حدث هذا ذات يوم … سودانى من” ترينيداد ” !
22 May, 2009
(1)
المدينة ساحة للفوران الثقافى و العرقى،و لكننى عندما سمعت الموسيقى التى أحسها و عيشتها خارج الزمان و المكان انتابنى شئ من الدهشة و الالتباس. كنت أجلس فى مقعد أمام مدخل شقته أعيد قراءة كتاب قديم قبع بمكتبتى فترة من الزمن. أرفع رأسى من الصفحات بين فينة و أخرى، أراقبه و هو يتحرك فى مقعده المخصص للمقعدين بخفة و مهارة داخل المبنى يقضى فى بعض أشغاله. قررت الهجوم عليه لمباغتته، و الاغنيات المنبعثة فى حنية من كمبيوتر فى غرفة جلوسه تثير حيرتى و فضولى. رد على بأنه سودانى ترينيدادى من " ترينيداد "، وهى دولة تتكون من مجموعة من الجرز تقع فى جنوب البحر الكاريبى قبالة دولة فينزويلا فى امريكا الجنوبية. ذهلت. قلت لنفسى بصوت عالى و عنجهية يتصف بها بعض السودانيون ( دى الناقصة )!
سألنى بانجليزية رصينة كأنما فهم معنى كلماتى ( ماذا تقول؟ )
رددت متقهقرا فى خجل ( لا شئ مهم! ).
(2)
أسمه مثلثا محمد حسين عبد الوهاب و قد نسى اسم جده الرابع، تلك مشكلة " عويصة " فى سودان اليوم اذا فرضت عليه الظروف قضاء بعض الحوائج فى أراضى الخرطوم!
تنقل والده عبر دول كثيرة، واحدة من أهم محطاته الرئيسية كانت ترينيداد، أستقر بها عام 1935 عند تزوجه من فتاة التقى بها ابان دراسته بانجلترا. أسرة الفتاة استقرت فى ترينيداد قادمة من داهومى " بنين- حاليا " منذ قرن و نصف من الزمان.
ليبيا كانت لوالده أول دول المهجر، انجلترا مهد الدراسة، امريكا بعد ترينيداد محطة عابرة ليستقر به المقام اخيرا فى كندا عام 1953 استاذا للكيمياء فى جامعة " ماكماستر " وهى واحدة من أميز الجامعات الكندية.
أرشف القهوة فى شقته الصغيرة و أنا أتأمله و المكان مليا. قلت هذا الشخص لم يترك أباه لأحد فرصة ليشاركه فيه . " متقطع " سودانى تنقصه شلوخ أو وشم فى الجبهة. لولا لكنته الانجليزية الخالصة لظننت أنه دينكاوى، دنقلاوى، عبابدى و فوراوى معا.
على الحائط عدة لوحات، واحدة كتب عليها بخط كوفى اسم النبى الكريم " محمد رسول الله "، أخرى كتب عليها " لئن شكرتم لأزيدنكم ".
خطرت بذهنى بشكل عفوى دواوين منازل كوستى و أنا أزورها لأول مرة فى ستينات القرن الماضى فى رحلة مدرسية. لوحة أخرى لامرأة افريقية فى حضنها طفل رضيع، تجاورها اخرى لرجل فى زى افريقى رافعا فى خشوع كفيه بالدعاء. كتب اسفل اللوحة بخط جميل " بسم الله الرحمن الرحيم " .
(3)
تداخلت فى الحديث مستوحيا سؤالى الفضولى من لوحاته، " هل أنت مسلم؟ "
أجاب بعد " صنه " و حرج بدأ واضحا على وجهه " أنا ملحد "! رد لم أكن أتوقعه. قلت محاولا استدراج و استدعاء تعابير يمكن أن تقال فى مثل هذه الأحوال ( معليش أصلوا السؤال ما فى محله، و أنا كنت قاصد........و مافى داعى للاسترسال..)
قاطعنى ( أنا شفته المسلمين يقاتل بعضهم البعض، المسيحيين أيضا و كذلك الآخريين فضلت أن أكون ملحدا )!
حجته لم تكن مقنعة و لربما لم يستطع التعبير فى ابانة عما يدور فى ذهنه، لكن تقبلت رأيه كانسان حسم خياراته فى هذه الدنيا بشكل قاطع.
(4)
أبنه يبلغ الخامسة و الثلاثين يعيش فى مقاطعة " ساسكاتشوان " بكندا فى مستعمرة صغيرة للهنود الحمر، متزوج و له خمس أطفال و يعمل صيادا للسمك. الدخول لهذه المستعمرة يحتاج لتصريح خاص، مبلغ كبير من المال ثمنا لتذكرة الطيران و رحلة تستغرق ساعات طوال.
قلت لمحمد ممازحا أحسن الزول يسافر السودان!........ضحك و قال ( بعد وفاة والدى لم تخطر فى ذهنى فكرة السفر للسودان، لم نكن نعرف محل اقامته فى السودان و لا حتى أسرته الممتدة ) واصل حديثه كأنما يخاطب نفسه ( تخيل واحد سودانى، ترينيدادى، داهومى هندى أحمر و كندى )! ابتسم ابتسامة عجزت عن فك شفرتها.
(5)
قال عندما كنت فى المدرسة كانت هنالك حصة مخصصة للحديث عن الثقافات الأخرى، كل طالب يحكى عن موطنه الذى أتى منه ما تيسر. عندما جاء دورى ذكرت لهم أن جدى لوالدى كان تاجرا للجمال. احسست بالضآلة و الخجل عندما أنفجر الفصل بالضحك. ظهر احساس الطفل على تعابير وجهه الهرم و هو يواصل الحكى. تساءلت متحسرا هل يمكن استدعاء تفاصيل الاشياء بكل هذه الدقة؟!
قلت له مطيبا لخاطره أن جده كان من أثرياء السودان، كان يتاجر بآلاف الجمال عن طريق الاربعين مع مصر. هو واحد من أهم شخصيات شهرزاد فى ألف ليلة و ليلة. عندما كان يعود من رحلته كان يجلب معه أقمشة الحرير، العطور و الصينى الفاخر. انبسطت اساريره و عاد اليه ألق الشباب.
(6)
فى العام 1964 قرر والدى بعد خمسين عاما من الغياب المتواصل العودة للسودان لزيارة أسرته. التلغراف الذى وصل الينا كتب عليه الآتى ( توفى والدكم بعد ثلاث ايام من وصوله بالسكتة القلبية ). قالت والدتى بصوت متخم بالفجيعة أن أهلها فى " داهومى " يقولون أن الأفيال تعود الى موطنها الأول لتموت فيه. قلت، هل ينطبق ذلك على الافيال السودانية؟!
(7)
درجنا أنا و زوجتى على القيام مبكرا فى الصباح، المشى عدة كيلومترات للتريض و تبادل الزكريات الحميمة فى هواء " الدقش " النقى. أتت عربة فى ذلك الصباح من المجهول لتجرفنا سويا، هى الى عالم آخر مبهم و أنا الى هذا المقعد المتحرك. كانت العربة مسروقة يقودها طفل فى السادسة عشر من عمره و مخمورا. حكم عليه بسته أشهر فقط !!
لم يعد هنالك ما يربطنى بذلك المكان رغم روعته و جماله. جمعت أشيائى و غادرت و انا أعرف أن ذلك فراق أبدى. عملت مستشارا اجتماعيا لمدة خمسة عشر عاما من هذا المقعد المتحرك فأنا أحمل دبلوم دراسات عليا فى العلوم الاجتماعية من جامعة ماكماستر، عندما شعرت بالانهاك تقاعدت عن العمل و هاأنذا فى هذا الدار للعجزة.
(8)
لا يتكلم العربية و لا يفهمها و لكنه يحس الموسيقى و ايقاعاتها. قلت له أن هذه الموسيقى التى كنت تسمعها مع والدك عربية و ليست سودانية. سأل محتارا و ما هو الفرق؟!
استمع بعمق لوردى، الكابلى، زيدان، محمود عبد العزيز، أسرار، نانسى عجاج و لكن لدهشتى أعجب بأغانى محمد أحمد عوض التى كان يغنيها فنان ناشئ لا أعرف اسمه و ملحمة اكتوبر لمحمد الامين!
(9)
( أنا الآن فى الخامسة و السبعين من العمر، أمشى على مقعد و مصاب بكل أمراض الكبر، ما ينهكنى أكثر و يهد من قوتى هو مرض القلب و الكلى. بالطبع لم أتزوج بعد وفاة زوجتى لا أريد ممرضة كما لا أود الاستقرار مع أبنى حتى لا أحمله مسئولية مرضى. لا أعبأ كثيرا بالاشياء و لكنى أحيانا أحس بالفراغ والوحدة. لم أرى احفادى لعدة سنوات و " الداون تاون " التى لا تبعد من مكانى كثيرا لم تعد مكانا محببا..)
سألنى باهتمام عن بعض المواقع السودانية الاكترونية دللته عليها. طلب منى فى رقة أن ازوره عندما أجد وقتا . لم أعده بالحضور لأننى خشيت أن لا أوفى بوعدى. أغلقت باب شقته بحذر ، غادرت. كنت حزينا مقبوض النفس، أنطلقت الى الخارج لأمنح نفسى و جسدى أشعة الشمس المنهمرة بغزارة. كان اليوم ملتهبا أعتقد أن ذلك اليوم كان أول أيام الصيف.
عدنان زاهر
elsadati2008@gmail.com