حديث التواضُع وحديث السيوف و لحس الكُوع
بابكر فيصل بابكر
4 August, 2011
4 August, 2011
boulkea@yahoo.com
مناهج التربية الداخلية التي ينشأ عليها كادر الإسلام السياسي من أهل الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) أو شقيقهُ المُعارض (المؤتمر الشعبي) أو التيارات السلفية تشتملُ على الكثيرِ من أدواءِ الآيدولوجيا التي تتصادم مع مبادىء العمل الديموقراطي الذي يتأسسُ على إحترامِ المُختلِف في الرأى أو الفكر أو المعتقد, فمادتها الرئيسية إقصائية مؤسَسَة على " الإستعلاء بالإيمان", ومبنيَّة على إزدراء الآخر وتمجيد الذات ولا تشجِّع على قبول النقد. والذي يتربى في أحضانها يخرُجُ لساحات العمل العام حاملاً صكَّ إمتلاك الحق الكامل والحقيقة المطلقة.
بمثلِ هذا النوع من الكادر, وتلك النظرة للآخر, و ذلك الإدعَّاء بإمتلاك الحقيقة, هَبَطتْ الإنقاذ على الحكم في السودان وطبَّقت سياساتها التي طالت مختلف نواحي الحياة. تلك السياسات التي خرَّبت الخدمة المدنيَّة وارتكبت فيها المجازِر التي راحَ ضحيتها الآف المواطنين المُخلصين الأكفاء. وطبَّقت برامج التحرير الإقتصادي المُنفلت وما تبعهُ من عملٍ ممنهج لإعادة صياغة الإنسان السوداني لم يورِثُ البلاد سوى أثقال الإنهيار الأخلاقي والفقر والفساد المستوطن.
قد تعمَّدت الإنقاذ تحطيم الأحزاب الوطنية وكانت النتيجة عودة شبح القبلية والجهوية والعرقية الذي كاد أن يختفي بفضل التوجه المدني الذي إبتدأ منذ ما قبل مؤتمر الخريجين. وتوِّج كل ذلك بفصل الجنوب وإشعال الحرب في العديد من البؤر التي تهدِّد بإحراق ما تبقى من الوطن.
وفي حين ما تزال بعض القيادات في الإنقاذ – مثل الدكتور نافع – تسبِّح في ملكوت الآيدولوجيا ووعيها الزائف , وتستخدم لغة الإقصاء والتهديد والوعيد والتخوين من شاكلة "لحس الكوع" و و" قد الرهيفة ", فاجأني الدكتور بهاء الدين حنفي - في حواره الجرىء مع الأستاذ مالك طه بصحيفة الرأي العام - بحديثٍ غير مألوف من طاقم الإنقاذ الحاكم. حديث جدُّ مختلف, به الكثير من التواضع والإعتراف بإرتكاب الأخطاء ونقد الذات.
في إطار حديثه عن الحركة الإسلاميِّة والأحزاب السياسية الأخرى قال الدكتور حنفي: (لا أرى بصراحة شديدة جداً، فروقات جوهرية بيننا والأحزاب الأخرى. يمكن نحن أقوى وهم الأضعف من ناحية تنظيمية وادارية. وواصل : أيه الفرق بين المؤتمر الوطني، والاتحادي الديمقراطي، والمؤتمر الشعبي وأذهب أكثر من ذلك وأقول حتى الحزب الشيوعي؟ ( أنا ما شايف فرق)، وهذا أمر إيجابي. وبالتالي لا أرى للسودان مخرجاً إلا بتوحد القوى السياسية وهذا لا يتم بصورة رمزية أو شكلية. لا بد من قدر من الجدية والمصداقية لإقناع الأخرين ولملمة أطراف التجمع الوطني السوداني العريض على قواسم مشتركة ).
هذا الحديث يتعارض مع أصول الخطاب الذي وجَّه مسيرة حركة الإسلام السياسي منذ نشأتها. فهذه الحركة – كما قلت في مقال سابق لي - طرحت نفسها في أطوار تخلقها المختلفة ( حركة التحرير الإسلامي, الأخوان المسلمين , جبهة الميثاق الأسلامي, الجبهة القومية الأسلامية, وأخيرا المؤتمرين الوطني والشعبي) نفسها كحلقة من حلقات التجديد الأسلامي و كدعوة تجسِّد ظاهرة الإنتقال من مجتمع الجمود والعشائر والطوائف والتخّلف إلى مجتمع الحياة والتحديث والتقدم.
وكثيراً ما سعت الحركة الأسلامية للتميُّز عن الأحزاب الوطنيَّة الكبيرة بدمغها بصفة ( الطائفية ) وبوصف قيادتها بالجمود و جماهيرها بالتبعية العمياء للبيوتات الدينية التقليدية.
قد إكتشف الدكتور بهاء الدين بعد أكثر من عقدين من حكم الإنقاذ أنَّ ليس ثمة فروقات (جوهرية) بين حزبه والأحزاب الأخرى, وهذا إكتشافٌ يُشكرُ عليه رغم أنه جاء متأخراً, ولكن ما لم يقلهُ الدكتور هو أنَّ الأحزاب الأخرى في واقع الأمر كان فيها مخزوناً من الحكمة والدراية والمعرفة بمكونات الواقع السوداني وإمكاناته لم يتوفر للحركة الإسلامية برغم إدعاءات الحداثة والعصرنة. فالحركة التي إمتطت للحكم ظهر دبابة عسكرية كانت تطمحُ لقيادة التحوَّل في العالم الإسلامي مُنطلقة من دولةٍ متخلفةٍ لم يكتملُ إنصهارُها القومي وتعاني من أزماتٍ ثقافيةٍ وإجتماعيةٍ عميقة , فماذا كانت النتيجة ؟
كانت النتيجة ضياع ثلثِ الأرض والشعب بإنفصال الجنوب , وإشتعال الحرب في دارفور وجنوب كردفان, وبروز أصواتٍ في تلك المناطق تنادي بتقرير المصير أسوة بالجنوب.
يعلمُ الدكتور بهاء الدين أنَّ الطائفة تشكيلة إجتماعية مُتقدمة على "الأسرة" وعلى "القبيلة", وأنَّ التطوُّر الطبيعي للطوائف ينتهي للتشكيلة الإجتماعية/السياسية الأحدث وهى الحزب, وأنَّ هذا التطوُّر لا يحدُث بين عشيَّةٍ وضُحاها ولكنهُ يتمُّ عبر عملياتٍ طويلةٍ من التفاعُل تتداخل فيها عوامل عديدة مثل التعليم والتطورالإقتصادي ومناخ الحرية والتاثيرات الخارجية وغيرها.
وقد بدأتْ عملية الإنتقال هذه في السودان مُنذ مطلع القرن الماضي وكانت تسيرُ, ولو ببطء, في الإتجاه الصحيح حتى هبطت الإنقاذ بمشروعها الحضاري وأرجعت البلد إلى مرحلة القبيلة وهذا ما عبَّر عنه - للمفارقة - أحد أبناء الحركة الإسلامية وهو الدكتور التجاني عبد القادر عندما قال إنَّ السودان الآن لا يحكمهُ حزب ولكنهُ يُحْكمُ بواسطة الثالوث الجهنمي – القبيلة والأمن والسوق.
إنَّ أحد أدواء التنشئة الحزبية الآيدولوجية يتمثلُ في خلقِ قناعٍ من الوعي الزائف يحولُ دون رؤية الواقع كما هو, ويُصِّورِ المنظومة كأنها غيرُ خاضعٍة لخصائص و إشتراطات ذلك الواقع.
ففي حين كانت الحركة الإسلامية تصِفُ الأحزاب الأخرى بالطائفية لم تكن تدرك أنها تعاني من نفس المشكلة, وهو ما يتضحُ من إجابة الدكتور بهاء الدين عن سؤال الأستاذ مالك حول قيادة الترابي حين قال: ( في مسألة إلتفاف الإسلاميين حول الترابي لعقودٍ من الزمن، أُصدقك القول إنني ما كنت أتصَّور هذا القدر من الإلتزام بشخص. هو إلتزام طائفي ولا يقوم على أي أساس عقلي نقدي أو فكري. وللأسفِ الشديد وبعد كل الذي دار، وبعد كل الأفعال وردودها أحسُّ أنَّ بعض الإسلاميين يفتقدونه وهذا يُدهشني كثيراً, ولكن كما قلت هي الطائفية الموجودة في السياسة السودانية).
ما يصعُب إستيعابهُ من حديث الدكتور بهاء الدين هو إجابتهُ عن السؤال حول النجاحات التي حققتها الحركة الإسلامية حين قال إنَّ ( الحركة نجحَتْ نجاحاً مُذهلاً في السودان وغيرهُ ), وإنها بحسب إستراتيجيتها ( أرادت أن تصل للحُكم ووصلتْ، أرادتْ التغيير فأسهمت في تغيير كثيرٍ من جوانب الحياة في المجتمع السوداني مثلاً ).
قد وصلت الحركة الإسلامية للحكم – يا دكتور بهاء – عن طريق الإنقلاب العسكري الذي وأد النظام الديموقراطي و أفضى إلى حكم شمولي إستبدادي فهل يمثل ذلك نجاحاً مُذهلاً ؟ إنَّ ذلك يمثل في وجهة نظر الكثيرين من أبناء الحركة ومن قادتها وعلى رأسهم الدكتور الترابي أكبر إخفاقات الحركة منذ تأسيسها. كان بالإمكان الحديث عن نجاحٍ مُذهل في حال وصول الحركة للسلطة عن طريق العمل الديموقراطي الطويل والشاق والدؤوب, وعبر خيار الجماهير الحُر في صناديق الإقتراع, ولكن الإنقلاب العسكري لا يشكل نجاحاً لأية حركة راشدة تسعى لتغيير الأوضاع للأفضل ذلك لإنهُ في حد ذاته يشكل أكبر المعوقات في وجه ذلك التغيير.
أمَّا التغيير الذي أحدثتهُ الحركة الإسلامية في المجتمع السوداني فلا يصحُ تناولهُ الا بطريقة مُفصَّلة غير مُجملة, ووفقاً للوقائع وليس الأماني. مثال ذلك أنْ نسأل ماذا فعلت الإنقاذ في التعليم وفي الأميَّة وفي التنمية وفي الخدمة العامة وفي الممارسة السياسية وغيرها ؟ حينها ستجد – يا دكتور بهاء – ما لا يسُّرك من حقائقٍ ونتائجٍ وإحصاءات.
قد إزدادت نسب الأميَّة زيادة كبيرة بحسب إحصاءات الحكومة نفسها, وبلغت نسبة الفاقد التربوي بحسب أكثر الإحصاءات محافظة 35 % وتقول إحصاءات أخرى أنها في حدود 50 %. أمَّا التدهور الذي أصاب الخدمة المدنيَّة فلا يحتاج لدليل أو برهان. والتنمية الإقتصادية إنحرفت عن مسارها الحقيقي القائم على الإعتماد على مورد السودان الأهم (الزراعة) بعد أن أصابنا المرض (الهولندي) بإدمان الإعتماد على النفط الذي رحل مع رحيل الجنوب.
موارد النفط ( فاقت الخمسين مليار دولار) لم يتم توجيهها للإنتاج الحقيقي ولمشروعات البنية الأساسية, حتى أنَّ أكبر مشروع تتفاخرُ به الإنقاذ ( سد مروي) تم إنجازهُ بالقروض و الديون وليس من عائدات البترول وهى الديون التي ستثقل كاهل الأجيال القادمة بأعبائها وأعباء خدمتها. فأين ذهبت تلك الموارد والتي هى ملك للشعب وليست (غنيمة) لأصحاب السلطة ؟
إنَّ أية نقاش موضوعي لما أحدثتهُ الحركة الإسلامية من تغيير في المجتمع السوداني لن يكون في صالحها. وهنا تكمن جدوى نقد الذات و الإعتراف بالإخفاق, وهى فضيلة دينية في الأساس. أمَّا الإصرار على مواصلة السير بمنهج الإقصاء والتخوين فلن يكون حصادهُ سوى جلب المزيد من المآسي على البلاد والعباد.
ويقول الدكتور بهاء الدين إنَّ ( مشكلة الحركة الإسلامية هي مشكلة السودان كلهُ، فالمتعلمون والمثقفون ينصبُّ كل إهتمامهم على السياسة وهذه مسألة ستمزق البلد ) وهو يرى أنَّ الحل من وجهة نظره يكمن في إيجاد ( مجالات أخرى تصطرع فيها الرؤى والتيارات فإن هذا من شأنه تقليل حدة الصراع السياسي ولكن للأسف هذا غير موجود ).
ونحن من جانبنا نقول للدكتور بهاء الدين أنَّ المُشكلة ليست في إهتمام المتعلمين والمثقفين بالسياسة, ولكن المشكلة الرئيسية التي يتحاشى أهل الحكم الحديث عنها هى "غياب الحكم الديموقراطي" الحقيقي الذي يضمن للجميع فرصاً متساوية, والذي تتصارعُ فيه الرؤى والتيارات وفقاً لقواعد دستورية تجعل الشعب هو الفيصل في إختيار حاكمه. غياب هذا النوع من الحكم – وليس شيئاً سواه - هو الذي يزيد من حدة الصراع السياسي و هو الذي أدَّى لتمزيق البلد.
في إجابتهِ على سؤال الإستاذ مالك عن ضرب الإنقاذ للأحزاب الوطنية وتمزيقها قال الدكتور بهاء الدين : ( أنا متأكد إنك اذا سألت الانقاذيين وحتى المتشددين سيعترفون بأن تلك الفترة شابها العديد من الأخطاء ليس داخلياً ولكن حتى خارجياً. لا أحد يستطيع أن يدافع عن سجل الإنقاذ فيما حصل مع السودانيين وحتى مع العالم في الفترات الماضية).
وهى إجابة في غاية الجُرأة والشجاعة والصدق مع النفس. ولكنها للأسف الشديد لا تروق لقياداتٍ في الإنقاذ نفسها. قيادات ظلت تدافع عن سجل الإنقاذ في كل الأحوال والأوقات. وهاهى تبشر مُعارضيها السياسيين بجمهورية الإنقاذ الثانية, وهى الجمهورية التي ستتمُ فيها – بحسب نائب رئيس الجمهورية - مُواجهة المتطاولين على نهج الإنقاذ وعلى رئيسها ( بالقطع بالسيف).
لا جديد إذاً يا دكتور بهاء الدين تحت شمس الإنقاذ.