حافظ محمد المدني المكي .. رحيل فاجع في زمن بخس
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
7 June, 2024
7 June, 2024
أحمد إبراهيم أبوشوك
يوم الأحد الموافق 2 يونيو 2024 عند الساعة 1:26 صباحاً أرسل لي الأخ عادل المدني، الذي يقيم في مدنية سنَّار بالرغم من ظروف الحرب الصعبة، الرسالة الآتية: "يرقد أخي حافظ في مستشفى الشروق بالقاهرة بالعناية المركزة، إثر إصابته بكرونا"، فتواصلتُ معه بعد يومين من ذلك التاريخ، وأفادني بأن حالته الصحية متحسنة. وقبل أن يجف مداد الرسالة الأولى كتب إليَّ في يوم الجمعة الموافق 7 يونيو عند الساعة 1:40 صباحًا رسالة حزينة مفادها: "الدوام لله، توفي بالقاهرة أخي حافظ". حقاً، حزنتُ لوفاة الأخ العزيز حافظ المدني، الذي ترجع علاقتي به إلى زمن الدراسة بجامعة الخرطوم في النصف الأول مع عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ووقتها كان حافظ طالباً بكلية التجارة جامعة القاهرة فرع الخرطوم. جمعت بيننا رابطة أبناء قنتي بالجامعات والمعاهد العليا، التي أُسست في تلك الفترة، وكان حافظ من الداعمين للرابطة والمشاركين في أنشطتها بروح عالية وتفانٍ ليس له نظير. ورافقنا في رحلة الرابطة الثقافية وفصول التقوية التي نُظمت لطلبة المرحلة الثانوية، وذلك بمشاركة الأخ عبد الإله بيضاب (جامعة الخرطوم)، ومحمد إبراهيم مكاوي (جامعة القاهرة فرع الخرطوم)، والمرحوم محمد عثمان النوري (جامعة الجزيرة). فوجدتُ حافظاً من الموطئين أكنافًا الذين يألَفون ويؤلَفونَ، فتحولت تلك الإلفة إلى صداقة، يغذيها التواصل الدائم في الأفراح والاتراح. ولا أنسى رسالته الرقيقة عندما تمَّ اختياري شخصية العام الثقافية في الدورة الثالثة عشر لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في العام 2022، كتب إليَّ قائلاً: "سلام عليكم الأخ أحمد.. أفرحني جدًا نيلكم جائزه عظيمة، باسم رجل عظيم... وكم كنت اتمنى أن أكون حضوراً؛ لكني عرفت أن زمنك كان ضيقاً، وأن رقاع الدعوات محدودة... ألف مبروك، وأنت أهل لها، متمنيًا لكم دوام الصحة والتقدم العلمي..." هكذا كان حافظ وفياً في علاقاته، محباً الخير للآخرين، فيجد ذلك المتصفح في موقعه على الفيسبوك، اقتباسات كثير من العبارات الجميلة الدالة على ذلك، ونذكر منها: "في حياتنا أشخاص، يشبهون الصبح بخيره ودفئه... رائحته ومفاجأته... يزرعون في داخلنا ألف زهرة، ويتركون ابتسامه تملأ القلب بالحياة."... "كن نقياً في دواخلك... يمنحك الله نوراً من حيث لا تعلم... ويحبك الناس من حيث لا تعلم... وتأتي مطالبك من حيث لا تعلم ... كن الشخص الذي يمتلك النية الطيبة... وثق بالله دائماً." كان حافظ يمتلك النية الطيبة، فتجد صداقته ممتدة عبر قطاعات المجتمع الواسعة، فأحبه أهله بموطن أجداده بقنتي، وأتراب طفولته في سنار، وزملاء دراسته وأصدقاؤه في الخرطوم. فرثاه صديقه سيف اليزل الرضي بكلمات باكيات: "جمعنا القدر من شتات أنفسنا وفرقة الوطن الجريح، وكم داويت فينا جراحاً بطيب كلامك وحسن معشرك، [كنت] تصنع الابتسامة في الوجوه الكالحة، وتقول صبراً سنعود يوماً ونغني الذكريات." لكن للأسف ارتحل حافظ سريعاً قبل أن تتحقق أحلام العودة إلى أرض الوطن الجريح وينشد العائدون أغاني الذكريات. ارتحل حافظ عجلاً في زمن بخسٍ، يعيش السودانيون فيه مآسي الشتات، ومظالم الغربة القسرية، التي فرضتها عليهم حرب الخامس عشر من أبريل 2023 وتداعياتها؛ لكن لكل أجل كتاب.
الشيء الآخر الذي يميز حافظاً عن أبناء جيله الذين عاشوا خارج موطن آبائهم وأجدادهم حبه الصادق لقنتي وأهل قنتي، وكان هذا الحب موضع تقديرٍ عند والده المرحوم محمد المدني المكي، الذي كان يفخر بذلك، ويشجع حافظاً على ذلك؛ لأنه كان يعتقد بأن للأوطان في دم كل حرٍ يد سلفت ودين مستحق. ولذلك كان حضور حافظ من أفراح أهل قنتي واتراحهم حضوراً بارزاً ومميزاً. وتثميناً لهذا الوفاء المستحق، دعم حافظ وإخوانه الدورة الرياضية التي نظمها نادي قنتي بالخرطوم في العام 2020/2021 بكأس باسم "الفقيد محمد المدني المكي". وكتب عن هذا المنشط الرياضي والاجتماعي الأستاذ خالد الأمين، قائلاً: " لجنة تسيير نادي قنتي (بالخرطوم) تشكر كل من ساهم في إنجاح هذه الدورة التي حققت أهدافها الرياضية من خلال منشط كرة القدم، وأهدافها الاجتماعية التي كانت ظهارة في تكاتف واجتماع ابناء المنطقة وتعاونهم المادي والفكري والتشجيعي … كما نشكر ابناء المرحوم محمد المدني المكي على رعايتهم لهذه الدورة، التي تحمل اسم أحد ابناء قنتي الأبرار، ونتمنى أن يستمر هذا الحراك الرياضي والاجتماعي، وأن يكون نادى قنتي منارةً وقائداً للدرب، وعوناً لأهلنا في بلدنا الحبيبة قنتي."
حقاً أخي حافظ، إن "الإنسان يعيش مره واحدة، ولا يوجد له سوى عمر واحد، إن خطأ الإنسان الدائم والمتكرر هو أنه يضيع الفرص التي تأتيه من أجل أمور تقيده، أو يتخيل أنها تقيده، ينتظر وقتًا آخر قد يكون مناسبًا بدرجة أفضل؛ لكن الفرصة لا تأتى مجددًا. والعمر ينقضي بسرعة، فيكتشف الإنسان أنه أخطأ عندما ضيع الفرصة في الماضي، وأنه أفنى عمره من أجل حسابات خاطئة." أخي حافظ نشهد أنك قد استثمرت كثيراً من الفرص التي طرقت على بابك في فعل الخيرات، وأوفيت كيل الوفاء لأصدقائك ومعارفك الواسعة وعشيرتك الأقربين. نسأل الله يجعل كل هذا العطاء والتواصل في ميزان حسناتك، ويسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين حسن أولئك رفيقاً. ونتضرع إلى العلي القدير أن يجعلك من ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ، وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾.. رحمك الله رحمة واسعة، فأنت إنسان لا نُعزي فيه، ولكن فيه نُعزى.
ahmedabushouk62@hotmail.com
يوم الأحد الموافق 2 يونيو 2024 عند الساعة 1:26 صباحاً أرسل لي الأخ عادل المدني، الذي يقيم في مدنية سنَّار بالرغم من ظروف الحرب الصعبة، الرسالة الآتية: "يرقد أخي حافظ في مستشفى الشروق بالقاهرة بالعناية المركزة، إثر إصابته بكرونا"، فتواصلتُ معه بعد يومين من ذلك التاريخ، وأفادني بأن حالته الصحية متحسنة. وقبل أن يجف مداد الرسالة الأولى كتب إليَّ في يوم الجمعة الموافق 7 يونيو عند الساعة 1:40 صباحًا رسالة حزينة مفادها: "الدوام لله، توفي بالقاهرة أخي حافظ". حقاً، حزنتُ لوفاة الأخ العزيز حافظ المدني، الذي ترجع علاقتي به إلى زمن الدراسة بجامعة الخرطوم في النصف الأول مع عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ووقتها كان حافظ طالباً بكلية التجارة جامعة القاهرة فرع الخرطوم. جمعت بيننا رابطة أبناء قنتي بالجامعات والمعاهد العليا، التي أُسست في تلك الفترة، وكان حافظ من الداعمين للرابطة والمشاركين في أنشطتها بروح عالية وتفانٍ ليس له نظير. ورافقنا في رحلة الرابطة الثقافية وفصول التقوية التي نُظمت لطلبة المرحلة الثانوية، وذلك بمشاركة الأخ عبد الإله بيضاب (جامعة الخرطوم)، ومحمد إبراهيم مكاوي (جامعة القاهرة فرع الخرطوم)، والمرحوم محمد عثمان النوري (جامعة الجزيرة). فوجدتُ حافظاً من الموطئين أكنافًا الذين يألَفون ويؤلَفونَ، فتحولت تلك الإلفة إلى صداقة، يغذيها التواصل الدائم في الأفراح والاتراح. ولا أنسى رسالته الرقيقة عندما تمَّ اختياري شخصية العام الثقافية في الدورة الثالثة عشر لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في العام 2022، كتب إليَّ قائلاً: "سلام عليكم الأخ أحمد.. أفرحني جدًا نيلكم جائزه عظيمة، باسم رجل عظيم... وكم كنت اتمنى أن أكون حضوراً؛ لكني عرفت أن زمنك كان ضيقاً، وأن رقاع الدعوات محدودة... ألف مبروك، وأنت أهل لها، متمنيًا لكم دوام الصحة والتقدم العلمي..." هكذا كان حافظ وفياً في علاقاته، محباً الخير للآخرين، فيجد ذلك المتصفح في موقعه على الفيسبوك، اقتباسات كثير من العبارات الجميلة الدالة على ذلك، ونذكر منها: "في حياتنا أشخاص، يشبهون الصبح بخيره ودفئه... رائحته ومفاجأته... يزرعون في داخلنا ألف زهرة، ويتركون ابتسامه تملأ القلب بالحياة."... "كن نقياً في دواخلك... يمنحك الله نوراً من حيث لا تعلم... ويحبك الناس من حيث لا تعلم... وتأتي مطالبك من حيث لا تعلم ... كن الشخص الذي يمتلك النية الطيبة... وثق بالله دائماً." كان حافظ يمتلك النية الطيبة، فتجد صداقته ممتدة عبر قطاعات المجتمع الواسعة، فأحبه أهله بموطن أجداده بقنتي، وأتراب طفولته في سنار، وزملاء دراسته وأصدقاؤه في الخرطوم. فرثاه صديقه سيف اليزل الرضي بكلمات باكيات: "جمعنا القدر من شتات أنفسنا وفرقة الوطن الجريح، وكم داويت فينا جراحاً بطيب كلامك وحسن معشرك، [كنت] تصنع الابتسامة في الوجوه الكالحة، وتقول صبراً سنعود يوماً ونغني الذكريات." لكن للأسف ارتحل حافظ سريعاً قبل أن تتحقق أحلام العودة إلى أرض الوطن الجريح وينشد العائدون أغاني الذكريات. ارتحل حافظ عجلاً في زمن بخسٍ، يعيش السودانيون فيه مآسي الشتات، ومظالم الغربة القسرية، التي فرضتها عليهم حرب الخامس عشر من أبريل 2023 وتداعياتها؛ لكن لكل أجل كتاب.
الشيء الآخر الذي يميز حافظاً عن أبناء جيله الذين عاشوا خارج موطن آبائهم وأجدادهم حبه الصادق لقنتي وأهل قنتي، وكان هذا الحب موضع تقديرٍ عند والده المرحوم محمد المدني المكي، الذي كان يفخر بذلك، ويشجع حافظاً على ذلك؛ لأنه كان يعتقد بأن للأوطان في دم كل حرٍ يد سلفت ودين مستحق. ولذلك كان حضور حافظ من أفراح أهل قنتي واتراحهم حضوراً بارزاً ومميزاً. وتثميناً لهذا الوفاء المستحق، دعم حافظ وإخوانه الدورة الرياضية التي نظمها نادي قنتي بالخرطوم في العام 2020/2021 بكأس باسم "الفقيد محمد المدني المكي". وكتب عن هذا المنشط الرياضي والاجتماعي الأستاذ خالد الأمين، قائلاً: " لجنة تسيير نادي قنتي (بالخرطوم) تشكر كل من ساهم في إنجاح هذه الدورة التي حققت أهدافها الرياضية من خلال منشط كرة القدم، وأهدافها الاجتماعية التي كانت ظهارة في تكاتف واجتماع ابناء المنطقة وتعاونهم المادي والفكري والتشجيعي … كما نشكر ابناء المرحوم محمد المدني المكي على رعايتهم لهذه الدورة، التي تحمل اسم أحد ابناء قنتي الأبرار، ونتمنى أن يستمر هذا الحراك الرياضي والاجتماعي، وأن يكون نادى قنتي منارةً وقائداً للدرب، وعوناً لأهلنا في بلدنا الحبيبة قنتي."
حقاً أخي حافظ، إن "الإنسان يعيش مره واحدة، ولا يوجد له سوى عمر واحد، إن خطأ الإنسان الدائم والمتكرر هو أنه يضيع الفرص التي تأتيه من أجل أمور تقيده، أو يتخيل أنها تقيده، ينتظر وقتًا آخر قد يكون مناسبًا بدرجة أفضل؛ لكن الفرصة لا تأتى مجددًا. والعمر ينقضي بسرعة، فيكتشف الإنسان أنه أخطأ عندما ضيع الفرصة في الماضي، وأنه أفنى عمره من أجل حسابات خاطئة." أخي حافظ نشهد أنك قد استثمرت كثيراً من الفرص التي طرقت على بابك في فعل الخيرات، وأوفيت كيل الوفاء لأصدقائك ومعارفك الواسعة وعشيرتك الأقربين. نسأل الله يجعل كل هذا العطاء والتواصل في ميزان حسناتك، ويسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين حسن أولئك رفيقاً. ونتضرع إلى العلي القدير أن يجعلك من ﴿أَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ، وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾.. رحمك الله رحمة واسعة، فأنت إنسان لا نُعزي فيه، ولكن فيه نُعزى.
ahmedabushouk62@hotmail.com