حتّام ننعم بـ”عقلانية” سلطتنا وبؤس خطابنا السياسي
كما المناداة بتجديد الخطاب الديني ينبغي المطالبة بتحديث خطابنا السياسي. الخطاب السائد حالياً في المشهد لا يوازي البتة ولو ضئيلاً مما يمكن إستيلاده من زخم الملحمة الثورية الشعبية المبهرة بشهادة مدارات صناعة السياسة عبر المعمورة بأسرها. خطابنا السياسي الحالي تكتنفه كِسفٌ من الإرتباك المغاير كلياً لحال خطابنا النافذ إبان الثورة. الإدراك المطلق للتباين بين طبيعة المرحلتين لا يقتضي هبوط الخطاب الراهن إلى ما هو عليه من فقدان الجاذبية والإثارة أو حتى الموضوعية. خطاب الثورة يضج بالتحريض الساخن، المديح العالي والهجاء الحارق. الخطاب الراهن يسقط في فخاخ الإلتباس البارد، الرخاوة، التسكع، والتعميم المخل. كما هو غير جاذب فهو ليس مقنعاً.
عوضاً عن بث التفاؤل والأمل يثير الخطاب السياسي المرتبك بين الوجل، التحفظ والتعميم حالة من عدم الإقتناع والرضاء في شأن أداء الحكومة الحالية. في الواقع الشعور يبلغ حد الإستياء. فقط حالة الإرتباك السائد تدمغ الإفصاح عنه في ظل الظروف المحيطة ضرباً من الخيانة. ثمة خوف يبلغ ساحل الهلع إذا مسّ نقد موضوعي هياكل السلطة أو شخوصها. لا أحد حادب يجرؤ على نقد معالجة إنتقاء شاغلي الحقائب الوزارية رغم تجاوزها المعايير الموضوعية إلى الإستمزاج الذاتي. أرضية السلطة الوليدة لا تزال تتأرجح على طبقات الدولة العميقة وحراسها المتربصين. رغم كل ذلك ما من أحد يرغب في سماع صعود طاقم حكومي ليس غالبيته في مستوى "رجل المرحلة".
مع أن دور قيادة الثورة مغايرٌ تماماً لمهام بناء الدولة فإن العقليتين المنتجتين للخطاب السياسي ليس بالضرورة مختلفتين كما هو البون الماثل بين المرحلتين الأولى والثانية. المسافة لم تعد لصيقة كما يفترض بين السلطة التنفيذية وحاضنتها الشعبية دون مبادرة أيٍ من الجانبين للإعتراف أو إبانة الأسباب. همس مكثف يدور في الخفاء عن بروز مركز قوى "لوبي" يقبض على بوصلة الحكومة عن بعد. الخطاب الرسمي والشعبي ينأيان عن الخوض في تثبيت الهمس العالق أو إزاحته.
الخطاب الرسمي يرشح بتبرير القصور – إن لم نقل العجز – على نحو خجول. أحايين يصدر عن الحكومة ما يوحي بأنها لا تملك خارطة طريق، دع عنك رسمها. بل هي أكدت ذلك علنا على لسان رئيسها. ربما عن قناعة بأنها مؤقتة في فترة إنتقالية. أحايين يصدر عنها ما يمنح إنطباعا راسخاً مؤمنة بأنها تعيش أبداً. هذا طابع مغاير لما ينبغي عليه حال الخطاب الثوري المؤكد لشرعنة سلطة الثورة. ذلك خطاب يستند إلى مشروع سياسي اجتماعي متكامل يبث التفاؤل والأمل. الحكومة مطالبة أمام الشعب بالإفصاح عن برامج ممرحلة داخل المرحلة. غير كافٍ الحديث عن العيش على الدعم الخارجي وانتظار رفع العقوبات بغية الإنتقال ألى حدائق الإستقرار والرفاهية. ربما أكثر نفعاً لنا والحكومة إلزام نفسها بمهام محددة تستهدف تأمين مسار الثورة؛ غرس نبت الديمقراطية وفتح نوافذ لحياة كريمة الفتى فيها بروح مطمئنة على تنشئة جيل معافى مواكب لزمانه.
الخطاب المتداول على نحو متقطع عبر أجهزة الإعلام تطبعه فجوة عريضة بين القول والفعل المرتجى. نحن نتوقع خطابا ينقلنا من سوح الإحتجاج إلى آفاق الإنجاز الواثق. المسؤولون الحكوميون لايزالون يعلكون بعضاً من خطاب التحريض الجماهيري إبان الفوران الثوري دون حفر على الأرض بمعاويل الثورة. صحيح ليس لدينا قوالب جاهزة لجسو الإستثمار. نريد خطاباً جريئاً يؤكد على الإحتفاظ بوهج الحراك الجماهيري العارم وفق برنامج عمل ينتقلنا من مظلة إجتماعية بالية إلى بناء عصري حديث. نرغب في خطاب سياسي حافل بالوعي مصحوب بهدم الشبكات الإقتصادية الطفيلية ووتشييد بنىً إقتصادية راسخة. نود خطاباً سياسياً يستبدل الشعارات المزيفة الموظفة بقيم أصيلة.
نطمع في قيادة مصادمة متماسكة لديها ومنهج يتحدث خطاباً نابعاً من أدب سياسي خصيب ينتزع الإفتنان ببراعته في ابتكارالخطط والمصطلحات. ليس بالضرورة بروز فطاحلة من طراز تشرشل، لينين، كاسترو، مارتين لوثر أو نكروما. في تاريخنا عباقرة أبهروا في حياكة ديباجة الخطاب السياسي في كل عهد وضمن كل تشكيل وزاري بما في ذلك إدارات المرحلتين الإنتقاليتين السابقتين.
المسرح مهيئ لظهور نجوم جدد. حين تهمز الذاكرة تطل كوكبة من المساهمين في صناعة خطاب تلكما المرحلتين فصاحة أو ديناميكية أو الإثنتين معاً. من تلك الوجوه الملهمة المحجوب، زروق، عابدين إسماعيل، أحمد سليمان، الشفيع أحمد الشيخ، الرشيد الطاهر، محمد صالح عمر، كلمنت أمبورو، أحمد السيد حمد، وصالح محمود إسماعيل إبان المرحلة الإنتقالية الأكتوبرية. في إنتقالية إبريل برزت وجوه من مواقع التكنوقراط غير أن أداءهم اتسم بحصافة سياسية. من أؤلئك إبراهيم طه أيوب، عوض عبد المجيد، عبد المحمود حاج صالح، حسين أبو صالح، ومحمد بشير حامد.
خطابنا السياسي الباهت االبائس يخلو من روح المبادرة، يطفح بالتبرير وينزع إلى الطوباوية. بعيداً هو عن وهج الثورة العارمة بالتحدي مزلزلة أركان الجبروت والطغيان الرابض عقوداً. خطاب يصدرعن ضعف ووهن مغلفين بعقلانية متصنعة ووعي مرتجل لا يلائمان روح المنحنى التاريخي. أجهزة الإعلام لا تزال رهينة النظام البائد. منابر المساجد تضج بألسنة الفتنة، الكراهية والتحريض على العنف وضد النظام. الثورة المضادة تشحذ سكاكينها الطوال علناً تتصيد لحظة الإنقضاض. أوكار الفساد المالي تعج بالصفقات الحرام. كل ذلك تحت مظلتنا المفردة بإسم ممارسات الديمقراطية الجديدة حيث تمدُ سلطتنا حبال الصبر بقناعة الحرية لنا ولغيرنا. واقع حالنا السياسي يقول ديمقراطيتنا المكتسبة عنوة بدمائنا وأرواحنا يتفيئ شاشاتها خصومنا قبلنا وعلى نحو يفوق ما ننعم به نحن. يا لسماحة "أخشى سذاجة" أخلاقيات الدولة وياعظمة أخشى "خيبة" التزامنا بالزود عنها. ربما يجدر بنا استعادة مطلع لامية جميل الزهاوي:
ألا فانتبه للأمر، حتّام تغفل أما علمَك الحال ما كنت تجهل
aloomar@gmail.com