإنسانية كالسلام على جارك أو الابتسام في وجهه ولكن القواعد الإنسانية العرفية الجميلة تستوجب القيام بذلك!!
بالمقابل فإن نقيض الإنسانية هو كراهية البشر، وكراهية البشر هي الشعور أو التصرف المشتمل على عدم المساعدة أو انعدام التعاطف أو انعدام المحبة أو عدم الاحترام والذي يصدر من الإنسان تجاه أي إنسان آخر بصورة تمييزية على أساس اختلاف العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الثقافة، أو الرأي، أو أي وضع آخر خلاف ذلك. والملاحظ أن كراهية البشر تنقسم إلى درجات وأن أدنى درجة لكراهية البشر تتمثل في انعدام التعاطف الإنساني مع الآخرين من على البعد، وأن أعلى درجة لكراهية البشر هي عدم تقديم المساعدات لمن يستوجب القانون مساعدتهم رغم القدرة على ذلك أو القيام بالاعتداء المباشر على الآخرين، فكاره البشر يمارس العنصرية الصامتة أو الصارخة دون أن يرمش له هدب ، ويمارس التعصب الفكري والتطرف الديني بلا تأنيب ضمير، ويمارس التحرش العرقي والجنسي بلا خجل، ويمارس السلوكيات الأنانية والنرجسية بلا تردد، ومن المؤكد أن ذلك السلوك الهمجي واللاإنساني قد يدفع كاره البشر في نهاية المطاف إلى مخالفة القوانين ودخول السجن أو مواجهة حبل المشنقة ثم الشعور بالندم على حماقاته حيث لا ينفع الندم!!
هناك اختلافات عرقية ودينية وثقافية بين شعوب العالم، هذا صحيح، ولكن هناك أيضاً قواسم إنسانية مشتركة بينها حتى داخل تلك الاختلافات والبحث عن القواسم الإنسانية المشتركة والتركيز عليها وتفعيلها يؤدي إلى تحقيق السلام العالمي وهو أجمل حلم بشري على الإطلاق لأنه ينطوي على المحبة والإخاء والصداقة والتعاون وتحقيق المصلحة المشتركة، ليكن كل إنسان كالفراش الذي يتنقل بين الأزهار والورود المختلفة الألوان والأشكال والروائح باحثاً عن الرحيق الحلو وهو يدرك أن هدفه النهائي هو الحصول على الرحيق الحلو وأن اختلاف ألوان وأشكال وروائح الزهور والورود لا يفسد للحصول على العسل أي قضية!!
لعل السؤال العالمي الهام الذي ينبغي طرحه هو: هل يمكن تحويل كاره البشر إلى شخص إنساني محب للبشر؟! أم أن ذلك هو المستحيل برأسه وأذنيه وعينيه؟! في اعتقادي أن الحل يكمن في العلاج المنطقي الذاتي، وعلى كاره البشر أن يتأمل الخيارين التاليين ثم يختار الخيار الأفضل الذي يحقق مصلحته الشخصية وراحته النفسية:
خيار كراهية البشر: القاضي الذاتي، الكامن في نفس كاره البشر، يسارع إلى إصدار الأحكام الغيابية النهائية ضد الآخرين استناداً إلى الهوى الشخصي الأرعن ودون فحص أي دليل ودون سماع أي دفاع، فهو يوزع الإدانات بغير حساب فهذا متخلف بلا بينة وذلك غبي بلا إثبات وهلم جرا!!، النتائج العملية هي أولاً: إن نار الكراهية تحرق جوف كاره البشر وحده ولا تحرق من يكرههم فالكراهية شعور داخلي يؤدي إلى رفع ضغط دم الكاره البشري، ثانياً: إن الآخرين في أغلب الأحوال قد لا يشعرون بالكراهية التي يضمرها لهم كاره البشر وثالثاً: إذا تجرأ كاره البشر وخرج من قوقعته العدوانية وأظهر كراهيته للآخرين وارتكب فعل غير قانوني فقد يعرض نفسه لعقوبات قانونية جسيمة!! أما الخلاصة النهائية فهي أن كراهية البشر تسبب الكثير من الخسائر الشخصية لكاره البشر نفسه ولا تحقق له أي فوائد عملية بأي حال من الأحوال!!
خيار الانسانية: يا أخي العزيز كاره البشر، نحن كلنا إخوان في الإنسانية، والحياة لا تستحق العيش إذا أصبحت خالية من الإنسانية، فالإنسانية هي التي تعطي للحياة طعمها الحلو ولونها الجميل وشكلها المريح، الإنسانية صفة فطرية متوفرة لدى جميع البشر لكن أحياناً قد تحجبها ظروف طارئة، يا أخي يمكنك أن تتحول إلى محب للبشر عبر اتباع هذه الوصفة البسيطة وبالهناء والشفاء إن شاء الله، أولاً: تخلص من القاضي الذاتي الكامن في نفسك ولا تصدر أي أحكام غيابية نهائية ضد الآخرين فالنقص البشري موجود هنا وهناك واختلاف المصالح يبرر اختلاف المواقف، والأعذار موجودة ومتوفرة لمن يبحث عنها، ثانياً: جرب أسلوب العطاء بدلاً من أسلوب الأخذ وتخلص من الكراهية وعش سعيداً بقدر الإمكان!
قبل الختام (الإنسانية أقوى عملة في بورصة الحياة)
راح محتار يتابع ذلك الخبر المصور الذي أخذت تبثه القنوات الفضائية في تلك الأمسية، فقد توقفت دراجة نارية تحمل رجلين عند أحد تقاطعات السكك الحديدية منتظرة عبور قطار مندفع من اتجاه إلى آخر بسرعة هائلة ، في ذات اللحظة علقت سيارة صغيرة بين القضيبين ولم يستطع قائدها تحريكها وقبع بداخلها منتظراً الموت دهساً تحت العجلات الحديدية القاتلة القادمة نحوه بسرعة فائقة ، ثم في كسر من الثانية قفز أحد الرجلين من الدراجة البخارية ودفع السيارة بسرعة وقوة خارج القضيبين وتحققت إحدى معجزات الشهامة البشرية فقد نجا قائد السيارة ونجا المنقذ من الموت المحتوم بأعجوبة بالغة!!
فجأة تذكر محتار تفاصيل مغامرة قديمة أخذت تنبعث في ذهنه بحيوية طازجة وكأنها حدثت بالأمس، فقبل سنوات طويلة كان محتار مسافراً من مدينة كسلا في شرق السودان إلى مدينة عطبرة في شمال السودان عبر الطريق الصحراوي، وفجأة توقف البص عند قرية سيدون إلى أجل غير مسمى وعجز عن التقدم للأمام بسبب امتلاء خور سيدون بسيل مفاجئ، في تلك اللحظة ركب محتار رأسه وقرر السفر سيراً على الأقدام في طريق صحراوي مجهول وانضم له شابان مغامران، تورمت الأقدام بعد انقضاء ثلاثة أيام على المسيرة الصغيرة الراجلة التي كانت تتحرك بجوار نهر عطبرة خوفاً من الضياع والهلاك في الصحراء القاحلة، كل القرى الصغيرة التي مروا بها كانت تندهش عند رؤيتهم ثم يُسارع أهلها إلى تزويدهم بالماء والطعام والمأوى في شهامة فطرية آسرة ، عندما وصلت القافلة الصغيرة إلى قرية الكويب تم إكرام وإيواء الغرباء الثلاثة وفي صباح اليوم التالي تبرع شاب صغير من قرية الكويب لم يتجاوز عمره الخامسة عشر عاماً بمساعدتهم في الوصول إلى أقرب جهة من وجهتهم الرئيسية عبر سلوك طريق صحراوي مختصر لكنه يبعد كثيراً عن مجرى النيل الآمن، اندفع المغامرون الثلاثة والدليل إلى قلب الصحراء الملتهب بالحصى والرمال وبعد مسيرة شاقة استغرقت اثنتي عشرة ساعة نجح الدليل الصغير في إيصالهم إلى بر الأمان وهو منطقة تدعى رأس الهودي حيث تتوفر وسائل النقل التي تنقل المسافرين إلى مدينة عطبرة، ومن ثم ودعهم الدليل الصغير واستدار عائداً وحده إلى قلب الصحراء في رحلة العودة الشاقة إلى قرية الكويب!! راح محتار يتساءل بدهشة ما الذي دفع ذلك الشاب الصغير المنتمي إلى تلك القرية المنسية إلى انقاذ حياة ثلاثة غرباء آنذاك دون أي مقابل؟!!
تذكر محتار قيامه هو شخصياً بعدة اقتحامات متهورة لعدة بيوت محترقة أو تعرضت للسرقة بغرض نجدة أهلها، غمغم محتار متسائلاً: ما الذي يدفع أي انسان عادي إلى المجازفة بحياته في أي وقت من أجل انقاذ حياة انسان آخر لا تربطه به أي صلة قرابة؟!! ما الذي يدفع الانسان، الذي يصفه علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجي بالأنانية، إلى تعريض حياته الخاصة للخطر من أجل انقاذ حياة أشخاص غرباء دون أي مقابل؟! إنها الانسانية، تلك الصفة التي يتمتع بها جميع البشر ولا يخلو منها أحد فحتى المجرم الذي يقسو على الآخرين قد يمارس الإنسانية مع أهله، إنها بحق أثمن شيء في الوجود وأقوى عملة في بورصة الحياة لأنها تمكننا من شراء الأمان للآخرين دون أي مقابل!!
في الختام لا نملك إلا أن نقول: اللهم لا تجعلنا من كارهي البشر ومحبي الشر للآخرين، اللهم أفرغ علينا الإنسانية وأجعلنا أنسن الإنسانيين، آمين يا رب العالمين.

menfaszo1@gmail.com
///////////////////

 

آراء