حامل الأسفار يرتاح.. أخيراً

 


 

 


*أساطير صغيرة


يحكى أنّ حامل الأسفار هذا ليس حمارا كما ورد في القرآن الكريم، لكنه إنسان سوداني أصيل وصبور أسهم بجهد عظيم في رسم الحدود الحالية والسابقة للسودان الكبير، كما أسهم بشكل كبير في التأسيس الفعلي للأنظمة العدلية والشرطية والإدارية في بقاع كثيرة من أرض المليون ميل (السودان الكبير)، واشتغل بجد وكد مقابل قريشات قليلة وهو يحمل الأسفار على ظهره متنقلا بها من مكان إلى آخر ومن حدود إلى أخرى، متحملا في نبل الأمطار الغزيرة والرياح القاسية والحرارة اللاهبة وكل التقلبات المناخية لأرض الوطن الكبير، وفوق ذلك لم يحتج أو يتذمر مطلقا في حال تحوله إلى (طاولة) مكتبية يسجل عليها (على السفر) الإداري الإنجليزي (مهندس، فني) ملاحظاته العابرة وهم يتنقلون من مكان لآخر في أربعينيات القرن الماضي ونهاية حقبة الاستعمار (البغيض).

قال الراوي: الدور الذي كان يؤديه حامل الأسفار أن يعلق على ظهره بإحكام (دفاتر) الإداري الإنجليزي أثناء تنقلهم في المناطق التي يبدو أنها كانت قيد الكشف الإنساني (من الخارج) لتوها، وبما أن الغازي الإنجليزي كان يعمل ويسابق قرارا ما، للانتهاء من تسجيل وترسيم كل شيء على أرض السودان الكبير، فإن حامل الأسفار يكاد يكون أحد القلائل الذين شهدوا بأم أعينهم تكون الأفكار على وجه (الإنجليزي) وهو يحدد بأدواته الحديثة أين تُعلّم الحدود الفاصلة لمنطقة مجهولة وقتها كـحفرة النحاس مثلا، كما يكاد حامل الأسفار أن يكون هو السوداني الوحيد، الذي أحس بمعنى الملاحظات (الاستعمارية) حول الأرض؛ وهي تكتب بتؤدة على السفر المربوط على ظهره في حال كونه (طاولة مكتبية).
قال الراوي: شارك حامل الأسفار بجدارة في ترسيم الحدود المتنازعة الآن بين دولتي (السودان الكبير) بداية من تخوم جنوب دارفور عند منطقة كفي كانجي وإلى دبة الفخار في حدود النيل الأزرق، وشهد بالضبط أين ضربت الأوتاد الحدودية، وكيف فصلت الغابات المطيرة هنا أو هناك، وأين زج بـ (بني سودان) ممن كانوا يقطنون خارج حدود الجغرافيا والرسومات الكنتورية، ويحيون بعيدا عن الإستراتيجيات (الاستعمارية) التي تبني في سنوات نصف قرنية قادمة.. هل بإمكان حامل الأسفار أن يشهد ولو بنقل إحساس الحبر وثقل السفر؟
قال الراوي: حامل الأسفار (تصورا وتخيلا)، لم يكن يتحدث كثيرا، كان صموتا ومسكينا، لم تكن له مطالب في هذه الدنيا، كان يدرك أن الأرض التي ينظر إليها محني الظهر كل يوم لساعات، أبعد من تفكير هذا الرجل (الخواجة) الذي يكتب ويكتب ويقلب الصفحات صفحة تلو الأخرى على ظهره؛ كان يدرك أن الأرض التي تتلون من مكان إلى آخر لن تكون هي ذات الأرض بعد أن تطأها هذه الأقدام المثابرة التي لا تفتر؛ أقدام الغرباء البيض، وكان يدرك أن من وضع في الجانب الآخر من (العالم) سيظل هناك ومن بقي هنا ستجرجره الـ(هنا) إلى هناك.. يوما ما.
ختم الراوي؛ قال: أنزل حامل الأسفار أسفاره في مكان ما وارتاح.
استدرك الراوي؛ قال: أودع حامل الأسفار حبر أسفاره في ذاكرة ما وراح.
*زاوية يومية بصحيفة (اليوم التالي)




منصور الصُويّم
mansour em [mansourem@hotmail.com]

 

آراء